ما تجاهله وزير التعليم العالي!
الإثنين، 24 ديسمبر 2018 05:54 م
في جلسات السمر مع بعض الأشخاص الذين لا يعرفونني عن قرب، ولا يعلمون شيئًا عن دراستي، كنتُ «أنخع» عليهم، وأزهو بينهم، أو أتعالى عليهم، وأخبرهم بأنني كنتُ من أوائل الثانوية العامة بالقسم «الأدبي»، وإنني رفضتُ دخول كلية الطب- كما كان يريد أهلي- وفضلتُ عليها الالتحاق بكلية دار العلوم لولعي باللغة العربية وعلومها وفنونها، ورغبتي في تعلم الشريعة والفلسفة الإسلامية، والتاريخ الإسلامي!
كنتُ أعتمد في «نخعي» على طيبة وبساطة مَنْ أمامي، أو على ثقتهم في شخصي، أو مستغلًا جهلهم؛ بهدف «التسلية».. إذ لم يكن أحد منهم يتشكك في كلامي، ولا يفطن إلى استحالة التحاق أي طالب ثانوي في القسم الأدبي بكلية الطب البشري، ولا حتى البيطري.. فاللأدبي كلياته، وللعلمي كلياته.. ولمكتب التنسيق القول الفصل.
ويبدو أن الدكتور خالد عبدالغفار، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، أراد أن يقلدني و«ينخع» على المصريين؛ فارتدت سهام «النخع» إلى صدره، لا لشيء إلا بجهله بفنون «الفشر»، ولمن «يفشر»، ومتى «يفشر»، وما المقادير المناسبة لـ«الفشر»، وأيهما أفضل، «الفشر الطازج» أم «المجمد»؟ كل ذلك تجاهله الوزير وهو يدلي بالتصريح القنبلة، بأن «كلية الصيدلة بجامعة القاهرة أفضل من مثيلاتها بجامعة السربون»!
الدكتور عبد الغفار، قال في مداخلة هاتفية مع أحد البرامج الفضائية: «كلية الصيدلة بجامعة القاهرة حصلت على ترتيب متميز بين الـ101: 150 جامعة، وأنها احتلت نفس الترتيب مع جامعة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، وماكماستر في كندا، وجنيف في سويسرا.. وأنها تقدمت على السوربون في فرنسا، وبيرن في سويسرا»!
نعم، الوزير قال ذلك، ربما كان تصريحه «زلة لسان»، وما أكثر زلات لسان وزرائنا.. وربما كان ناسيًا أو متناسيًا، أو جاهلًا أن السوربون التي درس فيها الدكتور طه حسين، وشيخ الأزهر الراحل الدكتور عبد الحليم محمود، وأستاذ القانون ومؤسس الدساتير العربية عبد الرازق السنهوري، والدكتور عصمت عبد المجيد، الأمين الأسبق لجامعة الدول العربية، وبطرس غالي، الأمين الأسبق للأمم المتحدة.. لا تدرس إلا العلوم الإنسانية، والفنون، واللغات والآداب، ولا علاقة لها من قريب أو من بعيد بالعلوم العملية، كالطب والصيدلة، والهندسة..!
ربما أراد الوزير أن يزف البشرى للقيادة السياسية، فكان كالذي أخبر والده بأنه حصل على المركز الأول في الامتحان، وعندما سأله أبوه عن أصحاب المراكز التالية، اخبره بأنه كان في الامتحان بمفرده!
وبعيدًا عن حكاية السوربون، فإن وزير التعليم العالي، الدكتور خالد عبد الغفار، قال إن مصر من أولى الدول في البحث العلمي، وإنه منذ توليه الحقيبة الوزارية، كان لديه تكليف رئاسي واضح بالاهتمام بالبحث العلمي، وتحقيق مركز متقدم بالتصنيف العالمي، موضحًا حصول الجامعات المصرية على مراكز متقدمة بتصنيف شنغهاي لعام 2018.
الوزير ذكر أن التقارير العلمية العالمية التي نشرتها مجلة نيتشر الأمريكية، أفادت بأن مصر وباكستان على قمة الدول المعنية بالبحث العلمي في 2018، من حيث مستوى وعدد الأبحاث.. وأن مصر تصدرت تصنيف البحث العلمي، متقدمة على دول كثيرة مثل الصين وهونج كونج والبرازيل وإيران.
ما دون «ورطة» صيدلة السوربون، فإن تصريحات الوزير «المتفائلة» صحيحة، والتصنيف الذي ذكره صحيح، ومنشور على الموقع الإلكتروني لتصنيف شنغهاي.. لكن مَنْ قال إن مصر تحيا فقط بالتصنيف المتقدم.. وماذا تفيد المراكز الأولى ما دامت الأبحاث العلمية وبراءات الاختراع حبيسة الأدراج عندنا، ويتحكم في نوابغ المصريين- في شتى المجالات- عصابة من الموظفين الذين يعطلون المراكب السائرة، ويتلذذون بعرقلة الابتكارات وتطفيش المبتكرين إلى خارج البلاد؟!
مَنْ قال إن التصنيف وحده هو الذي سيحقق لنا الطفرة التي ننشدها، بينما نحن نرى الميزانية المتدنية المرصودة للبحث العلمي في مصر، والرواتب الهزيلة لأعضاء هيئة التدريس، والتي قد لا ترقى إلى الراتب الذي يحصل عليه السجين ويصل إلى 6 آلاف جنيه؟
إذا كان وزير التعليم العالي من حقه أن يقيم الأفراح لبتصنيف شنغهاي، فيجب عليه أن يخبرنا عن الأسباب التي دفعت وزارته لعدم مساندة الجامعات التي طلبت زيادة ميزانيتها، بل خفضت ميزانية بعض الجامعات، وفقًا للدكتور محمد كمال، الذي أكد أنه يمتلك الإحصائيات الخاصة بهذه الجزئيات.
إن المغالاة في الاحتفاء بتصدرنا تصنيف شنغهاي 2018، يذكرنا باحتفاء حكومة نظيف في العهد المباركي بالأرقام الصادرة عن البنك الدولي، ووكالات التصنيف الائتماني العالمية، والتي كانت تشير إلى تحسن الاقتصاد المصري، بينما كان المواطن يعاني أشد المعاناة، وكانت معدلات التضخم، والبطالة، والفقر تتزايد.. تمامًا كما يحدث الآن على أرض الواقع.. فأيهما نصدق، التحاليل أم العليل؟!
نحن نرجو ونأمل أن تكون كلياتنا، وجامعاتنا، ومدارسنا، على رأس قائمة التصنيفات العالمية المتعلقة بالعملية التعليمية.. لكن في الوقت ذاته يكون هذا التصنيف يسير جنبًا إلى جنب مع الجانب العملي، والتطبيق على أرض الواقع؛ ليعود البحث العلمي بالنفع على المصريين، ولنحصد ثمار ما ابتكرته عقول ابنائنا، بدلًا من سياسة استسهال الاستيراد على التصنيع المحلي، وبدلًا من استهبال بعض المسؤولين عن البحث العلمي، وضلوعهم في تطفيش مخترعينا ومبتكرينا.. أليس كذلك؟!