هل مهنة المحاماة حرام أم حلال؟.. «القضاء الواقف» بين قواعد المهنة و«مخالفة الضمير»
الخميس، 13 ديسمبر 2018 08:00 ص
العمل في المحاماة حرام أم حلال؟..سؤال يطرح نفسه بصفة مستمرة عند الكثير من الناس ليس ذلك فقط بل أن العديد منهم يفتى أن العمل بالمحاماة «حرام»، وذلك نظراَ لنصرة الظالم على المظلوم، وهل أيضاَ المشكلة في الإنسان الذي يمارس المهنة وهل فقدان ضمائر بعض المحامين في الدفاع عن الحقوق لطمس الحقوق واهدارها لدى الكثيرين جعل طريق المحاماة محفوفا بالمخاطر مع أن المحاماة مثل أي عمل يوجد فيه الحلال والحرام.
فى التقرير التالى «صوت الأمة» رصدت تلك الأزمة من حيث كيفية قدرة المحامى فى التوازن بين مهنته كمحامى فى تطبيق قواعد قانونية ممكن تكون بيها بتنصر ظالم على مظلوم وبين ضميرك كإنسان، وهل فكرة من يتعامل بـ«المبدأ» لن يستطيع - كما يقول البعض - «ياكل عيش»، وذلك بحسب الخبير القانونى والمحامى محمود طاهر.
السؤال على هذه الصورة خطئ لما يوحى أن الأصل فى المحاماة مخالفة الضمير، وذلك بالقطع غير صحيح، كما هو خطئ أيضا لما فيه من مظنة أن القواعد القانونية التى هى مجال عمل المحامى لابد وأن تخرجه عن ضميره الإنسانى،، وذلك قطعا غير صحيح فضلا عن أن هذه القواعد هى مجال عمل المحامى والقاضى على السواء بل الأخير هو الذى ينزلها منزلة الحكم والقضاء – وفقا لـ«طاهر».
المحاماة ليست دفاعاَ عن الجانى فقط
ومن الخطئ الذى وقع فيه السائلين فى هذه الإشكالية حصره للمحاماة وأعمالها فى الدفاع الجنائى، وذلك غير صحيح ولا يستقيم مع حقيقة أعمال المحاماة، حيث أنه بالعودة إلى دور المحامى فى «الدفاع الجنائى» فالأصل فيه الضمير، لأنه إما أن يكون مدافعا كى لا يدان برئ أو يكون دفاعه كى لا يدان انسان بغير ما اكتسب، أو أن تكون العقوبة المقدرة هى العقوبة القانونية المستحقة للفعل المقترف، حتى حين دفاعه عن فاعل الإثم، فذلك ليس دفاعا عن الإثم بل هو فى الحقيقة يصنع الشرعية لعقابه، ويرفع مظنة الجور عليه..هذا هو الأصل فى المحاماة فى شقها الجنائى والاستثناء يحدث من قلة لا يصح القياس عليهم – الكلام لـ«طاهر».
ثم ألا يعلم السائلين عن هذا الأمر أن على بن أبى طالب رضى الله عنه دافع عن متهمة بـ«الزنا» وكان محاميا لها؟، بل أكثر من ذلك ألا تعلم أن القرآن الكريم كان هو المدافع عن يهودى متهم بالسرقة؟، أفلا تعلم أن آيات الله المحكمات هى دفاع سيدة اتهمت زورا وافكا؟.
وبيان ذلك على الآتى:
جئ بمرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله متهمة بـ«الزنا»، فاستجوبها الفاروق، فأقرت واعترفت..فأمر بعقابها لما فعلت، وقد ثبت عليها الجرم بالاعتراف منها - عندها وقف على رضى الله عنه موقف المحامى، وقال للفاروق دعنا ننظر فى أمرها ونستبين قصتها، ثم سأل المتهمة ما دفعك لهذا، وما حملك عليه؟
على بن أبى طالب محامى الزانية
أجابت المرأة، والله لقد جف نبع الماء عندنا، وماتت ماشيتنا وليس لى إلا أمى وقد كدت أنا وهى نموت من المخمصة والعطش والصحراء قاسية، وكان لنا جار عنده الماء والسقيا، فطلبت منه المعونة فأبى، حتى إذا كان هلاكنا واقع لا محالة جاء فعرض أن يمنحنا السقيا والماء فى مقابل نفسى وقد أبيت عليه من قبل مرارا، ولم أملك اليوم إلا الإذعان والقبول، فقال على بن أبى طالب رضي الله الله أكبر قد جعل الله لها مخرجا..قال الفاروق وما المخرج؟ قال على رضى الله عنه قوله تعالى: «ومن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه»، والله أنها مضطره فخلى سبيلها...فأمر الفاروق بإخلاء سبيلها واستقدام جارها الذى أحوجها للاثم – هكذا يقول «طاهر».
القرأن دفاع متهم بالسرقة
أما دفاع القرآن عن متهم بالسرقة، فذلك فى سورة النساء، إذ يروى أن أحد المسلمين سرق درعا لغيره وخبئها فى بيت يهودى، رجل يقال له «طعمة ابن أبيرق» وفي رواية «بسير ابن أبيرق» وهو مسلم من إحدى قبائل الأنصار من بني أبيرق سرق درعًا من جارٍ له مسلم يقال له «قتادة بن النعمان»، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، فعندما حملها أخذ الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى دار يهودي يدعى «زيد بن السمين» فخبأها، فالتُمِسَتِ الدرع عند «طعمة» فحلف بالله ما أخذها، فقال أصحاب الدرع لقد رأينا أثر الدقيق في داخل داره فلما حلف تركوه.،، واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فوجدوا الدرع عنده، فقال اليهودي دفعها إليَّ طعمة بن أُبيرق، فجاء بنو ظفر وهم قوم طعمة إلى رسول الله، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم، فهَمَّ رسول الله أن يعاقب اليهودي معتقدًا أنه السارق لوجود قرائن ضده، ولكن الوحي نزل بخلاف ذلك فأنزل الله هذه الآيات من سورة النساء «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا* وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا* وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا».
القرأن محامى يهودى
فظاهر الأمر أن اليهودى هو السارق هو أقرب للمظنة، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام مال إلى ما تمليه هذه القرائن البادية، فكان وحى الله إليه دفاعا عن المتهم البرئ ومحاميا عنه وتلك لعمرى هى المحاماة فى حقيقة جوهرها وأساس وجودها، وكان القرآن الكريم هو دفاع ومحامى ام المؤمنين عائشة رضوان الله عليها وفيه البراءة لها من الافك الذى رميت به
المحاماة هى رسالة الشرف
يُضيف «طاهر»: لقد قدر الله لى أن أقرأ عن القضاء فى الإسلام، واطلعت على بعض الأقضية التى عرضت على النبى- صلى الله عليه وسلم- وعلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وكذلك أقضية على بن أبى طالب وبعض القضاة المشهورين فى التاريخ الإسلامى ومع إنبهارى بما قرأت، وانبهارى لحرص الإسلام على العدالة، وانبهارى بفراسة وفهم القضاه المسلمين مع ذلك كله تكون لدى يقين بأن المحاماة ضرورة وليست ترف، ومن خلال ما قرأته عن القضاء الإسلامى عرفت أخلاق المحاماة ورسالتها .
المحاماة هى رسالة الشرف وعمادها المروءة والإيثار والشجاعة والنجدة ومقوماتها إلاخلاص والتضحية، وهى ضمانة الحق وسياج الحرية وصدق من قال أن المحاماة اليقظة الواعية هى جيش الحق وضمانة الحرية، والذين يحسبون المحاماة ترفا يمكن الإستغناء عنه أو يجوز أن يتأخر فى ترتيب الأولويات يخطئون بل يأثمون، والمحاماة بحق ضرورة عصرية ملحة من أجل الحفاظ على حقوق الناس ومن أجل حرياتهم وكى لا يدان إنسان بغير ما اكتسب – طبقا لـ«طاهر» .
فإن القاضى وحده يعجز عن تحقيق العدالة، وإن كان حسن القصد، يبتغى العدل إلا أنه سيخطأ لا محالة فى تحقيق العدالة، وهذه حقيقه عقلية لا مراء فيها بل لا أجد حرجا إن قلت أنها حقيقه ثابتة شرعا وعقلا حيث يقول : صلى الله عليه وسلم – «إنكم تختصمون لدى، وإنما أنا بشر، ولعل أحدكم يكون ألحن بحجته من اخيه فاقضى له، فمن قضيت له من حق أخيه شىء، فإنما هى قطعة من النار فليأخذها أو يتركها»، والشاهد من الحديث، وما يتعلق بموضوعنا : أنه قد يضيع حق على صاحبه ليس لشىء، ولكن لأن صاحب الحق ليس لديه مكنة الدفاع عن حقه، وليس له من المؤهلات ما يعينه، ويكون الطرف الأخر ألحن بالحجة، والسؤال هنا أليس مثل هذا الشخص يحتاج الى محامى كى يدافع له عن حقه، وكى يواجه الحجة بحجة مثلها، فيحافظ لصاحب الحق على حقه، ويحول دون أن يحكم القاضى للطرف الأخر الذى ليس له الحق؟ .
وهذه حقيقة لا تخفى على أحد، فكثيرا ما يكون صأحب الحق ليس لديه مكنة الدفاع عنه، فقد يكون ضعيفا وخصمه قويا، وقد يكون ذا علم محدود وخصمه عليم، وغير ذلك من الأسباب، ولترك الأمر هكذا لضاع على الناس حقوقهم، ذلك لأن حكم القاضى سيكون للطرف الأقوى حجة، وإن لم يكن هو صاحب الحق، ومن ثم فإن القاضى فى إنزاله النصوص على الوقائع المعروضة عليه، إنما يحكم وفق ما يسمع، أوبناءا لما قدم له من أدلة وقرائن، فهو يحكم بمقتضاها، ورغم قصده أن يحقق العدل إلا أن حكمه قد يجىء ضد الحقيقة ويقرر حقا لمن ليس له حق، وهنا يتجلى دور المحامى، إذ يفند الوقائع ويناقش الأحكام، فيصبح الحكم عنوان للحقيقة – هكذا يقول «طاهر» .
داود وسليمان فى القضاء
وذلك يؤكد على ضرورة وجود المحامى قد يزود عن صاحب الحق، ويبصره بما يفعل، الأصل فى القضاء أنه فهم أكثر من كونه مجرد علم، وعلى هذا الأساس كان يتم إختيار القضاه فى الإسلام، قال رجل لأياس بن معاوية علمنى القضاء..قال إن القضاء لا يعلم إنما القضاء فهم، ولكن قل علمنى العلم، وهذا هو سر المسألة فإن اله تعالى يقول «وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين "78" ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما ..» "79 "، فخص الله سليمان بفهم القضية، وعمهما بالعلم.
وكذلك كتب عمر بن الخطاب الى قاضيه إبى موسى فى كتابه المشهور: « ... الفهم الفهم فيما إدلى اليك ....»، وهذا عمر – رضى الله عنه- جاءت إليه إمرأة فشكرت عنده زوجها، وقالت هو خير أهل الدنيا يقوم الليل كله حتى الصباح، ويصوم النهار حتى يمسى ثم أدركها الحياء، فقال زوجها جزاكى الله خيرا قد أحسنتى إلينا .
فقال كعب بن سور: يا أمير المؤمنين قد ابلغت إليك الشكوى، قال وما اشتكت قال كعب اشتكت زوجها، قال عمر على بها، وقال لكعب اقضى بينهما، قال كعب اقضى وأنت شاهد « أى حاضر»، قال عمر نعم فانك فطنت إلى مالم أفطن إليه، فقضى كعب بينهما، وقال للزوج صم ثلاثة أيام وأفطر عندها يوم وقم ثلاث ليالى وبت عندها ليلة .
وعلى هذا كان القاضى متمتعا بالفهم فى الواقع والإستدلال بالأمارات وشواهد الحال، غير أن هذا الأمر فات كثيرا من القضاة فضيعت الحقوق، خاصة فى عصرنا الحالى إذ إن إختيار القضاة يخضع لمعايير مختلفه وإن روعى فى إختيارهم الكفاءه إلا أن تلك الكفاءة ليست قائمة على إختيار الفطن ذو الفهم والفراسة، بل لها إعتبارات أخرى، وتحول القضاء فى عصرنا إلى علم بل عده البعض أنه وظيفة، ولما كان هذا هو الواقع المعاصر هنا يبرز دور المحامى فهو من يحقق للقاضى الفهم الصحيح، ويجلى له الحقيقة، بل أستطيع أن أقول أن المحامى هو المنوط به فى عصرنا أن يكون متمتعا بذلك الفهم الذى كان يتم إختيار القضاه على أساسه فالمحامى هو أول حكم فى القضية .
ولقد قام على- رضى الله عنه- فى كثير من الأقضية التى عرضت على عمر- رضى الله عنه- بدور المحامى، أو بمعنى أخر قام بالدور الذى يجب على المحامون اليوم أن يقوموا به، وسنذكر بعضا منها ولكن بعد أن نذكر واقعة حدثت على عهد النبى – صلى الله عليه وسلم – قال النسائى: أن إمرأه وقع عليها رجل فى سواد الصبح وهى تعمد الى المسجد بمكروه على نفسها فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها «الفاعل»، ثم مر عليها جماعة من الناس «ذو عدد»، فاستغاثت بهم فأدركوا الرجل الذى استغاثت به، فأخذوه وفر الآخر «الفاعل الحقيقى» فجاؤا به يقودونه إليها فقال أنا الذى أغثتك، والآخر ذهب فأتوا به إلى النبى فأخبرته، بأنه وقع عليها وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد «يجرى فارا»، فقال إنما كنت اغيثها، فأدركنى هؤلاء فأخذونى، فردت المرأة وقالت كذب هو الذى وقع على، فقال صلى الله عليه وسلم : انطلقوا به فارجموه، فقام رجل فقال لا ترجموه وارجمونى فأنا الذى فعلت بها الفعل، فاعترف بذنبه وأقر، وكان إعترافه دليل توبته، ومن ثم درء عنه الحد .
وهذه الواقعة وإن كان يتجلى فيها بوضوح أن الإسلام تواقا لدرء الحدود، ويعتد بتوبة المتهم لرفع العقوبة عنه، وأنه ليس فى الإسلام اسراف فى إنزال العقاب بل تدرأ الحدود بالشبهات، بالإضافة إلى أنه يتجلى منها أمرا مهما يتعلق بموضوعنا الذى نحن بصدده، إذ إن شخصا إتهم بما لم يفعل وإجتمعت الأدلة كلها ضده، فحكم علية بالعقوبة المقررة للجريمة التى اتهم فيها، ولولا اعتراف الفاعل الأصلى لطبق عليه العقاب وفى عصرنا هذا تتكر مثل هذه الوقائع، فكثيرا ما تجتمع الأدلة ضد شخص برىء غير أن النادر أن يحدث هو أن يأتى الفاعل الحقيقى للجريمة، فيعترف بما افترفته يداه ويبرأ ساحة المتهم البرىء مما نسب إليه، وهنا يتجلى دور المحامى كى يدافع عن هذا الشخص الذى إتهم بما لم يفعل ويثبت براءته، ويبين للقاضى أن هذه الأدلة المجتمعة ليست دليلا على الحقيقة.
وهذا ما فعله على رضى الله عنه عندما إتهمت أحدى النساء شابا من الشباب بأنه إعتدى عليها، ورتبت من الأدلة ما يثبت التهمة عليه، حتى أن عمر – رضى الله عنه – قضى بانزال العقوبة عليه، مما جعل الشاب يستغيث ويقول يا أمير المؤمنين تثبت فى أمرى، إنما هى من راودتنى فلما استعصمت كادت لى، فتدخل على - رضى الله عنه - وأثبت أن ما قدمته من أدلة تدين الشاب ماهى إلا أدلة مصطنعة تثبت كذبها هى «وهذا بلا شك دور المحامى».
ومن قضايا على- رضى الله عنه – أنه أتى برجل وجد فى خربة بيده سكين متلطخ بدمه، وبين يديه قتيل يتشحط فى دمه، فسأله فقال أنا قتلته، فقال على رضى الله عنه إذهبوا به فاقتلوه، فلما ذهبوا «للقصاص منه» أقبل رجل مسرعا وقال ياقوم لا تعجلوا ردوه إلى أمير المؤمنين على فردوه، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين أنا القاتل وليس هذا .
فقال على - رضى الله عنه- للأول ما حملك على أن قلت أنا قاتله ولم تقتله أنت ؟ قال : يا أمير المؤمنين وما استطيع أن أصنع؟ وقد وقف العسس «اشرطة» على الرجل يتشحط فى دمه وأنا واقف فى يدى سكين وفيها أثر الدم، فخفت أن أقول لست أنا قاتله فلا يقبل منى فاعترفت بما لم أصنع واحتسبت نفسى عن الله، فقال على له بئسما صنعت ماهى قصتك ؟ قال : أنا رجل قصاب خرجت إلى حانوتى فذبحت بقرة وسلختها وبينما أنا أصلحها والسكين فى يدى أخذنى البول، فأتيت خربة بقربى فدخلت فقضيت حاجتى وعدت أريد حانوتى، فإذا بهذا المقتول يتشحط فى دمه فراعنى أمره، فوقفت أنظر إليه والسكين فى يدى، ولم أشعر إلا وأصحابك قد وقفوا عليا فأخذونى، فقال الناس هذا قتل، هذا ليس له قاتل سواه، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولى، فإعترفت بما لم أجنه، فقال على رضى الله عنه للآخر «القاتل» وأنت كيف كانت قصتك قال أعرابى أفلس فقتلت الرجل طمعا فى ماله، ولما أخذ رجالك القصاب وعلمت أنك يا أمير المؤمنين أمرت بقتله - قصاصا للمقتول - علمت أنى أبوء بدمه أيضا فاعترفت بالحق .
فسأل على رضى الله عنه الحسن فى الأمر فقال له يا أمير المؤمنين إن كان قد قتل نفسا فقد أحيا نفسا، والله تعالى يقول : «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»، فخلى على – رضى الله عنه – سبيلهما، وأخرج دية المقتول من بيت المال .
وهذه الواقعة أيضا على ما فيها من روائع سنأخذ منها ما يتعلق بموضوعنا فالشاهد أن الرجل رغم أنه ليس هو القاتل ،إلا أنه اضطر لأن يعترف على نفسه بما لم يفعل، لأن كل الأدلة إجتمعت عليه كما أن الناس ذهبت الى القول بأنه هو القاتل ،حيث وجد فى مسرح الجريمة وبيده السكين «الآداة» وبين يديه قتيل ما زال فى دمه، فجاء حكم القاضى «على رضى الله عنه»، بإنزال العقوبة المقررة للجريمة التى ارتكبها عليه، وما أنقذه إلا إعتراف الفاعل الحقيقى.
الحسين يتولى الدفاع
ونلاحظ أن ما قام به الحسن - رضى الله عنه – هو أيضا عمل من أعمال المحاماة إذ إنه لفت نظر القاضى «أمير المؤمنين على» إلى نص آخر واجب التطبيق على هذه الواقعة، إذ كان ينبغى للوهلة الأولى أن يطبق العقاب على القاتل الحقيقى الذى جاء واعترف بما فعل، غير أن الحسن، أوجد له مخرجا يدرأ عنه العقاب نظير توبته التى ظهرت من اعترافه، فلفت نظر على- رضى الله عنه- إلى نص ىخر يمكن أن يحكم الواقعة .
وتدبر بوعيك هذه الواقعة واستخرج ما فيها من روائع، وتعرف من خلالها على دور المحامى ورسالته والأخلاق التى يجب ان يجب أن يكون عليها المحامى .
على رضى الله عنه محاميا
ذكر أن عمر رضى الله عنه أُتى بامرأة زنت وأقرت بذلك فأمر برجمها، فقال على- رضى الله عنه- لعل لها عذر، ثم قال لها ماحملك على ما فعلتٍ، قالت كان لى خليط «شريك» فى إبله ماء ولبن، ولم تكن فى إبلى ماء ولا لبن فظمئت فاستسقيته، فأبى أن يسقينى حتى أعطيه نفسى فأبيت عليه ثلاثاً فلما ظمئت وظننت أن نفسى ستخرج أعطيته الذى أراد فسقانى .
فقال: على - رضى الله عنه- الله أكبر «فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه»، الشاهد من الواقعة أن عمر – رضى الله عنه - حين أقرت المراة بأنها وقعت فى الفاحشة قضى بتطبيق العقوبة عليها ،وفقا للنص الذى يقضى برجم الزناة، غير أن على رضى الله عنه تدخل ليلفت نظر عمر رضى الله عنه إلى النظر الى القضية بكل ظروفها وملابساتها، إذ أنه رغم الإعتراف الصادرمنها ورغم ثبوت وقوع الجريمة منها إلا أنه قد يوجد مانع يحول دون عقابها، أويكون ثمة شىء حملها على أن ترتكب الجريمة «وهو ما يعرف حديثا بمصطلح المجرم بالصدفة».
وذلك هو عين الدور الذى يجب أن يقوم به المحامى، فهو ينتصر للحق، ويعمل على تطبيق القانون وفق ما يحقق الغاية من التشريع، فليست العدالة مجرد اسقاط نصوص على وقائع بل هى تطبيق القانون تطبيقا يحقق الغاية من تشريعه، وفى السنن للبيهقى عن عبد الحمن السلمى «أُتى بامرأة أجهدها العطش فمرت على راع، فاستسقت (طلبت السقيا) فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت، فشاور عمر الناس، فى رجمها، فقال على – رضى الله عنه – هذه مضطرة أرى أن تخلى سبيلها، ففعل عمر رضى الله عنه.
هذه الوقائع وغيرها كما تبين لنا بجلاء عظمة القضاء فى الإسلام، وهى أيضا نستقرأ منها قيمة المحاماة، ودور المحامى، كما تتجلى لنا أخلاق المحاماة وغاية رسالتها، فما حيلة من أخذ ظلما واجتمعت عليه الأدلة، واجتمع الناس عليه، وما حيلة ضعيف الحجة، والأول قد يضطر الى أن يعترف على نفسة بما لم يفعل كما فعل القصاب، وأن أنكر أنه ارتكب الجرم قد لا يجد دليلا يبرأ ساحته ويعجز عن أن ياتى بدليل، والثانى قد يأخذ منه حقه بحكم القضاء لا لشىء إلا أنه لا يملك مكنة الزود عن حقه، وخاصة أننا فى زمن لا يبالى الإنسان كسبه من حلال أم حرام، فتجد شخصاً أخذ ما حكم القضاء له به من حق أخيه رغم أنه قطعة من النار كما أخبر النبى – الكلام لـ«طاهر» .
ولأننا أيضا فى زمن قل أن تجد فيه من ارتكب جرما يذهب طواعية كى يعترف بالحق، ويبرأ ساحة من اتهم ظلما، كل ذلك يجعلنا نتأكد من أن المحاماة ضرورة وليست مجرد ترفيه، بل هى دعامة حقيقية للعدالة لا تقوم الا بها، يقول- صلى الله عليه وسلم- «من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام»، وهذا الحيث الشريف يحمل بشارة خير لمن يعمل بالمحاماة إن هو أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها تخلق بأخلاقها .
مما سبق يمكن أن أقول أن المحاماة: انتصار للحق، دفاع عن مظلوم، حيلولة دون أن يدان إنسان بغير ما اكتسب، هى العمل على تحقيق غايات التشريع، ومقاصده، وقد توهم البعض أن البراعة فى المحاماة تكون بالقدرة على قلب الواقع وتمويه الحقائق، ذلك توهم فاسد لأن الصدق أساس المحاماة وحليتها وكلما كان المحامى صادق اللهجة، شريف النزعة، كان أثره محمودا، ونجاحه مضمونا، ولا ينبغى للمحامى أن يؤجر ذمته لموكله أو أن يقف من القاضى موقف العامل على إنكار الحق وإظهار الباطل بل يجب أن يقف موقف الباحث عن الحقيقة، المنير للعدالة.