نقطة نظام
فستان "رانيا".. والتنويريون الجدد
الإثنين، 03 ديسمبر 2018 02:03 م
انتفض أحدُهم غاضباً وساخطاً ومُزمجراً ضد "رانيا يوسف" بسبب فستانها الذى ظهرتْ به فى ختام النسخة الأربعين من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، فقاطعه آخرُ بلهجةٍ ساخرةٍ قائلاً: "أحزنتنى كثيراً، فقد كنتُ أعتقدُك تنويرياً!!"، فعقَّبَ ثالث مُندهشاً: "وما علاقة هذا المسلك الفاضح بالتنوير؟".. وظلَّ هذا "السجال" مُحتدماً، على مواقع التواصل الاجتماعى، حتى تحوَّل إلى "تلاسُن"، وكأننا انتهينا من جميع مشاكلنا وأزماتنا التى لا تُعدُّ ولا تُحصى، سواء داخلياً أو خارجياً.
..هكذا حرَّك "فستان رانيا" مياهاً كانت راكدة، وعرَّى عقولاً كانت خاملة، وأنطق ألسنة كانت صامتة، والمرء مخبوءٌ تحت لسانه، فإذا تكلم ظهر. دعنا نتفقْ على أن أكثر من اصطفوا للدفاع عن الممثلة المذكورة وفستانها المكشوف يحسبون أنفسهم على ما يسمونه "تيار التنوير"، وهم من يقودون فى الوقت نفسه، منذ سنوات، حملة الهجوم على الأزهر الشريف وشيخه الإمام الأكبر، ويُحرضون على تفكيك الثوابت الدينية، ويتضامنون مع أية دعوةٍ ضالةٍ تصطدم مع صحيح الدين وتنحرف عن الخلق القويم.
شخصياً.. كنت أفهم "التنوير" انطلاقاً من التعريف الذى وضعه "إيمانويل كانط"، وهو: " التنوير يعنى خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيهٍ من إنسان آخر" . مُعتبراً أنَّ "تكاسُل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير أدى من جهةٍ إلى تخلفهم ، ومن جهةٍ أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم ، وذلك بسبب عامل الخوف فيهم".
تعريف "كانط" لمفهوم "التنوير"، وغيره من الفلاسفة والمفكرين المُتقدمين، لا يواكبُ ما يُحرِّض "التنويريون المصريون" عليه، من إشاعة حالة من الفوضى والابتذال والتدنى الأخلاقى على جميع المستويات، وهم بذلك لا يقلون تطرُفاً عن غيرهم ممن يعتنقون الأفكار المتشددة، ويحملون السلاح. التنويرى المتطرف مثل الإرهابى المتطرف، تختلف المقدمات والمعطيات وتبقى النتيجة واحدة.
لقد حظيتْ مصرُ، فى فتراتٍ سابقةٍ، بتنويريين، بعضُهم كان من داخل المؤسسة الدينية نفسها، وكثيرٌ منهم من خارجها، ارتكزتْ دعوتهم على التمرد على القديم، وتحرير العقل من الجمود، والتحريض على التفكير، وعدم الاستسلام إلى ما أنتجه الأولون، ولكنهم لم يكونوا دُعاة إلى التدنى والابتذال، فنالوا الاحترام من الجميع، مَنْ اتفقوا معهم ومَنْ اختلفوا، وبقى إنتاجُهم الفكرى، حتى يومنا هذا، شاهداً على عقولٍ ناضجةٍ سبقتْ عصرها، ومُلهماً لعقولٍ شابةٍ ترفض الخضوع للأوهام والخرافات.
الذين يقودون "منتخب التنوير" فى مصر حالياً أخطأوا مرتين، الأولى: عندما حسبوا أنفسهم زوراً وبهتاناً على تيار فكرى وعقلى بامتيازٍ، فى الوقت الذى تجردوا فيه من جميع مقومات التفكير السليم. والثانية: عندما ظنوا أن "التنوير" هو مُرادف للقبح بصوره كافة. "التنوير" الذى يدعو دوماً إلى أفكار التقدم والعقلانية ويؤكد على أولوية الانسان وحريته واستقلاله، لا يهدف إلى خلق مجتمع فوضوى تسكنه الرذائل، وتشيع فيه الفواحش، وتتعرى فيه النساء، ويتبادل فيه الأزواج زوجاتهم!!
التنويريون الجدد ليسوا مُخصلين لمنهج التنوير، ولكنهم مُخلصين أشدَّ الإخلاص لمبدأ: "خالف تُعرف"، فإذا اتجه المجتمع يميناً، اتجهوا شمالاً، وإذا تحرَّك شمالاً تحركوا يميناً، تحكمهم وتقودهم شهوة الاختلاف، بضاعتُهم بائرة أتلفها الهوى المريض، وهو ما يجعلهم دائماً وأبداً موضع اتهام ومثار جدل.
إن إطلالة سريعة على مقالات هذا التيار، التى تملأ الصحف الورقية والألكترونية، تؤكد أن أياً منهم لا يدعو إلى خير، فهذا يعتبر غمزه فى الأنبياء "إنجازاً"، وذاك يرى فى لمزه فى كتب السماء "بطولة"، وهذه تدعو إلى تمكين المرأة من الجمع بين أربعة أزواج، وتلك تُصفق لظاهرة "سنجل مازر" وتطالب بتعميمها، وما خفى كان أعظم. إن مصر التى تخلصتْ من التيارات المتشددة وتمكنت من تجفيف منابعها، تحتاجُ أيضاً إلى التخلص من هذه الفئة الضالة المضلة، فلا خيرَ فى تنويرىٍّ مُتطرفٍ، ولا دينىٍّ متطرف، كلاهما عبءٌ على الحياة.