حوار.. بدلاً من الشجار!
الإثنين، 26 نوفمبر 2018 05:19 م
الاختلاف شيء طبيعي بين العلماء والعلماء، وبين الأمراء والأمراء، وبين العلماء والأمراء، وما يحدث في مسألة تجديد الخطاب الديني مجرَّد اختلاف حول ضرورة إنجاز الأمر سريعًا، وتجديد الخطاب الديني الصحيح، بقيمه وغاياته وثوابته الشرعية ودعاته العلماء المُثقفين.
هذا الترتيب مجرّد اختلاف إيجابي على الأداء والوسائل، وليس خلافًا على المضمون والثوابت والغايات، ولا على مكانة الإسلام في الدولة المصرية، هوية وتشريعًا وقيمًا إنسانية نبيلة، ولا على دور الأزهر الوطني والعلمي كمنارة إشعاع مصرية.
غير أن هناك جانبًا من بعض الجماعات المُتطرّفة دينيًّا، أو لا دينيًّا، يستغلون كلام القيادات الدينية؛ للتطاول على قيمة وقامة الطرفين، كمدخل خبيث وشرير لمحاولة الوقيعة بين مؤسَّسات الدولة، أو إشاعة الفتنة بين المصريين، بما يخدم أغراضهم الشريرة في الإساءة للوطن والدين!
لولا الاختلاف ما كان الحوار، ولولا الحوار ما تحقق الفهم والتفهم والتفاهم والائتلاف، فلا ائتلاف بغير اختلاف، وما ليس طبيعيًّا هو الخلاف الذي يُحاول المُغرضون والمرضي افتعاله، وليس الاختلاف نفسه. لكن كيف يتعامل العلماء والمُفكِّرون والمُثقفون مع الإشكاليات والمسائل الفكرية المختلفة التي تطرح نفسها على الساحة المصرية، وتنعكس على وسائل الإعلام تارة بعمق وأخرى بسطحية؟
بعض القضايا حقيقية وموضوعية، تستهدف التطوير والإصلاح، وتتطلَّب الحوار في ندوات أو مؤتمرات علمية في رحاب جامعة كالقاهرة أو الأزهر، أو في إطار منتدى ثقافي بمكتبة الإسكندرية أو في مركز المؤتمرات الجديد. وبعضها غير موضوعية، تهدف لافتعال فتنة ثقافية أو مذهبية، أو إثارة أزمة سياسية، وتتطلَّب الردّ الموضوعي من المرجعيات الأساسية للدولة المصرية بصورة واضحة؛ لتبديد أي سوء فهم، أو تفنيد أي سوء نيّة بصورة كاشفة.
وتدور دوائر الحوار والسجال والجدل حول ثلاثة محاور أساسية، الأول هو تحديد الهوية المصرية، والثاني ترتيب الأولويات الوطنية، والثالث علاقة الدين بالدولة، وما يتفرَّع عن هذه المحاور الرئيسية من مسائل فرعية، ثقافية ودينية وسياسية، وسنتناول كل محور في مقال لاحق، إذ لا يتسع مقال واحد لهذه القضايا الكبرى.
ما يجري في مصر من حوار موضوعي بين من يملكون المعرفة والأمانة، ويتّصفون بالمسؤولية، مُستهدفين الحقيقة والصالح الوطني، نذر قليل، بينما أكثر ما يدور سجال لا حوار، تغيب فيه قواعد الحوار، ويتّسم بالتعصُّب، وينطلق من أحكام ونزعات فردية أو حزبية أو أيديولوجية مسبقة، دون خلفية معرفية كافية، وصولا إلى توجيه الاتهام ومحاولة الإدانة للمخالفين مع سبق الإصرار.
يحدث ذلك حينما يرى كل طرف أنه يحتكر الحقيقة، وأن غيره الزيف، أو أنه يمتلك الحق وغيره الباطل، في بعض المقالات الصحفية والبرامج الإعلامية والمنتديات الفكرية، بينما تهبط وسائل التواصل الاجتماعي لمستوى أدنى بنوع من الجدل لا يخلو من غرض أو مرض، ويغلب عليه الشجار، ويغيب فيه الحوار، ويتّسم بلغة هابطة، واختلافات حادة حول ثنائيات مفتعلة بغير أساس منطقي، لتبدو متضادة، بينما هي في الحقيقة قد تكون متكاملة.
هذا الحوار أحيانًا، والسجال في أحايين أخرى، والجدال غالبًا، يحدث بين فريقين أساسيين، الأول يدعو للتغريب، والثاني يدافع عن التعريب.. ويتفرع عن هذين التيارين فريقان آخران، الأول لا ديني والثاني ديني، سواء بعقل فكري واقعي مُتجدِّد، أو بنقل لا عقلاني غير واقعي مُتجمِّد، بينما بعض المسائل المطروحة يثير الاستفهام، وبعضها يثير التعجب، بعضها مُبرَّر بسوء الفهم، وبعضها مُقرَّر بسوء النية!
الأول، تيار فكري وافد غربي النشأة مادي الطبيعة براجماتي الوسيلة والهدف فقير الشعبية، يدّعي (الليبرالية)، ودليل غربيته أنه حتى لم يفطن في مجتمع عربي لترجمه الاسم الغربي إلى العربية، ويريدها دولة (مدنية) أي علمانية كدول الغرب، ليس للدين فيها موضع لا بالدستور ولا القانون، وليست للدين فيها مؤسَّسة ثقافية من مؤسَّسات الدولة، أو حتي جامعة علمية تُشكّل المرجعية الفقهية للمؤمنين، كالأزهر الشريف.
الثاني، ينتمي للثقافة المصرية ذات الجذور العربية والمنابع الإسلامية والمسيحية، ويُعبِّر عن الغالبية الشعبية الوطنية التي ترى أن الدين لله والوطن للجميع، ويريدها دولة وطنية دستورية ديمقراطية، تقوم على المواطنة، يعتز يها المسلم بإسلامه والمسيحي بمسيحيته، ودينها الإسلام بنص الدستور؛ لأنها تُعبّرعن شعب مُتديِّن عبرالتاريخ، قبل أخناتون وبعده، بشهادة أن معظم آثاره الخالدة، كالأهرامات والمعابد، هي بالأساس صروح دينية، حينما شاد أول حضارة إنسانية وأسَّس أول دولة عالمية.
بينما لم ينصّ الشعب المصري في دستوره على تلك المصطلحات غربية المنشأ، التي صيغت في ظروف تجاوزها العصر، حينما كان الغرب في ظل صراع بين سلطة دينية وسلطة زمنية، وهو صراع غير قائم في مصر، بينما نحن دولة شرقية ولسنا في الغرب، وجزء من وطن عربي كبير، شهد نزول الرسالات السماوية الثلاث في سيناء المصرية وفلسطين والشام والجزيرة العربية.
وهكذا فإن أصحاب تيار التغريب يطرحون حلولاً ظهرت لمشكلات فرنسية أو غربية، وليست لمشكلاتنا المصرية أو العربية، فيما لم يقدموا حلولاً واقعية لمشكلاتنا الوطنية، وتحدياتنا الأساسية كالتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، مُكتفين بالتلويح بشعار الديمقراطية، لكن على الطريقة الغربية!
بينما تيار التعريب يُحاول التماهي مع هوية الدولة المصرية، ويفشل أحيانًا في مواجهة محاولات الغزو الفكري والثقافي، والتطرف المذهبي الديني،ـ والتطرف العلماني اللا ديني، أو إلحاق الهزيمة الفكرية الحاسمة بالفكر التكفيري الإرهابي؛ لقصور في التسلُّح بصحيح علوم الدين، وعلوم وآليات العصر، وتكنولوجيا الاتصال والإعلام، إضافة إلى عدم تجديد الوسائل مع ثبات المبادئ والغايات، مثلما ينجح غالبُا في التعبير عن عموم التيار الوطني المصري والقومي العربي والحضاري الإسلامي، بتراثه التاريخي العميق والثقافي والإنساني العريق.
في النهاية.. بدلا من السجال أو الجدال أو الشجار، وبدلاً من حوار تغيب عنه قواعد الحوار، فإن الحلول العملية الوحيدة لكل الإشكاليات والقضايا والمسائل الفكرية تظل مرهونة بالحوار الحضاري بين المختلفين من العلماء والمفكرين والمثقفين.. يجب أن يكون الحوار بديلاً عن الشجار.. وهذه دعوة مفتوحة للحوار.