المستشار هشام الشريف.. قاضي الرحمة الذى أصبح حديث المحاكم المصرية
الجمعة، 16 نوفمبر 2018 08:00 ص
فى الواقع إن القاضى مهما تدرب وتعلم، فإن شخصيته وتداركه وفهمه للأمور يظل أهم من التدريب ذاته، وهذا ما يؤكد إعطاء القانون السلطة التقديرية للقاضى مهما توافر لديه من قرائن وأدلة، حيث إن حسه الشخصى يغلب القانون، وصدق النبى صلى الله عليه وسلم حينما قال: «أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السراء».
ومن أمثلة هؤلاء القضاة الذين اشتهروا بتحرى الرحمة والعدل هو القاضى «هشام الشريف»، أحد قضاة محكمة الجنايات، والذى كان يشغل رئيس دائرة جنح مستأنف حلوان فى فترة أواخر التسعينات، حيث عُرف عنه داخل المحاكم المصرية، أنه يمتاز بالرحمة والعلم فى نفس الوقت كغيره من قضاة مصر الأجلاء.
القاضى «هشام الشريف» اشتهر بالتزامه بآداب المنصة ووقارها ووده الدائم مع المحامين، حيث كان كل المتهمين يطمئنون لأحكامه، حتى تلك التى يحكم فيها بتأييد العقوبة، كان المتهم يخرج من القاعة راضياَ ومطمئناَ بأن هذا الحكم من هذا القاضى هو غاية المنتظر من العدل والرحمة، وفى غيرها كان يخفض الكفالات للمواطنين المعسرين، وأحيانا كثيرة يدفعها من ماله الخاص.
فى إحدى الجلسات عرضت على القاضى «هشام الشريف» قضية اهتزت لإنسانيتها جنبات محكمة جنوب القاهرة فى باب الخلق، حين نودى على اسم المتهمة «وكان لا يضع النساء داخل القفص»، وكانت تحاكم بجريمة تبديد لمبلغ فى إيصال أمانة، ودخلت المتهمة على المنصة، وكانت فى أواخر الأربعينات من عمرها، وكانت محبوسة ولم يفرج عنها، لعدم سداد الكفالة.
واللافت للنظر كان حالها الفقير وسألها القاضى «الشريف»: «أنت يا ست (فلانه) ما دفعتيش الـ7000 جنيه ليه للسيد (فلان)»، وبصوت أقرب للبكاء الخائف والمرتعش أجابته المسكينة بأن المبلغ ليس 7000 جنيه، وإنما فى حقيقة الأمر هو 1000 كانت قد استدانت بهم نظير شراء بضاعة من السيد «فلان» التاجر ووالد الاستاذة المحامية الحاضرة فى الجلسة، وأنها كانت تسدد له 60 جنيها كل شهر، لكن حدث لها ظروف منعتها من السداد، فيما رفض التاجر «فلان» الانتظار ورفع عليها الإيصال.
وفى تلك الأثناء، التفت القاضى «الشريف» للمحامية، وسألها بأدب جم وهدووء: «الكلام اللى الست بتقوله حقيقي؟»، فأنكرت المحامية معرفتها بالحقيقة، فما كان من القاضى، إلا أن نظر إلى المتهمة وسألها عن حالها، وعلم أنها أرملة، وتعمل لتربية بناتها الثلاثة فنظر لها، وقال: «هتتحل إن شاء الله»، ثم رفع الجلسة.
اقرأ أيضا: الحكيم بن الحكيم.. «يحيي بن أكثم» حرم زواج المتعة وتصدى لفتنة «خلق القرآن»
وقبل أن يدخل القاضى «الشريف» غرفة المداولة، وجه كلامه للمحامين وقال: «أنا أعلم أنكم أصحاب فضل ومروءة، ولن تتأخروا عن فعل المعروف»، وأخرج منديلا كان فى جيبه، ووضعه على المنصة، وأشار إلى الحاجب، ثم أخرج من جيبه مبلغا وقال: «هذه 500 جنيه كل ما معى، ولا أدرى من من السادة المستشارين سيشاركنى، وهى أول مشاركة لسداد دين هذه السيدة»، ثم شكر الحاضرين ودخل غرفة المداولة.
فى هذه اللحظة، بدأ المحامين فى التبارى فى الدفع بدأهم أحدهم بـ 1000 جنيه ثم توالى الباقين حتى تجمع فى المنديل ما يتجاوز الـ8000 جنيه، وقبل ذلك كانت المحامية ابنة صاحب الدين قد خرجت بسرعة إلى خارج المحكمة لتتصل بوالدها وتخبره بما تم، وعادت المحامية القاعة ونودى عليها حين دخلت المتهمة غرفة المداولة .
وكان القاضى «الشريف» جالسا خلف مكتبه، وأشار للمحامية قائلا: « فيه 7000 جنيه موجودة فى المبلغ الموجود بالمنديل تقدرى تاخديه وتتصالحى للمتهمة ونمشيها»، ثم أشار إليها بأخذ الفلوس، وفى تلك الأثناء، كانت هناك مفاجأة أخرى حيث قالت المحامية أن والدها اخبرها بألا تأخذ أكثر من 500 جنيه قيمة الباقى .
اقرأ أيضا: ابن دقيق العيد.. قاضي قضاة مصر في العصر المملوكي
شكر القاضى «الشريف» المحامية، وابتسم ناظرا للمحامين الذين ملؤا غرفة المداولة وقال: « اظن انها اخذت الـ500 جنيه بتاعتى أنا فضحك الجميع وقاطعهم قائلا واظنكم لاتريدون أن يحرمكم الله ثواب المشاركة»، وعلى صوت المحامين فى الغرفه بالتأييد، فنظر إلى المتهمة ومد يده بالمنديل وباقى الـ 8000 جنيه وقال: «وهذه من الله لك».
وضجت غرفة المداولة بالتهليل والتكببر والذى سرى إلى القاعة وهتف كل من فيها وهرول كل الحاضرين فى المحكمة إلى هذه القاعة ليعلموا ماذا حدث ثم يعلموا بأن ماحدث كان وجود قاضى رحيم.