في ذكرى ميلاد صلاح عيسى.. الجورنالجي المؤسس
الأحد، 14 أكتوبر 2018 06:00 م
بين يوم مولده الرابع عشر من أكتوبر عام 1939، بقرية بشلا محافظة الدقهلية، وحتى يوم رحيله 25 ديسمبر 2017، ترك الكاتب الصحفي الكبير الراحل صلاح عيسى مؤلفات مهمة وأعمالا ثرية تاريخية غيرت مفهوم الصحافة عند الكثيرين، فليس الصحفي هو الباحث عن الخبر، أو المحاور للشخصيات العامة فقط، إنما هو المؤسس أيضا لفن التوثيق الصحفي، ووضع الكتب عن الحوادث الكبرى في حياة الشعوب، وعليه يظل صلاح عيسى رائدا في هذا المجال، وتبقى مؤلفاته "رجال ريا وسكينة" و"دستور في صندوق القمامة" خير دليل على ما نقول.
أسس صلاح عيسى عددا من الصحف والمجلات، منها "الكتاب" والثقافة الوطنية" و"الأهالي" و"اليسار" و"الصحفيون" وترأس تحرير جريدة القاهرة الثقافية، واعتقل عام 1966 لآرائه السياسية، وتكرر اعتقاله أو القبض عليه في عدة سنوات ما بين 1968، و1981.
يقول عنه المؤرخ محمد عفيفي، أستاذ التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة: تعرفت على صلاح عيسى من خلال مقالاته المهمة والمثيرة في جريدة الأهالي، لكن المعرفة الحقيقية كانت من خلال كتاباته التاريخية، أو وجها لوجه عبر العديد من الفعاليات التاريخية المشتركة، مشيرا إلى أنه ينتمي إلى مدرسة مهمة في كتابة التاريخ المصري، يُطلق عليها الغرب "المؤرخون الهواة" والمقصود بها المؤرخون من غير أساتذة الجامعة، ولكن الاسم الشائع لها في مصر هو "المؤرخون الصحفيون".
يقول المؤرخ محمد عفيفي، إن مدرسة المؤرخين الصحفيين، لها جذور عريقة في الصحافة المصرية، في القرن العشرين، منذ جورجي زيدان، وأحمد حافظ عوض، وصولا إلى جيل هيكل وأحمد بهاء الدين، ومحسن محمد، وإلى حد ما رفعت السعيد، لافتا إلى أنها مدرسة متمردة بطابعها على كهنوت الأكاديمية.
في مقدمة كتابه "حكايات من دفتر الوطن" يقول صلاح عيسى: صدرت الطبعة الأولى من بعض فصول هذا الكتاب بعنوان "حكايات من مصر، عن دار الوطن العربي ببيروت عام 1973، ورغم نفاد تلك الطبعة منذ سنوات، فقد ظللت مترددا في الاستجابة لطلبات الناشرين الراغبين في إعادة طبعه، وفي ظني أنني سأجد وقتا براحا يمكنني من إعادة النظر في فصوله، فأضيف إليها ما قد أكون قد قرأته أو حققته من معلومات تتعلق بحكاياتها من ناحية، وأساسا لكي أكتب بقية الحكايات
يحكي صلاح عيسى في استهلال الكتاب عن واقعة فصله من عمله في جريدة الجمهورية عام 1977، بعدما قضى في الفترة من يونيو 1972، يكتب يوميا على صفحتها زاوية بعنوان "هوامش" وكانت تنويعة أخرى على مشروع هذه الحكايات، فجمع بعد فصله من الجريدة، في كتاب صدر بعنوان "هوامش المقريزي" وهو الاسم المستعار الذي كان يوقعها به، وضم 180 أقصوصة تتوزع على مساحة زمنية تبدأ بالعصر الأموي وتنتهي بثورة 1919.
يستطيع صلاح عيسى في كتابه "حكايات من دفتر الوطن" وكل كتبه، أن يأسر لب قارئه، ويقبض على معصميه، فلا يفلت الكتاب، أو ينحيه جانبا، يحكي حكايات مثيرة من التاريخ المملوكي القديم، يبدأها بحكاية نور الدين المشالي، وحبيبته فاطمة، يقول: تنتمي قصتهما للسنوات الأربع الأخيرة من العصر المملوكي، قبل أن تدهس سنابك خيول السلطان سليم شاه، الرامحة في معركة مرج دابق، جثة السلطان قنصوة الغوري، آخر سلاطين هذه الدولة الغريبة، دولة المماليك، التي ماتت أول سلطانة لهم بأعجب طريقة للاغتال، إذ أمرت ضرتها جواريها بأن يضربنها بالقباقيب، حتى لفظت آخر أنفاسها، وآنذاك ألقيت من سور القلعة إلى الخندق، وسرق اللصوص تكة لباسها المزينة بالجواهر الثمينة، أما آخرهم، السلطان قنصوة الغوري، فسوف يصيبه خلط فالج، فُيبطل حنكه، حين يخونه أمراؤه، ويتآمرون عليه مع عدوه السلطان سليم الأول، لكن قبلها بسنوات، تفجرت قصة الحب بين المشالي وفاطمة، لتكون بعض نذير النهاية، التي كانت تسعى في طريق الزمن، يقول صلاح عيسى عن نور الدين المشالي: كان قاضيا ممن يحكمون بمذهب الإمام أبو حنيفة النعمان.
في الجزء الثاني من الكتاب ينتقل صلاح عيسى لحكاية أخرى من حكايات التاريخ المصري وهي حكاية سليمان الحبي، الذي قتل كليبر، ويعنون تلك الحكاية بعنوان: الموت على تل العقارب، يقول في مستهل الفصل: كان يوم السبت 14 يونيو سنة 1800 م، أطول أيام الجنرال كليبر في مصر، كان عليه أن يعبر النيل إلى الروضة، ليستعرض الجنود اليونانيين، اللذين تتكون منهم كتيبة الأروام، ويلتقي قائدهم القبطان نيقولا بابازوغلو.
يحكي صلاح عيسى سطورا عن يوم كليبر الأخير، قبل اغتياله، وصعوده سلالم قصر الألفي بك، الذي لم يسكنه، وتمتعه بالقصر، ونافوراته المستوردة من إيطاليا، ومشربياته وشبابيكه التي يزينها زجاج ملون، ووسائده ومسانده، وستائره.
يصف صلاح عيسى ببراعة روائي ثقيل، واقعة الاغتيال، يقول: في الثانية بعد الظهر غادر كليبر المأدبة قبل أن تنفض، ليواصل تفقد أعمال الترميم، وليستعرض مع كبير المهندسين بروتان تصميما أعده لمبنى جديد يلحق بصر الألفي، عبر حديقة قصر الجنرال داماس، يذهب كليبر إلى حديقة قصر القيادة العامة لجيش الاحتلال الفرنسي، في مكان ما منها قتل سليمان الحبي كليبر، هو المكان الذي تشغله الآن محطة تموين للسيارات على ناصية شارعي الجمهورية والألفي بوسط القاهرة، مر كليبر والمهندس بروتان، في رواق طويل يفصل بين الحديقتين، وتظلله تكعيبة من العنب، لم ينتبها إلى الشاب ذي القفطان والعمامة الخضراء، الذي كان يكمن مستترا بدواليب الساقية، ظنه الجنرال متسولا جاء يطلب إحسانا، فقال بعجرفة: مفيش، لكن الشاب واصل تقدمه بلا تردد، مادا يده اليسرى إلى أمامه، فظن الجنرال أنه يريد تقبيل يده، فمد إليه يده مبسوطة كي يقبلها، في ثوان قليلة كان الشاب قد أخرج يده اليمنى من صدره، وفيها خنجر، طعن به كليبر في صدره، وبينما يترنح استلها من صدره، وأغمدها في بطنه، ثم في ذراعه اليسرى، ثم خده الأيمن.
من أهم الكتب التي وضعها صلاح عيسى، ولا تكفي السطور لعرضها، ذلك الأثر المهم، المعنون "رجال ريا وسكينة" الذي لا يعد فقط محاولة لإلقاء الضوء على قضية شهيرة شغلت مصر في زمن من الأزمنة، إنما أيضا هي سيرة سياسية واجتماعية، تلقي الضوء على ظروف مصر أثناء العشرينيات، وقت وقوع الجرائم، يستند صلاح عيسى في كتابه إلى الوثائق التاريخية، وليس المرويات الدارجة.