عمو بارني
الخميس، 20 سبتمبر 2018 06:09 م
-عمو بارني قفل التلفزيون يا يويو ..
منذ عشر سنوات كنت أختار لإبني بعناية كل ما سيشاهده في التلفاز، وكنت أغلق مفتاح الكهرباء الرئيسي مُدّعية أن "بارني" الشخصية المحببة لإبني قد وجد أن هذا الكارتون عنيف ولا يليق بطفل جميل مثل "يحي" أن يشاهده، وكان ابني ومازال عنيداً منجذباً لكل ما هو غريب، وبطبيعة كونه صبياً كان أيضا منجذباً لكل ما هو عنيف، أو قل كل ما يُقدَم لأطفالنا ملئ بالعنف ومفرّغ من المضمون والقيمة بشكل حقا مخيف.
***
دراستي وقرائتى في مجال البرمجة وتنمية الذكاء العاطفي جعلوني أقلق علي فكرة "تكوّن العادة" عند ابني الجميل، بالإضافة لترسب الصور الذهنية المختلفة للعنف داخل عقله.. تُري هل يمكن أن يكون الطفل سوياَ وهو ينسلخ شيئاً فشيئاً من براءة أعينه الظانّة بالعالم كله أنه ملئ بالخير، ويصحو من براءة حلمه فيتفاجيء به عبارة عن وحوش مخيفة "لبن تن" أو "لساموراي جاك" علي قناة "سبيس تون" وقتها وقبل أن يصبح العنف جزء أساسي من الحياة داخل مصرنا؟!
***
تعلّمت أن مع الطفل العنيد لا تقف أمامه وجها بوجه، بل هو المنطق والحجّة فوق رؤوس الجميع بما فيهم أنا ووالده وأخته، أو هو "عمو بارني" هذا الرجل الغامض الذي يحب كل الكارتون الجميل فقط لأنه طيب .
ظل الأمر كذلك حتي وصل إبني إلى kj2 "صفه الثاني في الحضانة".. بات يطلب مني أن أفتح له التلفاز علي "بن تن" في ساعته المحددة له.. أصدقائه حدثونه أنه يجئ في هذا الميعاد وهو يجب أن يشاهده مثلهم، تفكّرت كثيراً أمام إلحاحه، هل من الافضل أن أمنعه فأعزله بالتالي عن حديث أصدقائه والعنف الذي يمارسونه ضد بعضهم البعض، جرّاء مشاهدة مثل هذا الكارتون العنيف ؟ أم وجب عليّ مراجعة كل سياساتي في التعامل معه ؟
***
أخذت وقتاً طويلاً في التفكير وكنت خلاله "بين بين".. حتي وصل لعامه الثاني الإبتدائي، ووقتها تفكّرت مع ذاتي امام الإنترنت وإنفتاح ابني وأبنائنا علي العالم أجمع، فابني- بطبيعة حال جيله- كان مُطّلعاً علي الإنترنت منذ كان عمره ثلاث سنوات، لكني كنت أختار له كارتون "ميكي ماوس كلاب هاوس" بهجة وألوان مفرحة وفكرة وعقلية تُبني، وشخصية تجاه الحياة تتكون مقبلة ومتفائلة.
هو بنفسه قرر أن يلعب ألعاب علي الكومبيوتر، ومع الألعاب صارت تنزل صور بذيئة.. هل أحجب ؟ أم اضع ستاراً يحميه من الصور البذيئة ؟ أم أصنع له ستارا داخليا عميقا منسوجا من عمق علاقته بمحبة الله وعمق رؤيته له ؟
***
تفكّرت وقررت الأخيرة خاصة أني منذ نعومة أظافره أحدثه عن محبة الله، صرت منذ كان عمره لم يتجاوز السابعة، آخذه معي إلي الحدائق والمتنزهات، تشاهد السماء بصفاء لونها والشجر والزرع بخضار لونه وأسأله :
-حبيبي من تراه قد ابدع كل هذا الجمال ؟؟
فيثير عقله الفضولي بطبيعة خلقه, وتنهار عليّ الأسألة .. فنتناقش رغم نعومة أظافره في إجابة لسؤال "لماذا نعبد الله ؟"، و"هل هناك إله للكون أم أنه تراه قد خلق صدفة؟".. حبيبي هل هناك إنساناً ما يمكن أن يبني بناء دون أن تكون له أعمدة ؟.. فتكون إجابته بالطبع لا .. هل هناك إنسان يمكن أن يبني فوق الارض أرضاً ثانية دون أن تكون لها أساسات ؟ ..لا أمي .. وهكذا .. يسير النقاش بيننا آخذا ساعات وساعات.
أنظر حبيبي لتلك القطة التي تحتضن رضيعتها، الله أعطاها جزءاً يسيراً من رحمته فصارت كذلك رحيمة بطفلها.. الله محبة هو من أعطاك اباً وأما يحبونك كثيرا وجداً وجدة وكل أهلك و أصدقائك وكل ما نحضره لك من ألعاب .. الله هو الجمال والمحبة والخير والنمّاء إنظر للحدائق الغنّاء ؟ !
***
تَشرّب ابني بفضل من الله وحوله محبة الله قبل مخافته.. نخاف علي زعله منا فلا نفعل شيئا يجعلنا خارج نطاق محبته .. علّمته ايضا حديث النبي صلي الله عليه وسلم.
عن النُكتة السوداء التي تُنكَت في القلب إذا ما رأي صورا بذيئة أو شاهد مناظر بذيئة، حتي يسود قلبه تماما فتأتيه المعصية علي حين غرة, فلا يدرك نفسه إلا وهي منزلقة إلي الهاوية .. علّمته أيضاَ النُكتة البيضاء التي كلما فعل خيراً أو رفض شراً, صار قلبه ابيضاً ناصعاً ممتلئا بالخير والمحبة فصار سعيداً قادرا علي تمييز طريق سعادته من طريق شقائه.
***
علّمته ثم تركت له الحبل ومسكت طرفه في يدي والأساس بيننا هو جدار الثقة.
عندما كان صغيرا هو تلك "العصفورة" التي تحدث كل الامهات عمّا يفعلونه اولادهما من أخطاء في المدرسة، وكان بالطبع لحداثة سنه إذا ما أخطأ ترك آثارا فاضحة دالة علي خطئه، وكانت الأخطاء بسيطة بطبيعة الحال، وعندما كبر وبلغ العشر سنوات وكذب عليّ في شئ يخص دراسته، رددت له عداد الثقة إلي صفره وبات شهوراً وشهوراً يسألني عن رصيد الثقة وكيف كان يبلغ به الغضب مبلغه إذا ما رأي الرصيد يرتفع ببطء، وكنت أعلّمه وقتها أن الرصيد يكون كبيراً، وعندما يهتز بالكذب يصعب معه رجوعه لسابق عهده، إلا بنية إستغفار صادقة من قلبه لله.. لا يعملها إلا هو والله وفقط.. حتي إذا ما عَلِمها الله، سيُعلِمني بها ويجعل قلبي يمتليء له بالثقة من جديد، تلك التي تستوجب أفعالاً منه مستمرة حتي يبلغ "شحن الثقة" تمامه كما كان.
أما أنا كأم فيجب أن أكون موصولة بالله ليوفق سعيي ويسدده .. وإذا خفت علي بُنيّ من صحبة سوءٍ تتكاثر عليه كلما إزدادت سنوات عمره كان القول السديد والعمل الصالح الذي حدثنا الله في قرآنه عنهما لمن يخشي علي ولده ضعفاً .
***
ليست السدود من تصنع الرجال بل هي التجربة والصواب والخطأ مع وجود معايير أخلاقية ورؤية لمحبة الله ليرجع لها الطفل عند خطئه.. الضمير تربية قائمة في الأساس علي حرية الفرد، ولن نخشي علي أولادنا أكثر ممن خلقنا وأولادنا .
الإختيار الحر المنضبط أخلاقياً بوازع ضمير الفرد هو الأساس في تربية الشخصية السليمة تلك كانت قناعاتي التي تتعارض مع كثير مما نعيشه في مصرنا.. فإما مناخ مملوء بالكبت وثقافة "إقفل علي ابنك" خوفاً، وإما ثقافة "إترك له الحبل علي الغارب" دون أن تعطيه المصل القوي ضد أمراض العصر الإجتماعية .. في عصر طوفان التطرف يمينا ويسارا، إصنع لابنك وابنتك سفينة بدلا من صنع سدود ستنهار بمجرد مجئ إندفاع المراهقة المرهقة.
سفينة بها يعبر إلي شطوط نضجه كإنسان فاعل يفيد نفسه ومجتمعه بلا أي حبل يربطك به وقتها سوي حبل محبتكما وعلاقة الصداقة التي بنيتموها سوياً خلال أعماره السابقة..واللهم سدد سعينا .