الكيمو لكيمو

الأربعاء، 12 سبتمبر 2018 03:10 م
الكيمو لكيمو
سمر جاد

 
لم تكن تعرف معنى تلك الكلمة قبل أسبوع، تلك الكلمة التى غيرت مجرى حياتها إلى الأبد "لوكيميا".
 
كانت "إيمان" قد إنتهت للتو من إمتحانات سنة أولى جامعة، وإلتحقت ببرنامج للتدريب الصيفى فى إحدى الشركات، وسمعت زميلاتها يتحدثن عن مرض قد أصاب زميلاً لهم، مرض إسمه "لوكيميا" ويومها فقط، عرفت أنه نوع من أنواع مرض السرطان، الذى يصيب خلايا الدم البيضاء، فيُضعف مناعة الإنسان، ويودى بحياته.
 
بعد أسبوع، تلقت "إيمان" مكالمة دولية، كانت من إحدى مستشفيات البلد الأجنبى التى يعمل بها أخوها الوحيد "كريم" أو "كيمو" كما كانوا يُلقبونه، لم تعى فى بادئ الأمر ما يقوله الطبيب من هول الصدمة، وبعد أن أنهت المكالمة ظلت كلمة واحدة ترن فى أذنها رناً مدوياً كاد يقتلع قلبها اقتلاعاً..."لوكيميا"..."لوكيميا".
 
إتضح أن "كريم" ذو ال25 ربيعاً، كان يعانى من مرض اللوكيميا منذ أربعة أشهر، وقد ظهرت عليه بعض علامات المرض منذ البداية، إلا أنه لم يكن على دراية بذلك، وكذلك طبيبه للأسف، فكان يعانى من إحساس دائم بالإرهاق والوهن، وكثُرت الكدمات فى جسده، وأصبحت جروحه بطيئة الإلتئام، وشيئاً فشيئاً بدأ يفقد شهيته بعد أن كان نهماً، محباً للطعام -مثله كأى رجل مصرى أصيل، وفقد الكثير من وزنه بسرعة، وكان يعانى من صداع و ضيق فى التنفس، ومع ضعف مناعته بسبب المرض، الذى كان ينهش جسده فى خبث، أُصيب بإلتهاب رئوى حاد ، كاد يودى بحياته، لولا ستر من رب كريم.
 
لم تمر أيام قليلة، إلا و سافرت "إيمان"، لتكون إلى جوار "كيمو"،  ومرت أيام طوال عليها كانت تشعر فيها كأنها فى  كابوس طويل سينتهى يوماً، أو هكذا أملت، وقد كان "كيمو" فى حالة حرجة بسبب تأخره فى بدأ العلاج، فالتشخيص المبكر لهذا المرض هو طوق النجاة، وأى تأخير إنما يقلل من إحتمالات الشفاء منه، و لقد عاد هذا التأخير إلى التشخيص الخاطئ للأعراض التى ظهرت على "كريم"، فالأطباء يخطئون –على ما يبدو- فى الدول المتقدمة أيضاً.
 
كان "كيمو" بين الحياة و الموت، وكان فى كل يوم يمر عليه وهو على فراش المرض، يمتلئ قلب "إيمان" بالثقوب، فما أصعب أن ترى صوب عينيك من تحب، يتألم ويعانى، بينما أنت مكبل اليدين، لا تستطيع أن تساعد فى علاجه ولا أن تخفف من آلامه .
 
حتى كان يوماً تم استدعاء "إيمان"  فيه باكراً، للذهاب إلى غرفة أخيها لتودعه، فلقد حدثت مضاعفات، ولا أمل فى إنقاذه على حد قول الأطباء، وفجأة بدأت الأجهزة الطبية المتصلة بـ"كريم" تُصدر صافرات وأنوارها تضئ وتطفئ وفجأة امتلأت الغرفة بالأطباء والممرضات وطُلب من "إيمان" مغادرة الغرفة.
 
لم يكن "كيمو" بالنسبة لإيمان مجرد أخ كبير، لكنه كان لها أباً فلقد ساعد فى تربيتها بعد وفاة أبيها وهى طفلة صغيرة، وكان صديقها المفضل الذى لعبت معه كثيراً فى طفولتها، وأصبحت تستشيره عندما كبرت، كان توأم روحها، يفهمها قبل أن تتحدث، ويدافع عن وجهة نظرها طوال الوقت، تذكرت "إيمان " كل هذا فى لحظة فاعتصر قلبها ألماً لمجرد التفكير فى أنها قد لا تراه مجدداً، وإذ بها تسمع صوتاً بداخلها يهمس لها بأن كل شئ سيكون بخير.. أدمعت عيناها وأخذت تدعو بكل ذرة من كيانها، أن يُشفى الله أخاها، واستمرت فى الدعاء، وازداد انسياب الدموع من عينيها مع ازدياد الدعاء، كانت تدعى و داخلها يقين...يقين بأن الله سيستجيب.
 
فُتح باب الغرفة، وتوجه الطبيب الذى يرأس الفريق الطبى إلى "إيمان" و قال لها " لا أعرف كيف  حدث ذلك، لكن  حالة أستاذ سالم  قد أصبحت مستقرة الآن"، وتأسف لتسببهم فى إزعاجها، حينها بكت إيمان.. بكت لأنها عرفت مصدر الصوت، وعزمت على أن تدعو له دوماً، فالدعاء قد يغير الأقدار عندما يأذن الرحمن.
 
مع استقرار حالة " كريم" - الذى لم يعد يُلقب بكيمو - بدأ العلاج من اللوكيميا، ولقد تعلمت "إيمان" أن هناك أنواع عدة من العلاجات، منها كيميائي – الذى يُطلقون عليه "كيمو" للإختصار- ، ومنها إشعاعى، ومنها أنواع مازالت قيد التجربة، على من يريد الخضوع لها، أن يفعل ذلك على مسئوليته الخاصة. 
 
بدأ "كيمو" فى التحسن، ولقد كان صغر سنه، فى الواقع حافزاً على الشفاء، فهو لم  يدخن سيجارة فى حياته ولم يتذوق النبيذ، كما أنه كان يمارس الرياضة بانتظام، فلم يكن المرض بسبب ضرر ألحقها بنفسه، على  حد قول الطبيب، ولم يكن بسبب عوامل وراثية كذلك، فتاريخ العائلة برئ منه، وأخذت "إيمان " تتعرف إلى هذا المرض عن كثب، لتكتشف أن المسبب الرئيسى  له ( بنسبة 90%) هو خلل يصيب خلايا الدم، وأنه على عكس المُعتقد، فإن كل السلوكيات والعوامل الخارجية، لا تُسهم فى ظهور المرض أو تمنعه، لكنها فقط تقلل أو تزيد من إحتمالاته.
 
ومع محافظة "كريم" على بدنه قبل المرض، رد له جسده هذا المعروف، فاستطاع تحمل جرعات مكثفة من العلاج، وتحمل الكثير من المضاعفات، وسلم من الأمراض التى كان من الممكن أن تصيبه بسبب ضعف مناعته.
 
تحسنت حالة "كريم" كثيراً وغادر المستشفى أخيراً بعد عدة أشهر، على أن يذهب إلى عيادة طبيبه المعالج كل أسبوعين من أجل الخضوع للعلاج الكيميائي، وبعد عدة زيارات، بدأ الطبيب يتحدث عن نوع آخر من العلاج، تحدث عن جراحة زرع نخاع العظم وهو المسئول عن إنتاج خلايا الدم فى أجسادنا.
 
ولعل أفضل متبرع لأى من أعضاء الجسم هو الشخص نفسه، فالشخص المعافى، قد يقوم بتخزين هذا السائل فى البنوك المتخصصة فى هذا الشأن، لإعادة حقنه به فى حالة مرضه، والحل الذى يليه هو الحصول علي نخاع العظم من متبرع، تتشابه أنسجته مع المريض، ولقد عرفت "إيمان" حينذاك أن الإخوة هم الأقرب فى ذلك، فعزمت على القيام بالتحاليل اللازمة وكلها أمل فى أن تنقذ أخاها، وأخيراً ظهرت نتيجة التحاليل.
 
إجتمع الطبيب بها هى وأخيها، فى عيادته، وكانت النتيجة إيجابية، كانت أنسجتهم مثل أرواحهم، متطابقة أخذ الطبيب يشرح لهم بالتفصيل كل خطوات العملية، وأنها  إجراء بسيط، عبارة عن حقنة تُسحب من المتبرع فى أسفل الظهر، وتُحقن فى المريض لتجدد خلايا دمه، وبعدها يظل المريض تحت المراقبة الطبية المكثفة لفترة، حتى يتم التأكد من تقبل جسده لهذا الجسم الغريب، وأوضح أن عملية التقبل هذه قد تتم بسلاسة، وقد تحتاج إلى أدوية مساعدة على ذلك، وفى بعض الحالات، قد يلفظها جسد المريض.
هل من أسئلة ياأستاذ "كريم"؟  هكذا سأله الطبيب فى النهاية.
نعم.. سؤال واحد فقط، هل هناك أى إحتمال أن يُصيب أختى مكروه؟.. دُهش الطبيب، وذاب قلب "إيمان" وكادت تجهش فى البكاء من التأثر، لكنها تماسكت من أجل أخيها.
لا تقلق عليها، لا خطر بتاتاً....أجاب الطبيب.
وبعد مرور 25عاماً، اتصلت "إيمان" بكريم  لتهنئه بعيد ميلاده الخمسين، كانت تحمد الله كل يوم على كونه على قيد الحياة، فكل يوم فى عمره هو نعمة من الرحمن الرحيم، وكان فى طريقه إلى عمله كالعادة، وبعدها كان سيعود ليحتفل مع عائلته الصغيرة، كان ما يزال يعمل فى ذلك البلد الأجنبى، بينما هى تعيش على بعد آلاف الأميال مع عائلتها الصغيرة.
 
كانت قد عزمت منذ 25 عاماً ألا تفرق بينهما الغُربة مجدداً، لكنها فى الواقع، لم تره منذ أكثر من خمس سنوات، لكنها كانت تردد دوماً : "يكفى أنه بخير ...يكفى أنه على قيد الحياة"
 

 

تعليقات (8)
الاخوة الاحباب
بواسطة: منال سعد
بتاريخ: الأربعاء، 12 سبتمبر 2018 03:44 م

الحمدلله علي نعمة العافية وربنا يتم علية تمام الصحة استاذة سمر مقالة مؤثرة وفي الصميم

الاخوه الجميله
بواسطة: Marwa Mostafa
بتاريخ: الأربعاء، 12 سبتمبر 2018 05:34 م

ربنا يشفي كل مريض.موضوع موثر لكن هذا هو الواقع.

مرض العصر
بواسطة: نسرين حلمي
بتاريخ: الخميس، 13 سبتمبر 2018 03:26 م

ربنا يشفي كل مريض .. مقالة مؤثرة ومفيدة جدا .. بالتوفيق دايما

وقت الصعاب
بواسطة: اميره كامل
بتاريخ: الخميس، 13 سبتمبر 2018 03:32 م

مقال اكثر من رائع يوصف المشاعر بكل دقه و احساس ... يا رب تشفي كل مريض و تصبر احبابه.

وقت الصعاب
بواسطة: اميره كامل
بتاريخ: الخميس، 13 سبتمبر 2018 03:34 م

مقال اكثر من رائع يوصف المشاعر بكل دقه و احساس ... يا رب تشفي كل مريض و تصبر احبابه.

اُسلوب جميل
بواسطة: Mirette
بتاريخ: الجمعة، 14 سبتمبر 2018 08:35 ص

التوعية فى اُسلوب القصة رائع

المرض والعلاج
بواسطة: د. احمد ضيف
بتاريخ: الجمعة، 14 سبتمبر 2018 11:34 ص

قصه جميله وأسلوب رائع .... وأجمل مافى القصه هو تحديد المثلث الذى يمكن ان يكون داعما لنا حين نقابل الصعاب (امراض أو غيرها) والذى تتكون أضلاعه الثلاثه من التوجه الى الله (الدعاء) والمحافظه على الصحه (الاستقامه والبعد عن الموبقات والرياضه) وحب العائله (الأخ او الأخت) ودعم افرادها لبعضهم البعض).

اليقين بالله
بواسطة: Mahy
بتاريخ: السبت، 15 سبتمبر 2018 10:02 ص

المقال رائع دائما كما عودتينا ولكن اكثر نقطه من وجهه نظري هي اليقين بالله يجب دائما ان يكون موجود داخلنا ونحن ندعوا الله نكون على يقين بانه سيحقق لنا ما ندعو له فان الله سبحانه وتعالى يقول انا عند حسن ظن عبدي بي فاحسنوا الظن دائما وكونوا على يقين دائما فان الله اذا اراد شيئ يقول له كون فيكون ونعم بالله والحمد لله

اضف تعليق