50 شهيدا و50 نافخا في النار.. وردة على قبور شهداء مسرح بني سويف في ذكراهم الـ13

الأربعاء، 05 سبتمبر 2018 02:00 م
50 شهيدا و50 نافخا في النار.. وردة على قبور شهداء مسرح بني سويف في ذكراهم الـ13
وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني وشهداء بني سويف
حازم حسين

خرجوا حاملين على أكتافهم قطع الديكور، وفي أياديهم كتبًا وأوراقًا، وفي قلوبهم ميراث المحبة والإبداع والأسى والتهميش، وفي أرواحهم قرابين منذورة للتفحّم في محارق الإهمال والفساد.

صلاح ومُحسن وبهائي وصالح، الكهول غضّو الأرواح. حازم ونزار وأيمن وجودة وربيع، الشباب شائخو الأحلام. ومحمد ورائد وهناء وأميرة، الأعواد الخضراء التي لم تر من الدنيا إلا لسعة الشمس والوعود المؤجّلة بالاخضرار والثمار. وغيرهم كثيرون، عشرات الفنانين من المحترفين والهواة صدّقوا نداء الفن والمسرح، واستجابوا له، فغادروا بيوتهم بإحساس عظيم بالرسالة والمسؤولية، لكنهم لم يعودوا إليها مرة أخرى. تبدّدت أجسادهم وارتقت أرواحهم واحترقت رسائلهم، ووقف طابور طويل من المتفرجين يعضون شفاههم وأناملهم، أو يدّعون الحزن والتأثر، أو يُهلّلون في جنازة طويلة، كان من الواجب في سياق آخر أن تكون طابورًا ممتدًّا للإدانة والاستهجان وهجاء التشوه والقبح.  

 
 
الدكتور صالح سعد من شهداء بني سويف
 

13 سنة على إسدال الستار

اليوم الأربعاء، الخامس من سبتمبر، من يعرفون ويهتمون بأجندة الثقافة المصرية والفعاليات الرسمية المختلفة يعرفون بالتأكيد أنه يوم المسرح المصري - كما أقرّه وزير الثقافة الأسبق الدكتور محمد صابر عرب قبل خمسة أعوام - لكن من يعرفون المسرح المصري نفسه سيحتفلون اليوم بمناسبة مسرحية خاصة، لها الفضل في أن يكون الخامس من سبتمبر يومًا للمسرح المصري، ولها وقع قاسٍ ودامٍ على قلوب وعقول وأرواح أبناء العلبة الإيطالية وأبي الفنون على امتداد الخارطة المصرية.

الدكتور محسن مصيلحي من شهداء بني سويف

من يعرفون المسرح المصري سينطفئ قنديل كبير وستُسدل ستائر عظيمة وسيشتعل مسرح كبير في ضلوعهم وذاكرتهم وأرواحهم وحنايا قلوبهم، من يعرفون المسرح المصري يشمّون الآن رائحة اللحم البشري المشوي والمُتبّل بآرسطو وبريخت وسارتر وجورج أبيض ونجيب الريحاني ويوسف وهبي وسعد أردش وكرم مطاوع وعبد الله غيث ونعمان عاشور ومحمود دياب وسعد الله ونّوس وميخائيل رومان، فكل هؤلاء قُبِضوا وتقلّبوا في النار مع تقلُّب أبنائهم وورثتهم وحملة مشاعلهم فيها، في عرض حيّ لجحيم الفساد السياسي والثقافي والإداري، صاغ فصوله مبارك وأشرف على إخراجه وزير ثقافته، وزير الربع قرن "فاروق حسني"، الذي طالما تباهى بإحكام السيطرة على المبدعين وأقواتهم وإراداتهم، وبإدخالهم طيّعين طائعين إلى حظائر النظام وهيكله ومذبح إرادته ورغباته، قبل أن يُدخلهم إلى محارقه وأفران "الهولوكست" التي أشعلها لأرواح المصريين وأبدانهم.

السيد رجب من شهداء الحادث

قبل ثلاث عشرة سنة من الآن، الاثنين 5 سبتمبر 2005، أضاء الفنيّون والفنانون إحدى قاعات العرض المسرحي، كما اعتادوا هذا الأمر دائمًا، وقف كهنة الإبداع وحملة مشاعل الفكر الإنساني وورثة سوفوكليس وأرسطوفانيس ويوربيدس وأسخيلوس، كما يقف المبدعون منذ 26 قرنًا في التأريخ الفني المُعتمد، أو منذ أكثر من أربعين قرنًا باعتبار المسرح الطقسي والديني في معابد مصر القديمة تأسيسًا وبداية لهذا الفن، المهم أنهم وقفوا كما علّمهم الراسخون في المسرح وأورثهم حَملة السرّ المقدّس من معابد طيبة أو معابد أثينا اليونانية.

نزار سمك من شهداء بني سويف

وقف الفنانون، ووقف الزمن أيضًا، فكان الوقوف الأخير لزُمرة من الخُلصاء والنُجباء والمبدعين، وكانت المحرقة التي التهمت أكثر من خمسين من أبناء الإبداع المضيء على هامش النجوم ومراكز السلطة، وأصابت ثمانية عشر شابًا وفتاة من الممسوسين بالرسالة واللعبة المسرحية، أظلمت قاعة العرض وصعد الممثّلون إلى أدوارهم لدى خالق المسرح والمسرحيين، لكنّنا عاجزون حتى الآن عن رفع الصوت في الكواليس أو على خشبة العرض، عاجزون عن ضغط مفتاح الإضاءة، عاجزون عن إنتاج واستهلاك المسرح كتنوير ورسالة ومعنى سامٍ، عاجزون حتى لو استمرت وزارة الثقافة واستمرت العروض وإضاءات المسارح وتدشين المهرجانات والفعاليات وتسليم الجوائز والدروع وشهادات التقدير، لأن المسرح الذي انطلقت دقاته لتُقيم الحق وتصلب أعواد المكسورين وتردّ الظلم عن المظلومين، ليس مسرحًا إن عجز عن القصاص لأبنائه وصانعيه وحبّات عقده.. لذا فأنا أقرأ الفاتحة - ولتقرؤوها معي - على أرواح شهداء محرقة قصر ثقافة بني سويف، وعلى روح المسرح والثقافة المصريين.

92018510421848-وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني


العاشرة والنصف مساء.. وقائع العرض ودراما المحرقة

في الثالث من سبتمبر 2005 بدأت فعاليات الدورة الخامسة عشرة لمهرجان نوادي المسرح، الذي انطلقت دورته الأولى في العام 1990 كفعالية فنية مسرحية تبتغي تجديد دماء المسرح المصري والدفع بعناصر شابة وتجارب فنية جادة ومغايرة وقليلة الإنتاج، اختارت لجان مشاهدة الدورة 51 عرضًا للمشاركة في فعاليات المهرجان من 751 عرضًا أنتجتها نوادي المسرح وتقدّم بمشروعاتها شباب الفنانين والهواة في مختلف النوادي التابعة لمواقع وقصور وبيوت الثقافة على امتداد الجمهورية.

92018510421848-المخرج صلاح حامد ونجله محمد من شهداء الحادث

في اليوم الثالث للمهرجان كان موعد عرض نادى مسرح بيت ثقافة طامية بمحافظة الفيوم، ولعدم توافر قاعة عرض تصلح لعروض مسرح الغرفة في قصر ثقافة بني سويف (مستضيف المهرجان)، وفّر الإداريون والقائمون على المهرجان قاعة للعرض التشكيلي تقع يسار مدخل قصر الثقافة الرئيسي، وتشتمل على بابين أحدهما يُفضي إلى بهو القصر ومُغلق بسلاسل حديدية، والآخر خشبي ضيق ويطل على حديقة القصر الصغيرة، مساحة القاعة 120 مترًا مربعًا شَغَل ديكور العرض ثلثيها تقريبا، وتبقّى الثلث للجمهور وأعضاء لجنة التحكيم. أرضية القاعة مُبلّطة بالبلاط العادي وسقفها مُغطّى ببلاطات الفوم المضغوط (وهي مادة تنصهر بالحرارة) وفي جوانب السقف ثلاث وحدات تكييف تمتدّ خراطيمها خارج الحوائط وتظهر بشكل كامل.

عرض بيت ثقافة طامية حمل اسم "مَن منّا؟" عن نص "حديقة الحيوان" للكاتب المسرحي الأمريكي إدوارد ألبي، ولعب بطولته: محمد إبراهيم ومحمد شوقي، وصمّم ونفّذ ديكوره محمد مصطفى حافظ، وأعدّ ونفّذ المؤثرات الصوتية له أحمد جودة، وأخرجه المخرج والممثل الشاب محمد منصور، وساعده في الإخراج أيمن الجندي وربيع ربيع، وباستثناء المؤلف الأمريكي الذي لم يكن متواجدًا، والممثل الأول في العرض الذي أنقذته الصدفة والقدر، مات كل فريق العرض على الخشبة أو في الكواليس.

ديكور العرض كان عبارة عن مُجسّم لمغارة جبلية، حقّقها مصمم الديكور سينوغرافيًّا عبر تكوينات وتشكيلات استخدم فيها شكائر الأسمنت، ورسم عليها بعض الأشكال والتيمات البصرية مُستخدمًا بعض أنواع "الإسبراي"، كما أكمل عناصر الصورة السينوغرافيّة بصريًّا عبر توزيع بعض الشموع في جوانب المغارة لإضفاء تأثيرات بصرية خاصة. في مشهد النهاية يسحب أحد الممثلين زميله على الأرض، تسقط إحدى الشموع، ينتهي العرض ويخرج الممثلون لتحية الجمهور، فجأة تشتعل كتلة من النار بمساحة متر في متر ونصف المتر، يحاول الفنيون وعناصر العرض التعامل معها وإطفاءها، بينما يزداد توسّعها وانتشارها، ليحدث الانفجار الأول.

أحمد عبد الحميد من شهداء الحادث

بدأت تسيطر على القاعة حالة من الهلع والارتباك، يقع انفجاران تاليان على مسافتين زمنيتين متقاربتين، تشتعل النار في كامل الديكور والمقاعد ومشتملات القاعة وفي السقف المُعلّق، تنصهر بلاطات السقف وتبدأ في إمطار المتواجدين بكتل من النيران السائلة، يتزاحم الناس فيسقط البعض وينجح البعض الآخر في الخروج، منهم من خرج سليمًا وفيهم من خرج مشتعلاً، ومن خرج ثم عاد لإنقاذ زملائه وأصدقائه لكنه لم يخرج مرة أخرى.

بدأ اتصال المتواجدين والخارجين من القاعة وموظفي القصر بقوات الدفاع المدني عقب اشتعال الحريق في العاشرة والنصف مساء، وبدأ تدافع مُمثّلي وعناصر نادي مسرح قصر ثقافة الأنفوشي بالإسكندرية - الذين كانوا يُجهّزون لعرضهم المُنتظر في اليوم التالي على خشبة المسرح الرئيسي بمبنى القصر - لإنقاذ المتواجدين داخل القاعة باستخدام طفّايات الحريق، ولإسعاف الخارجين ونقلهم إلى المستشفيات بعد تأخُّر عربات الإسعاف ورفض سيارات الأجرة نقل الناس، لم تصل سيارات المطافئ إلا بعد 50 دقيقة رغم أن المسافة بين وحدة الدفاع المدني وقصر الثقافة لا تتعدّى الخمس دقائق، سيارات الإسعاف وصلت بعد ساعة ونصف الساعة بينما كان أغلب المصابين قد انتقلوا إلى المستشفى في سيارات الأصدقاء أو سيرًا على الأقدام.

وصل كثيرون من المصابين مستشفى بني سويف العام مصابين بحروق من الدرجة الثالثة، بنسب تتراوح بين 20 و70%، رفض المستشفى استقبالهم، ثمّ سمح لهم بالدخول وتركهم ساعات دون تقديم الرعاية اللازمة. ازدادت صعوبة حالات بعض الإصابات لترتفع الوفيات من 29 حالة يوم الحريق إلى 52 في الأيام التالية، ومن المصابين من تُوفّي رغم أن نسبة إصابته دون 30% وذهب إلى المستشفى سيرًا على قدميه. تواصل الارتباك وزادت حدّته وفجاجته في نقل المصابين للمستشفيات بالقاهرة والمحافظات الأخرى وفي تسليم الشهداء لذويهم. تمّ التعرف على عشر جثث من الأوراق الشخصية التي وُجِدت معهم، والتعرف على "محسن مصيلحي" من دبلة الزواج في "بِنصَر" يده اليُسرى، تعرّف أهل "محمد مصطفى" عليه من حذائه الرياضي الذي لم يتفحّم مع تفحّم الجثة، وتعرف أهل "شادي الوسيمي" نجل الفنان منير الوسيمي من جوربه "الشراب"، والتعرف على الممثلة السكندرية الشابة "سامية جمال" من القِرط الذي ترتديه في أذنيها، والتعرّف على "بهائي الميرغني" من شريحة هاتفه المحمول بعد وضعها في هاتف آخر نتيجة تفحّم هاتفه، بينما تمّ التعرف على "حازم شحاتة" من ساعة يده وبقايا جواز سفره.

وفق هذا الارتباك وتلك الحالة التي وصلت إليها الجثث، حدثت أخطاء كبيرة في تسليم الضحايا إلى ذويهم، فاستلمت أسرة "محمد شوقي" جثة الراحل إبراهيم الدسوقي عِوضًا عن جثّة ابنها، ودفنته في مدافن الأسرة بالفعل، بينما ظلّت جثة محمد شوقي ملقاة على أرضية المشرحة، وتأخرت تصاريح الدفن لأهالي باقي الضحايا واستُخرجت لبعضهم تصاريح دفن غير سليمة، أدّت إلى رفض مسؤولي المشرحة ومستشفى بني سويف العام تسليمهم جثث ذويهم، بينما تمّ نقل المصابين دون مراعاة حالاتهم والاشتراطات الصحية الواجب اتخاذها، فتُوفّي الدكتور صالح سعد بمجرّد نقله إلى المستشفى، وتبعته بعض الحالات التي تُوفّيت في مستشفيات الهرم وأحمد ماهر وأم المصريين، نتيجة الإهمال وعدم توفير العناية اللازمة.

لوحة شرف المسرح.. لوحة عار الثقافة والوزارة


أسفر الحادث في وقته وما تبعته من أيام عن وفاة أكثر من خمسين فنانًا وناقدًا، معهم جنديان من الدفاع المدني بمديرية أمن بني سويف، بجانب أكثر من 18 مصابًا. صرفت وزارة الثقافة مبالغ مالية زهيدة كتعويضات، بينما تهرّبت من علاج المصابين، ورغم التعامل العجيب من الوزارة والمؤسسة الرسمية إلا أن قائمة الضحايا - التي تضمّ شبابًا وهواة إقليميين اعتادوا تجاهل الوزارة لمن في مثل أوضاعهم الاجتماعية والإنسانية - ضمّت بعض الأسماء اللامعة والمهمة أيضًا.

92018510421848-أيمن الجندي من شهداء الحادث

* أسماء الشهداء:

- الشهيد إبراهيم الدسوقي

- الشهيد أحمد عبد الحميد

- الشهيد أحمد السيد أبو القاسم

- الشهيد أحمد محمد جودة

- الشهيد أحمد عزت عبد اللطيف

- الشهيد أحمد محمد فيومي

- الشهيد أحمد عرفة محمد (مجنّد بالدفاع المدني)

- الشهيد أحمد على سليمان

- الشهيدة أسماء محمد السيد

- الشهيد أشرف جابر سعيد

- الشهيد أشرف محمد عبد ربه

- الشهيد السيد رجب سعيد

- الشهيدة أميرة حسين محمد

- الشهيد أيمن محمد الجندي

- الشهيد بهائي الميرغني

- الشهيد حازم شحاتة

- الشهيد حسن عبده حسن

- الشهيد حسن محمد أبو النصر

- الشهيد حسني محمّدي أبو جويلة

- الشهيد خالد طه محمود

- الشهيد رائد محمد أبو المجد

- الشهيد ربيع محمد رمضان

- الشهيدة رشا محمد ربيع

- الشهيدة سامية جمال

- الشهيد سيّد معوّض عثمان

- الشهيد شادي منير الوسيمي

- الشهيد الدكتور صالح سعد

- الشهيد صلاح حامد مُهدلي

- الشهيد عبد الله محمد عبد الرازق

- الشهيد مازن محمد قرني

- الشهيد محسن السيد كامل

- الشهيد الدكتور محسن مصيلحي

- الشهيد الدكتور مدحت أبو بكر

- الشهيد محمد أحمد إبراهيم علي

- الشهيد محمد أحمد حسن

- الشهيد محمد أشرف حسني

- الشهيد محمد السيد أيوب

- الشهيد محمد رجب جاب الله

- الشهيد محمد شوقي الغريب

- الشهيد محمد صلاح حامد مُهدلي

- الشهيد محمد علاء الدين المصري

- الشهيد محمد علي منصور

- الشهيد محمد مصطفى حافظ

- الشهيد محمد يحيى صلاح

- الشهيد مؤمن عبده

- الشهيد نزار محمود سمك

- الشهيد نصر حسن جودة (مجند بالدفاع المدني)

- الشهيدة هناء أحمد عطوة

- الشهيدة ياسمين محمود نبيل صالح

- الشهيد ياسر ياسين

* أسماء المصابين:

- أحمد حمدي طلبة

- أحمد صلاح حامد

- أسماء أحمد محمد

- أشرف مجدي ويصا

- إيمان أحمد محمد

- جمال السيد ياقوت

- حسام عبد العظيم

- عادل حسان

- الدكتور عزت سعد حسان

- محمد حسين محمود

- محمد سمير عويس

- محمد عادل عبد المنعم

- محمد عرفة ياسين

- محمد سعيد العمروسي

- محمد ممدوح حبيش

- محمد يسري نجيب

- محمود صلاح حامد

- محمود محسن محمد

بين شهداء المحرقة من شُوهِد خارج القاعة سليمًا تمامًا، لكنه دخل القاعة لينقذ زملاءه وأصدقاءه بالداخل ونجح بالفعل - وفق شهود العيان - في إنقاذ بعض الضحايا، لكنه لم يخرج هو نفسه، ومن هؤلاء: الناقد والكاتب الدكتور محسن مصيلحي، الموسيقي والممثل الشاب شادي الوسيمي، والمخرج صلاح حامد، والأخير استُشهِد في الحادث هو وابنه الأكبر "محمد"، وأُصيب ابناه الآخران "أحمد ومحمود" بإصابات بالغة.


36 ألف صحفى بريطانى يدينون مبارك وفاروق حسنى

كان للحادث صدىً كبير على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، فاهتمّت عشرات الصحف والمواقع الإخبارية بتغطية تفاصيله وتطوّرات الأمر فيما يتّصل بحالات المصابين وأُسر الشهداء والتحقيقات الجارية بحق المتسبّبين في الحادث والمسؤولين الحكوميين، على رأسهم وزراء الثقافة والداخلية والصحة ومحافظ بني سويف، فشنّ الاتحاد الدولي للصحفيين، ونقابة المحررين البريطانيين والأيرلنديين، هجومًا قويًّا وغير مسبوق من اتحاد مهني وإعلامي دولي على المتسبّبين في الكارثة، وانتقد عدم اتّخاذ إجراءات جدّية في التحقيق، وشمل الموقف تغطية إعلامية واسعة وبرقيات إدانة حاشدة ومتزامنة أرسلها أعضاء الاتحاد الوطني للصحفيين البريطانيين - الذي يضمّ في عضويته 36 ألف محرّر - إلى رئاسة الجمهورية ووزارت الثقافة والصحة والداخلية ومحافظة بني سويف، ينتقدون فيها الفساد والإهمال والتراخي في متابعة الحادث وتبعاته، وإنقاذ الضحايا والمصابين، والتحقيق في ملابسات الحريق وكشف المتسبّبين فيه والمتورّطين في نتائجه الكارثية.

92018510421848-حسني أبو جويلة من شهداء الحادث

في السياق نفسه أرسل الاتحاد تقريرًا شاملاً لهذه المؤسسات برؤيته للحادث، إضافة إلى إرساله لمجلسي الشعب والشورى كممثلين برلمانيين للشعب المصري، وجاء فيه: "مُختلف صحفيّي أوروبا والعالم يُدينون ما جرى، ويراقبون الأمر عن كثب، كما يراقبون نتائج التحقيقات في الحادث الذي لم تشهد أيّة دار عرض فنّي في العالم مثيلاً له من قبل، وقد أرسلنا نطلب من مختلف الاتحادات الفنية ومُلتقى اتحادات الكُتّاب في العالم الانضمام إلينا وإدانة الحادث ومؤازرة الفنانين والمبدعين المصريين الذين يلقون أشدّ أشكال الإهمال في أفدح صوره، وبينما بلغتنا التعليقات والتصريحات المنسوبة لمسؤوليين حكوميين ورسميين مصريين يرفضون الإطاحة بهم من مواقعهم على خلفية هذا الحادث، أو يرون أنهم غير مذنبين أو مسؤولين عنه، فإننا نرى أن ما جرى ويجري يحمل في طيّاته صورة مكتملة للفساد السياسي".

92018510421848-قصر ثقافة بني سويف

إضافة إلى الإدانة، أعرب البيان عن تضامنه مع الفنانين والمبدعين المصريين، ومؤازرته للمصابين وأسر الضحايا، كما طلب من جهات التحقيق المصرية موافاتها بنتائج التحقيقات الجارية بشأن الحادث أوّلاً بأوّل، والسماح للاتحاد بإرسال مراقبين يتابعون مسار التحقيقات ويتأكدون من جدّيتها، رافضين أن يتحمّل صغار الموظفين المسؤولية الكاملة عن الحادث في حين تتمّ تبرئة المسؤولين التنفيذيين الكبار وأصحاب المناصب السياسية والحكومية الكبرى، وهو الموقف الذي يُسجّل صورة فارقة وكاشفة في حجم الحادث وما أثاره من ردود فعل عالمية، مقارنة بصورة الداخل المصري الذي احتشد فيه أهالي الشهداء والمصابين، يؤازرهم عدد من الفنانين الشباب وأبناء الأقاليم والهوامش، بينما احتشد مئات من نجوم الساحة الثقافية والفنية خلف فاروق حسني يؤازرونه ويؤازرون الحكومة ويرفضون استقالة المسؤول الثقافي الأكبر في الدولة، والمسؤول الأول عن المحرقة، أو المسؤول الثاني على أفضل التقديرات، باعتبار حجم الكارثة الذي يجعل رئيس الجمهورية الأسبق حسني مبارك مسؤولاً سياسيًّا رئيسيًّا ومباشرًا عن الأمر.


مبدعون في المحرقة.. ومبدعون في حظيرة الوزير

بينما اشتعلت النار وأتت على أكثر من خمسين من المبدعين والفنانين والنقاد والأكاديميين، واشتعل الفضاء الإعلامي والثقافي الدولي بالاهتمام والمتابعة والإدانات الواسعة للنظام والحكومة، كانت الساحة السياسية والثقافية تسير وفق إيقاعها العادي الرتيب الذي اعتادته، حاول فاروق حسني امتصاص الغضب المتصاعد بموقف استعراضي قدّم خلاله استقالته لرئيس الجمهورية حسني مبارك، الذي رفض الاستقالة، ليُدبّج فريق من الكتاب والمثقفين والمسرحيين المعروفين بقربهم من الوزارة أو عملهم في إحدى مؤسساتها أو وجودهم على قائمة نجومها وفئتها الأولى بيانًا يدعم فاروق حسني ويرفض استقالته ويُناشد مبارك بعدم قبولها، وجاء نصه حسبما نشرته صحيفة القاهرة التي تصدرها وزارة الثقافة بعد أيام من الحادث:

الدفاع المدني في موقع الحريق

"الأدباء والفنانون والمثقفون الموقعون على هذا البيان - وقد هالتهم وقائع حادث بني سويف المأساوي -‏ إذ يُعبّرون عن حزنهم العميق على رحيل هذه الكتيبة من المواهب المسرحية المقتدرة التي خسرها الوطن وهي في أوج عطائها‏،‏ يطالبون السيد النائب العام بمواصلة التحقيق بتقديم كل من تثبت مسؤوليته المباشرة إلى محاكمة عادلة‏. ويرون أن المسؤولية العامة عمّا حدث ليست مسؤولية فرد، بقدر ما هي مسؤولية مجتمع يتطلّب حشد كل القوى والإمكانات للحفاظ على حياة وحرية وكرامة كل مواطن‏،‏ وإذ يُقدّر الموقّعون على هذا البيان مبادرة وزير الثقافة الفنان فاروق حسني بتقديم استقالته وتحمُّله المسؤولية السياسية عمّا حدث، لا يوافقون أن يتحمّل الوزير وحده تبعات ما جرى، ويطالبونه بسحب هذه الاستقالة ليواصل مسؤوليته الوزارية في حماية وإتمام المشروعات الثقافية الكبيرة التي قام بها‏، ويناشد الكتاب والمثقفون الموقعون على هذا سيادة الرئيس محمد حسني مبارك بعدم قبول استقالة الوزير؛ ليستمر في تنفيذ مشروعاته الثقافية الحضارية‏".

ضمّت قائمة الموقّعين على البيان: الدكتور ‏فوزي فهمي رئيس أكاديمية الفنون الأسبق، والشاعر عبد الرحمن الأبنودي، والد‏كتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع السابق، والكاتب الصحفي أنيس منصور، والكاتب الصحفي صلاح منتصر، والد‏كتور ‏جابر عصفور أمين عام المجلس الأعلى للثقافة الأسبق، والد‏كتور ‏سمير سرحان رئيس مجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب الأسبق، والدكتور ‏ناصر الأنصاري رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية الأسبق، والكاتب الصحفي صلاح عيسى رئيس تحرير صحيفة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة (والتي نشرت البيان)، والكاتب الصحفي والمحاور التليفزيوني مفيد فوزي، والكاتب المسرحي لينين الرملي، والسيناريست وحيد حامد، ورسام الكاريكاتير مصطفى حسين، والكاتبة الصحفية نِعَم الباز، والكاتبة الصحفية حُسن شاه، والكاتبة الصحفية سناء البيسي رئيس تحرير مجلة "نص الدنيا" الصادرة عن مؤسسة الأهرام، والكاتبة الصحفية منى رجب، والكاتبة الصحفية والناقدة الفنية آمال بكير، والكاتبة الصحفية بهيرة مختار، والد‏كتور ‏زاهي حواس أمين عام المجلس الأعلى للآثار الأسبق، والكاتب الصحفي سامى خشبة رئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة الصادرة عن هيئة قصور الثقافة، والناقد الد‏كتور ‏حسن عطية الأستاذ بأكاديمية الفنون، والد‏كتور ‏وحيد عبد المجيد نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والموسيقي العالمي رمزي يسّي، والكاتبة الصحفية فتحية العسال، والد‏كتور ‏أشرف زكي رئيس البيت الفني للمسرح التابع لوزارة الثقافة وقتها ونقيب المهن التمثيلية، والفنان التشكيلي الد‏كتور ‏مصطفى الرزاز الأستاذ في أكاديمية الفنون، والكاتب السينمائي ممدوح الليثي رئيس قطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتليفزيون ونقيب المهن السينمائية ورئيس اتحاد النقابات الفنية وقتها، والكاتب الصحفي عاصم حنفي، ومهندس الديكور الدكتور ‏صلاح مرعي، والد‏كتور مدكور ثابت رئيس أكاديمية الفنون سابقًا، والد‏كتور أسامة الغزالي حرب رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية الصادرة عن مؤسسة الأهرام، والد‏كتور ‏عصمت يحيى رئيس أكاديمية الفنون الأسبق، والد‏كتور ‏جاب الله علي جاب الله أمين عام المجلس الأعلى للآثار، والفنانين: يوسف شعبان، ونادية لطفي، وسميحة أيوب، ويسرا، وليلى علوي، ورغدة ودلال عبد العزيز‏.


إضاءة مسارح السماء

محمد أحمد حسن من شهداء الحادث

قبل ثلاث عشرة سنة من الآن أُسدلت ستائر الأرض وأُضيئت مسارح السماء. لا يعرف أحد حتى الآن سرّ الحادث وكواليسه على وجه اليقين، يتداول الفنانون والمسرحيون حكايات وتفاصيل تبدو منطقية في جانب، وأسطورية في جوانب، ويحكي بعضهم عن مخرج مسرحي كبير "ج. ش" تلقى اتصالا هاتفيًّا يُحذره من السفر للمهرجان، وأنه أرسل بدلا منه "أ. ع" الذي سافر بالفعل ولم يعُد. تتعدّد الحكايات والقصص والأسماء، ويظل الأمر جرحًا كبيرًا ومفتوحًا ولا يتوقف عن النزيف، حتى بعد انقضاء ثلاث عشرة سنة على اشتعال النار وانطفائها.

في المسار القانوني أدانت المحكمة رئيس هيئة قصور الثقافة ومدير فرع ثقافة بني سويف وعددا من الموظفين في هيئة قصور الثقافة، ثم حصل أغلبهم على البراءة لاحقًا. وظلّت الرواية الرسمية أن الحادث تسببت فيه الشموع وشكائر الأسمنت و"الإسبراي" المستخدم في ديكور العرض، وظلت الرواية الرسمية في أوساط المسرحيين أن هناك أسبابًا أخرى، وأن هذا السبب غير مقنع بالنسبة لهم.

بعيدًا عن التفاصيل المتشابكة والممتدة حتى الآن. خسرت مصر خمسين فنانا من خيرة مسرحييها الهواة والمحترفين، وكسب فاروق حسني تأييد خمسين مثقفا ومبدعا وصحفيا من ألمع أسماء مصر. رحل الشهداء رحيلا رخيصا، وظل الوزير في منصبه ست سنوات تالية، حتى اندلاع ثورة 25 يناير، وعندما خرج من منصبه ذهب إلى قصره المنيف في إحدى ضواحي الجيزة الفاخرة، لا يشعر بالذنب ولا يتحمّل أي مسؤولية، حتى لو معنوية، بفضل الأبنودي والرملي وعصفور والعسال وحوّاس والبيسي وحُسن شاه ووحيد حامد وأنيس منصور وليلى علوي ورغدة ويسرا ودلال عبد العزيز وغيرهم، ممن قرروا تبرئته وغسيل أيديه.

لن يعود الشهداء من نعيمهم السماوي. ربما يواصلون اشتغالهم بالفن ويتابعون عروضهم المسرحية بأرواحهم الخفيفة كطيف، ويزيدون نشاطهم وحماستهم الفنية في الخامس من سبتمبر كل عام، كانتصار لأنفسهم في وجه النار، وقصاص ممن أهملوهم وساقوهم إلى المحرقة. لكن يظل السؤال المُعلّق: لماذا لا نكتب تاريخ هذا اليوم الأسود بتجرّد؟ لماذا لا نُعلّق الأجراس في رقاب أصحابها؟ ولماذا ينجو فاروق حسني بحظه من المسؤولية - حتى المعنوية - ويهرب داعموه ببيانهم المُخزي، الذي بدا وكأنه نفخ في النار؟.. إذا كنّا نحتفل بـ"يوم المسرح المصري" كإحياء لذكرى هؤلاء الفنانين، فربما نحتاج بالقدر نفسه لإعادة كتابة تفاصيل هذا اليوم، حتى لا يموتوا مرة جديدة في كل ذكرى. والأهم أن نُصلح منظومة المسرح والفن والإبداع والثقافة الجماهيرية، وأن نردّ الاعتبار للهواة والمهمشين ممن يناضلون بالكلمة والصورة والفن والجمال، وهذه رسالة مفتوحة للوزيرة الفنانة إيناس عبد الدايم.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق