محفوظ دياب.. كيف نجعل من مجرم بطلا؟
الجمعة، 03 أغسطس 2018 10:20 م
ما الذي تغير في المحتمع؟ ولماذا اختلت المعايير إلى الدرجة التي أصبحنا نقلب الحق باطلًا والباطل حقًا؟ ومنذ متى كان السارقون، والنصابون، والمتمردون، والخارجون على القانون، يجلسون في مقاعد الأبطال، والشرفاء، ويتساوون بهم، بل يفوقونهم في بعض الأحيان؟
الحرامي حرامي، حتى ولو سرق من الأغنياء وأعطى الفقراء.. النصاب نصاب، حتى ولو كان نصبه في شيء لا يذكر.. المهرب مهرب، حتى ولو كان ما يهربه- لامؤاخذة- «شوية كلوتات»! لكن لأن أشياء كثيرة تغيرت، أصبحنا نتعاطف مع الجاني، وإن لم يكن الحق معه، لا لشيء إلا انتقامًا من الطرف الآخر، سواء كان هذا الآخر شخصًا، أو مؤسسة، أو دولة!
في الفلكلور الإنجليزي تبرز الشخصية الأشهر «روبين هود». عاش في العصور الوسطى، وقيل إنه كان فارسًا مهذبًا لا يشق له غبار.. إلا أنه استمد شهرته وأسطورته من خروجه على القانون. نعم أسطورة روبين هود جاءت من خروجه على القانون، بدعوى أنه كان يحارب الظلم والطغيان هو ومجموعته المكونة من 140 رجلًا من أبناء الطبقة المتوسطة، وكانوا- باختصار- يسرقون الأثرياء لإطعام الفقراء.. قطعًا الهدف نبيل، لكن الوسيلة غير ذلك.
أما ذاكرتنا المصرية فتحتفظ- هي الأخرى- بـ«على الزيبق»، وهو واحد من أشهر أصحاب السير والملاحم الشعبية، واستمد شهرته وشعبيته من ذكائه، وملاعيبه وحيله ضد أطراف السلطة «الفاسدة»- وقتذاك- ابتداءً من الوالي وانتهاءً بالعسس. وكانت فلسفته «الجزاء من جنس العمل»، إذا كان يرى هذا «اللص الشريف» أنه كما تسرق السلطة أقوات وأحلام الناس، يسرق هو من السلطة ويعيد توزيع هذه الثروة المنهوبة على الذين سُرِقَت منهم يالبطش والطغيان!
هذان النموذجان- «روبين هود والزيبق»- كانا ضروريين للحديث عن الواقعة التي قلبت مواقع التواصل الاجتماعي، خلال اليومين الماضيين، وبطلاها مذيعة خرقاء، جاهلة، جهولة، وبعض الأطفال والشباب الهاربين من فقر بلادهم للعمل في التهريب في بور سعيد. لكن رواد «السوشيال ميديا» استثنوا من هذه المجموعة الطفل أو الشاب «محفوظ دياب»، الذي قال كلامًا موجعًا، وأطلق إنذارًا مدويًا... لكنه- دون أن يدري- أدان نفسه، وساق مبررات تتيح له فعله المُجَرَّم دينًا وقانونًا.
نعم.. ما فعله «محفوظ دياب» والذين معه «جريمة»، وليس من اللياقة أن نبرر ارتكاب الجرائم على شماعة الفقر والظروف، مهما كانت قسوتها، وإلا سنصبح جميعًا مجرمين بزعم أن الحياة صعبة ودخلنا لا يكفينا.
محفوظ دياب- كما شاهدناه- استهجن كلام المذيعة «المخطئة»، وهي تسأله لماذا لا يعمل في النظافة، أو في منطقة المصانع «الاستثمار»، باعتبارها «شغلانة شريفة».. فكان رده غريبًا عجيبًا: «وآخد خمسين جنيه في اليوم؟ ودا هجيب موبايل، ويأكل إخواتي وأمي؟».. محفوظ لا يقتنع بالخمسين جنيهًا «الحلال»، لأنه يأخذ ثلاثة أضعاف هذا المبلغ من الحرام، ولا يريد أن يتعب مثل بقية «الشقيانين» الذين يأكلون من عرق جبينهم.
محفوظ والذين معه يستسهلون الحرام، شأنهم شأن فئات من المصريين انعدمت ضمائرهم، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم؛ متأثرين بما تنتجه الدراما من أعمال تصنع من البلطجية والحرامية والنصابين، والمهربين أبطالًا، لا يقترب منهم أحد، ولا يجرؤ أي قانون على محاسبتهم؛ لأنهم- باختصار- هم القانون.
لو كان محفوظ دياب ورفاقه جادين في البحث عن ستر ذويهم والإنفاق عليهم، لفعلوا مثل شرائح عديدة من المصريين الذين يعملون في مجالات شاقة مثل «المعمار»، أو اتجهوا لتعليم صنعة، وجميعنا يعلم ما يكسبه الصنايعي يوميًا.. لكن يعملون في «التهريب» بزعم أن المهربين الحيتان «بيعملوا كده»، فهذا عذر أقبح من ذنب.. فليس أن هناك شخصًا سرق ولم يأخذ عقابه أن نتحول جميعًا إلى مهربين ولصوص، فكما نقول: «الحرامي بشيلته»!
ربما يعتقد البعض أنني أكتب هذا الكلام من على مكتبي الفخيم، وأنا أحتسي القهوة الفرنساوي، ولا أشعر بما يشعر به أبناء الصعيد، أو الطبقات المقهورة.. لكن الذين يعرفونني عن قرب يعلمون تمامًا أنني منذ صغري وأنا أعمل في الإجازة الصيفية، وفي خلال الدراسة أيضًا؛ اشتغلت في الأرض، وفي المعمار، والنقاشة، والنجارة، والسباكة.. ولم أخجل من أي عمل مارسته.. بل كنتُ محل إعجاب من الآخرين.
ما أعنيه، أننا افتقدنا «القناعة» والرضا.. لم يعد أحد يذكرنا- إلا ما رحم ربي- أنه لا يوجد أطيب من الحلال- وإن قل- ولا يوجد أخبث من الحرام- وإن كثر.. ثم إن لو كل شخص رفض أن يعمل في النظافة، أو في الأمن، أو في أي مصنع بزعم «المرتب مبيكفيش»، وأن ما يحصل عليه من «التهريب» أو تجارة «المخدرات» أكثر منه، يبقى عليه العوض ومنه العوض في مجتمعنا.
أعلم تمامًا أن محافظات الصعيد «مظلومة على المذاهب الأربعة»، وتحتاج إلى وقفات جادة، وليس وعودًا وشعارات براقة.. وأعلم أيضًا أن الوجه البحري لا يقل بؤسًا عن الصعيد.. لكن ذلك ليس مبررًا لارتكاب جريمة، أو الحصول على رزق حرام.
قد يكون حديثي عن «محفوظ دياب» وصحبه شاذًا عن ما تروج له السوشيال ميديا، التي صنعت منه بطلًا، ليس حبًا فيه، بل نكاية في الحكومة، وفي النظام كله.. لكني لن أستوحش الحق لقلة سالكيه، ولن أخوض مع الخائضين.. فقط، الله من وراء القصد.