استقالة ثالثة من حكومة «ماي».. هل البريطانيون آخر اهتمامات لندن في ملف «بريكست»؟
الثلاثاء، 17 يوليو 2018 08:00 محازم حسين
حتى هذه اللحظة تتمتع تيريزا ماي بدعم جيد من البرلمان البريطاني، وسط أجواء من الترقب والشكوك التي تُغلّف مسار التفاوض المحيط بملف خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، لكن هذا الدعم لا يُعني أن الحكومة البريطانية في مأمن من الخطر.
جاءت تيريزا ماي لموقعها على رأس الحكومة البريطانية قبل سنتين تقريبا، وكان الفضل في هذا الصعود استفتاء "بريكست" الذي اختار فيه البريطانيون الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، واضطر رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون للاستقالة من منصبه بسببه، في ضوء وعد سابق بمغادرة الحكومة حال خروج نتيجة الاستفتاء في صالح الانفصال، الذي لم يكن يوافق عليه.
تيريزا ماي تنكر جَميل "بريكست"
المسار الذي أطاح بـ"كاميرون" وصعد بـ"ماي" كان مُتوقعا أن يقود رئيسة الحكومة إلى اتخاذ موقف داعم لمخرجات الاستفتاء وخيار الخروج من الاتحاد الأوروبي، ليس فقط كاعتراف بالفضل لهذا الاستفتاء الذي منحها المقعد التنفيذي الأهم في المملكة، ولكن أيضا لتجنب احتمال الإطاحة بها من منصبها حال وقوفها في وجه الإرادة الشعبية، لكن الغريب أن "ماي" تجاهلت الأمرين، وبدت طوال الوقت وكأنها تقف في الجبهة التي تسببت في سقوط "كاميرون".
انحياز تيريزا ماي الواضح ضد خيارات بريكست قادتها لتبني كثير من خيارات الاتحاد الأوروبي ومؤسساته في بروكسل، بشكّل تسبب في تعميق حالة الجدل والاعتراض على إدارة الحكومة البريطانية للملف، من الصحافة ورجال الأعمال والجبهات الشعبية الداعمة للانفصال، لكن الأخطر أنها ورّطت حكومة "ماي" في خلافات وشقاقات داخلية عميقة.
الانقسامات تضرب حكومة "ماي"
في أحدث حلقات الانقسام الذي تتصاعد وتيرته في 10 دونينج ستريت (مقر الحكومة البريطانية) عارض وزير الدولة بوزارة الدفاع البريطانية، جوتو بيب، خطة تيريزا ماي لمغادرة مؤسسات بروكسل، التي رأى كثيرون في الحكومة وخارجها أنها تنحاز للاتحاد الأوروبي على حساب بريطانيا، وترجم اعتراضه لصوت احتجاجي بالغ الدلالة والتأثير، ثم مغادرة الحكومة.
بحسب ما نقلت هيئة الإذاعة البريطانية BBC أمس الاثنين، فإن جوتو بيب استقال من منصبه كوزير للدولة للمشتريات الدفاعية في وزارة الدفاع، في خطوة تالية لتصويته الاعتراضي على تعديل لمشروع قانون الجمارك الذي يأتي في ضوء خطط الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو التعديل الذي دعمته الحكومة ورئيستها تيريزا ماي.
في تصويته بالبرلمان، رفض "بيب" التعديل الذي يفرض قيودا على المملكة المتحدة فيما يخص فرض رسوم جمركية على الواردات من دول الاتحاد الأوروبي بعد مغادرتها له، إذا لم تكن هناك ترتيبات متبادلة ومُتفق عليها بين الجانبين، ورغم هذا الرفض فقد مر التعديل المدعوم من الحكومة بعدما أقرته أغلبية البرلمان.
عناد واضح ونزيف مستمر
استقالة جوتو بيب ليست أول استقالة أو تحرك احتجاجي من وزراء ومسؤولين بارزين بالحكومة البريطانية اعتراضا على خطة الخروج من الاتحاد الأوروبي، ففي وقت سابق استقال وزير شؤون بريكست، ديفيد ديفيز، وتبعه بعد أقل من أربع وعشرين ساعة وزير الخارجية بوريس جونسون، واتجهت كل المؤشرات والشواهد إلى أن الاستقالتين نتيجة مباشرة للخلافات الداخلية في أروقة الحكومة، ومساعي "ماي" لفرض وجهة نظرها بشأن الخروج من الاتحاد؟
الخطة التي أعدتها رئيسة الحكومة البريطانية تنحاز لوجهة نظر الاتحاد الأوروبي، الذي سعى منذ إعلان نتائج الاستفتاء في يونيو من العام 2016 للضغط على الحكومة البريطانية لإقناعها بالإبقاء على مساحة عميقة من التواصل والتنسيق، بشكل يشمل قائمة واسعة من الأمور السياسية والاقتصادية، وهو ما رآه محللون ومتابعون التفافا على نتائج الاستفتاء، ومحاولة لتقويض فكرة الخروج وآثاره.
الخطة التي قدمتها "ماي" تتضمن الإبقاء على خطوط اتصال وتنسيق فيما يخص الرسوم الجمركية والاتفاقات الاقتصادية، إذ لن يكون بمقدور لندن توقيع اتفاقات شراكة وتعاون دون موافقة الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي اعترض ليه بريطانيون كُثر، واعترضت عليه الولايات المتحدة الأمريكية على لسان رئيسها دونالد ترامب، الذي قال إن على بريطانيا التحلي بشجاعة أكبر في إنجاز عملية الخروج، وعدم الخضوع لإملاءات بروكسل، ورهن التمتع بعلاقات اقتصادية جيدة وإيجابية مع واشنطن بالاستقلال عن هذه الرؤية.
جبهة داعمي "بريكست" التي تضم مؤسسات صحفية ورجال أعمال، أبرزهم أرون بانكس (أبرز ممولي عملية الخروج والداعمين لها) رأت أن موقف تيريزا ماي يتسم بقدر كبير من المعاندة، وبإصرار على المُضيّ في طريق الخروج بصورة مُرضية للاتحاد الأوروبي، حتى لو بدت غير مقنعة للبريطانين أو مُلبّية لطموحاتهم.
حكومة بريطانيا تتجهل البريطانيين
رغم تصاعد حدّة المعارضة والانتقادات لبرنامج الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتوالي الاستقالات من الحكومة، تواصل تيريزا ماي طريقها بثبات وتحدّ، متمسكة بالإبقاء على علاقات فوق طبيعية مع بروكسل عقب الخروج من منطقة اليورو، بل وتحاول أحيانا تسويق الأمر باعتباره أفضل ما يمكن الوصول إليه، والتهديد - كما حدث مؤخرا - بأنه ما لم يقبل الجميع بخطتها فإن بريطانيا قد لا تغادر الاتحاد الأوروبي.
الواضح أن "ماي" تراهن على الوقت، فالمفاوضات الجارية مع الاتحاد الأوروبي منذ شهور، والاستفتاء الذي جرى قبل سنتين وما زال معلّقا دون محدّدات واضحة لما سيؤول إليه الأمر، من غير المتوقع أن يتم حسم كل ملفاته العالقة في الشهور الثمانية المتبقية على موعد الخروج (المقرر في مارس المقبل)، ووقتها سيقبل البريطانيون بخيارات الخروج المتاحة وما توصل له الطرفان من ترتيبات، هكذا تتخيل "ماي".
وسط تخيلات تيريزا ماي وعنادها وتحدّيها لوجوه عديدة بالحكومة، ولرافضي الإبقاء على علاقات عميقة مع الاتحاد الأوروبي أو منحه مكاسب في مرحلة ما بعد الانفصال، يبدو أن البريطانيين آخر ما يشغل بال "ماي" وداعميها بالحكومة والبرلمان، وأنها ستواصل تجاهل أصوات الاستفتاء ورغبات البريطانيين، مراهنة على ضغط الوقت، ومتناسية أن "بريكست" أطاح بحكومة سابقة لها، وخلال 8 شهور متبقية قبل الخروج، يظل الخطر قائما وعليها أن تتحسس موضع قدمها قبل كل خطوة.