كروية الأرض تنتصر للصين على واشنطن.. سر 12 ساعة تضع أمريكا في موقف "رد الفعل"
الأربعاء، 04 يوليو 2018 09:00 م
أسابيع من التوتر والشد والجذب والتصريحات المتبادلة، منذ تحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن فرض رسوم جمركية على واردات عدد من الدول، بينها الصين، والآن يجد نفسه في موقف رد الفعل وليس المبادر.
خطوة "ترامب" تجاه الصين جاءت في سياق خطوات شبيهة تجاه عدد من الدول الأوروبية والجارتين في أمريكا الشمالية، كندا والمكسيك، وبينما لم يتضح ما إذا كانت دول أوروبا ستتخذ موقفا تجاه واشنطن، أو تطبق مبدأ المعاملة بالمثل، بادرت الصين بإقرار حزمة مماثلة من العقوبات.
الموقف الصيني جاء في إطار ردّ الفعل، لكن تطبيقها المُحكم لمبدأ المعاملة بالمثل وضعها في المقدمة، لتصبح المفارقة التي تصنعها الجغرافيا والفلك و"كروية الأرض" أن الصين التي كانت ترد على الغطرسة الأمريكية، أصبحت هي الفعل والمبادرة، وبالتبعية أصبح موقف ترامب والبيت الأبيض هو "رد الفعل".
بحسب ما نقلته مصادر رسمية صينية لوكالة "رويترز" للأنباء، التي لم تفصح عن هوية هذه المصادر، فإن الصين أقرت فرض رسوم جمريكية على سلع أمريكية تبلغ قيمتها 34 مليار دولار، وهو القرار نفسه الذي اتخذته واشنطن بحق بكين، وقد حدد البلدان السادس من يوليو الجاري موعدا لبدء سريان القرار الجديد.
المفارقة أن فروق التوقيت بين بكين وواشنطن، تضع التنين الصيني في المقدمة 12 ساعة كاملة، ما يُعني أن حزمة الرسوم التي تفرضها الصين ردا على موقف الإدارة الأمريكية المماثل، ستكون الأولى في التطبيق ليتبعها بدء سريان الرسوم الأمريكية.
الخطوة الصينية في إطار حالة الصراع المتصاعدة مع الولايات المتحدة، تُنذر بمزيد من السخونة والتوترات، إذ من المتوقع أن تدفع خطوة الرسوم التي فرضتها بكين البيت الأبيض للتصعيد، وهو ما ستتبعه ردود صينية، لتشتعل حرب تجارية قد تتورط فيها دول أخرى، وبالتأكيد ستعاني منها كثير من الدول النامية والفقيرة على امتداد العالم.
في التقرير الذي نشرته رويترز عن حزمة الرسوم الصينية، قال المصدر نفسه إن "الإجراءات متماثلة، والتماثل يُعني أنه إذا بدأت الولايات المتحدة تطبيق رسومها في السادس من يوليو سنبدأ في السادس من يوليو. وتوقيت تطبيق كل السياسات يبدأ في منتصف الليل".. المعنى العميق في هذا الحديث أن أي تصعيد آخر من جانب واشنطن سيقابله تصعيد مماثل من بكين، ومع حالة الاستقطاب العالمية التي تتشابك فيها كثير من الملفات، لتضم روسيا وأوروبا وحلف شمال الأطلنطي والكوريتين واليابان وإيران، ربما يتطور الأمر باتجاه حرب تجارية واسعة، تزيدها الأبعاد السياسية والصراعات العسكرية في أنحاء متفرقة من العالم سخونة واشتعالا.
هذا التداخل يمكن ملاحظة بشائره باستطلاع تحركات الصين في عدد من الملفات الساخنة بالنسبة للإدارة الأمريكية، وفي مقدمتها ملف إيران، فبينما تستعد الولايات المتحدة الأمريكية لإقرار عقوبات جديدة بحقها، منها وقف استيراد النفط الإيراني، وتضغط على الحلفاء والشركاء للالتزام بهذه القرارات، تتحرك بكين باتجاه توظيف هذا الملف في إزعاج ترامب وإدارته.
في ضوء هذا التداخل بين السياسي والاقتصادي، وبينما تدخل حزمة الرسوم الجمركية الصينية على الواردات من الولايات المتحدة حيز التطبيق منتصف ليل الجمعة، يطير وانج يي، وزير الخارجية وعضو مجلس الدولة في اليوم نفسه للعاصمة النمساوية فيينا، مقر منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك"، لإجراء مباحثات بشأن ملف إيران.
المتحدث باسم الخارجية الصينية، لو كانج، يقول عن هذه الزيارة إنها تأتي في وقت تعمل فيه الدول الموقعة على الاتفاق النووي الإيراني بقوة على إنقاذه بعد انسحاب الولايات المتحدة منه، وفي سياق متصل قالت إيران إن وزير خارجيتها سيلتقي نظراءه من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين في "فيينا"، لبحث سُبل الحفاظ على الاتفاق.
في مسار آخر، نقلت تقارير صحفية عن مسؤولين أوروبيين تأكيدهم أن الصين تضغط على الاتحاد الأوروبي، من أجل إصدار بيان مشترك خلال القمة المرتقب انعقادها الشهر الجاري، للتنديد بسياسات دونالد ترامب والإدارة الأمريكية على الصعيد التجاري، لكنها تواجه مقاومة لهذه الرغبة.
الضغط الصيني على الاتحاد الأوروبي، يُقابله ضغط أمريكي على حلف شمال الأطلنطي "ناتو" لزيادة نفقات التسليح، وضغوط أخرى لتبني العقوبات الأمريكية تجاه طهران، وإرباك أمريكي متعمد لمجموعة السبع الكبرى بعد طرد روسيا، ووسط هذا المناخ من الاستقطاب قد تجد أوروبا نفسها مدفوعة في اتجاه التحول لظهير للسياسة الأمريكية ومعاداة الصين، أو التزام الحياد وخسارة حالة الدفء في علاقاتها مع الطرفين، وهو ما لا يُعني التهدئة بأي حال، حتى لو بدا عكس ذلك.
محاولات الصين للتقرب من أوروبا تبدو قوية ومتواصلة، وفيها إصرار وتنويع في المداخل، فخلال اجتماعات احتضنتها العواصم الألمانية والبلجيكية والصينية، اقترح مسؤولون بارزون في الدولة الصينية، في مقدمتهم نائب رئيس الوزراء ليو هي، ووزير الخارجية وعضو مجلس الدولة وانج يي، إقامة تحالف بين الجانبين باعتبارهما قوتين اقتصاديتين مؤثرتين، وعرضت بكين فتح مزيد من أسواقها في وجه أوروبا كمؤشر إيجابي وبادرة حُسن نية.
هذه التحركات الصينية ربما تبدو مُغرية لعدد من القوى الأوروبية، خاصة مع رغبة الولايات المتحدة في إذعان أوروبا لرغباتها دون مقابل، بل على العكس، مع تحمل فاتورة باهظة سياسيا وعسكريا واقتصاديا، سواء بتمويل كثير من العمليات المشتركة، أو تحملها الرسوم الأمريكية الجديدة على بضائعها، والأخطر ظهورها أمام شعوبها والعالم في صورة التابع السائر خلف إرادة ترامب والإدارة الأمريكية.
لم تُبد أوروبا قبولا للعروض الصينية، هذا ما نقلته قناة "سكاي نيوز" عن مصادر أوروبية، بتأكيدها أن 5 من المسؤولين والدبلوماسيين البارزين بالاتحاد الأوروبي رفضوا العرض الصيني وفكرة التحالف مع بكين ضج واشنطن، رغم قوة الاتحاد باعتباره أكبر تكتل تجاري في العالم ويملك أدوات عديدة للضغط على أمريكا وإيلامها إن اقتضى الأمر، ولكن هذا الرفض لا يمكن اعتباره موقفا نهائيا مغلقا للملف، خاصة مع الاقتراب من موعد انعقاد القمة الصينية الأوروبية يومي 16 و17 يوليو الجاري في بكين.
بعض الإشارات المتواترة من جانب مسؤولين بالاتحاد الأوروبي، رجحت إصدار القمة الصينية الأوروبية بيانا ختاميا يؤكد قوة العلاقات المشتركة، والتزام الجانبين الصيني والأوروبي بالعمل على إيجاد وصيانة نظام تجاري متعدد الأطراف، والاتجاه لتشكيل مجموعة عمل لتحديث منظمة التجارة العالمية، ورغم ما يبدو على هذه المحاور من بساطة وعادية، فإنها قد تكون بداية لمزيد من التنسيق والتوافق بين الجانبين، فضلا عن أنها بهذه البساطة نفسها تحمل رسائل مباشرة لواشنطن، التي تتعمل كطرف وحيد حاكم للنظام التجاري العالمي، وتضع نفسها فوق منظمة التجارة العالمية ونظامها واتفاقاتها.
في الغالب لن تسفر التحركات الصينية عن صنع جبهة أوروبية معارضة للولايات المتحدة، تأخذ موقفا وتواجه التغول الأمريكي على النظام التجاري العالمي ومعاقبتها للجميع بحثا عن مصالحها وحدها، لكن هذه التحركات نفسها وحُدوثها في إطار معلن وأمام الأنظار بدرجة من الدرجات، تحمل إشارة أكثر أهمية حول تحرر النظام العالمي من السطوة المعنوية للولايات المتحدة، وإمكان طرح مسألة عقاب واشنطن أو إصدار بيانات إدانة لها في إطار علني، ما سيُمهد في المستقبل لأن تكون هذه الأمور التي كانت غير متوقعة واقعا فعليا.
بين رغبات الولايات المتحدة المفروضة على الجميع، وتطلعات الصين لفكّ هذه الوصاية، يسير العالم باتجاه تغييرات كبيرة وحادة في الفترة المقبلة، وربما تكون الـ12 ساعة التي دعمت بها "كروية الأرض" موقف الصين في ملف الرسوم الجمركية، وجعلتها صاحبة المبادرة ووضعت واشنطن في موقع رد الفعل، البداية للخروج من الهيمنة الأمريكية على مقدرات العالم.