أحيانا يكون هدوء ترامب نذير حرب.. ترمومتر كوريا يستقر وفرن الصين روسيا يشتعل
الأربعاء، 04 يوليو 2018 07:00 م
دخل دونالد ترامب البيت الأبيض قبل ثمانية عشر شهرا ببرنامج يمني محافظ بدرجة كبيرة، رأى كثيرون من الأمريكيين أنه خطوة تصحيحية لثغرات شابت إدارة الديمقراطيين للبلاد، ورأى آخرون أنه بداية الاستعادة لمجد القوة الأكبر في العالم.
الآن يقف "ترامب" في حقل مشتعل، محيطا نفسه بعدد من الملفات الساخنة، بشكل قد يُرضي بعض ناخبيه، وقد يدفع آخرين للتساؤل عمّا حققه الرئيس الأمريكي الجديد من تطلعاتهم أو ما علقوه عليه من آمال، لا سيما وهو يغلق جبهات صراع ويفتح أخرى، ويطفئ نيران حروب مُحتملة، ويقدح الشرر لإشعال حروب أخرى.
في ملف الاقتصاد يبدو الرئيس الأمريكي متشددا بالدرجة التي قد تثير إعجاب الأمريكيين وتُلهب حماس الظهير الشعبوي الناقم دائما على السياسات الاقتصادية الانفتاحية على العالم، فالرجل الذي يتحرك في كل تفاصيل السياسة والإدارة بعقلية رجل الأعمال ومنطق الربح والخسارة، يتخذ خطوات متتابعة في إطار تقوية الجبهة الاقتصادية الداخلية، وسدّ كثير من المنافذ مع العالم، وتعطيل النجاحات التي تحققها دول أخرى في ساحته الداخلية.
بدأ دونالد ترامب رحلته بفرض رسوم جمركية على واردات الصُلب والألومنيوم من عدد من الأسواق الأوروبية والأمريكية، ثم فرض رسوم أخرى على واردات صينية بعشرات المليارات من الدولارات، تلا ذلك التهديد بالخروج من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا"، الأمر الذي أثار إعجاب القواعد الشعبية الأمريكية، التي طالما نظرت بعين النقد والتوجس لحركة الاستثمارات الحرة عبر الحدود، دخولا وخروجا، والتي تسببت ضمن آثارها العديدة في تصفية كثير من الأنشطة ونقل مئات المصانع خارج الأراضي الأمريكية، مع ما استتبعه هذا من تسريح آلاف العمال.
الخطوات الأمريكية التي بدا في أول الأمر أنها جادة، ربما يضطر ترامب للتراجع عنها قريبا، مع اتجاه الدول الأخرى للمعاملة بالمثل، وفرض رسوم جمركية على وارداتها من الولايات المتحدة، ما يُنذر بالسير باتجاه حرب تجارية موسعة، أو الاتفاق الجماعي على التراجع عن هذه الإجراءات، أو السير فيها للمدى الأقصى، وفي ظل تبادل العقوبات فإن الآثار الإيجابية التي كانت تأمل فيما واشنطن من هذه الخطوة ستتآكل مع تعرضها لعقوبات مقابلة، ما يُعني انعدام فائدة هذه التحركات وزوال آثارها، باستثناء السخونة والصراع والتوجس المتبادل بالطبع.
في الوقت الذي يفتح ترامب هذه الأبواب من الصراعات والحروب المحتملة، يبدو أنه يُغلق أبوابا أخرى أو يسعى لإغلاقها، أهمها بالطبع مسألة كوريا الشمالية والتوصل لاتفاق جاد معها، عقب القمة التي جمعته بزعيمها كيم جونج أون في سنغافورة خلال الشهر الماضي، وهو ما يُمثل مزيدا من الحضور في ساحة كانت وقفا على بكين، وملعبا مفتوحا للتنين الصيني بمفرده، وهي خطوة فضلا عن مكاسبها فيما يخص تهدئة الأجواء في المنطقة وتفكيك الترسانة النووية الكورية، لا يمكن تجاهل أنها قد تكون تحركا ناعما في إطار الصراع المتصاعد مع الصين.
التنين الصيني بات يُشكل مصدر الإزعاج الحقيقي للولايات المتحدة، فالبلد الآسيوي الآخذ في النمو اقتصاديا وعسكريا، يحافظ على معدلات نمو اقتصادي سنوية تتجاوز 13% منذ أكثر من أربعين سنة، وأصبح واحدا من مراكز الصناعة والتكنولوجيا المهمة عالميا، وتشير التقديرات إلى أنه قد يحل في المركز الثاني عالميا ضمن أقوى الاقتصادات بحلول العام 2050، وربما يتفوق على الولايات المتحدة في العقود التالية، ما يُعني أن هذا القرن يمكن اعتباره قرن الصراع الأمريكي الصيني بامتياز.
بالتأكيد لا يغيب هذ البُعد عن أنظار الولايات المتحدة الأمريكية، وفي ضوء اعتيادها العمل على الملفات المحتملة والمستقبلية بالجدية نفسها التي تعمل بها على ملفات الراهن والمشكلات الواقعية، يمكن القول إن واشنطن بدأت منذ الآن الاستعداد لحرب طويلة باردة مع العملاق الصيني الصاعد.
في ضوء هذا التصور يمكن اعتبار كوريا الشمالية واحدا من الملاعب الأولى والمبكرة للحرب المنتظرة، هذا ما يؤكده اهتمام واشنطن الدائم بالعلاقة مع بيونج يانج، ومتابعتها المتواصلة لتطورات الاتفاقات، وتقريبا لا يمر يوم دون تصريح أو إشارة رسمية من الولايات المتحدة في إطار تعزيز هذه الروابط، وآخرها ما قالته هيذر ناورت، المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، حول نجاح واشنطن في تحقيق تقدم كبير على صعيد التواصل مع بيونج يانج وتقليص حدة التوتر معها، وخير دليل على هذا الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية مايك بومبيو.
زيارة "بومبيو" المشار إليها تبدأ الجمعة المقبلة، وهي الثالثة لكوريا خلال 3 أشهر فقط، وهذا التتابع الملفت قالت المتحدثة باسم الخارجية إلى أنه دليل على التقدم الكبير المتحقق في الملف، متابعة: "لو نظرنا إلى الوضع الذي كانت عليه الأمور قبل عام واحد، فإننا قد حققنا تقدما كبيرا، وهذا ما أكده الرئيس دونالد ترامب. العالم كان يعيش حالة ارتباك وقلق بشأن ما يمكن أن يحدث بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية".
هذه التهدئة الكبيرة، تقابلها سخونة على محور آخر لا يقل أهمية، يبدو أنه يتصل بالصراع الأمريكي الروسي، وهو صراع لم تخمد نيرانه منذ الحرب الباردة، مرورا بالملفات المعقدة في الشيشان وأفغانستان خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وحتى الملف السوري حاليا، والموقف الأمريكي المتشدد تجاه طهران، وحزمة عقوباتها المرتقبة تجاه إيران، والضغوط على الشركاء والحلفاء لمشاركتها في إحكام الخناق على الدولة الإيرانية، والردود الإيرانية التي تحمل طابعا تصعيديا وتهديدات ساخنة فيما يخص الولايات المتحدة وسوق النفط ومنظمة أوبك، والملاعب الأمريكية الأساسية في سوريا والعراق، وربما في اليمن أيضا.
هذه المحور الساخن يخص شبكة واسعة من الصراع المحتدم حاليا بين أوروبا وروسيا، يبدو أن ترامب حاول استغلال تشابكاتها التي لم يتم تفكيكها حتى الآن، ليتدخل مطالبا قادة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلنطي "ناتو" بزيادة نفقاتها، وهي الخطابات التي أشارت قناة الحرة الأمريكية إلى أنها أُرسلت في يونيو الماضي، وتلقاها قادة كندا وعدد من الدول الأوروبية، وأعادت واشنطن التأكيد عليها قبل أسبوع من قمة الحلف التي تستضيفها العاصمة البلجيكية بروكسل يومي 11 و12 يوليو الجاري.
زيادة النفقات الدفاعية والمخصصات العسكرية لدول حلف شمال الأطلنطي، ستقابله بالضرورة تحركات وإجراءات احترازية روسية، خاصة مع استمرار الآثار السلبية لمحاولة تسميم الجاسوس الروسي السابق سيرجي سكريبال في بريطانيا، والتي كانت السبب في عدم إرسال المملكة المتحدة وفدا رسميا لبطولة كأس العالم 2018 التي تستضيفها روسيا حاليا، واتخاذ عدد من دول القارة العجوز مواقف داعمة لبريطانيا في مواجهة روسيا، وطرد الأخيرة من مجموعة الدول الثماني الكبرى.
رغم هذا الموقف الأوروبي الواسع من روسيا، الذي قد يُرجح استجابتهم لمطالب البيت الأبيض بزيادة نفقات الحلف، فإن الاجتماع المرتقب في بروكل يأتي في أجواء من الخلافات العميقة التي تعبئ الأجواء بين ضفتي حلف "الناتو" على خلفية الموقف الأمريكي في ملف الرسوم الجمركية، وانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران، واتفاقية باريس للمناخ، واتجاهها للانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا"، التي تضم كندا ضمن الدول المستفيدة منها.
كانت الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلنطي "ناتو" قد تعهدت عقب ضمن روسيا للشبه جزيرة القرم في العام 2014، بالعمل معا على زيادة إجمالي الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي لدولها خلال عشر سنوات، وهو ما هدأت وتيرة العمل على تحقيقه، بينما تعاملت روسيا من جانبها معه بتسريع وتيرة التسليح وزيادة حجم الإنفاق العسكري والإعلان عن أسلحة جديدة وعن حجم التطور في قدراتها الهجومية والدفاعية، ما أعاد للأذهان أجواء الحرب الباردة وسباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
مجموع هذه التفاصيل الصغيرة في ملفات ترامب المفتوحة، سواء التي ينفخ في نارها أو يسعى لإطفائها، تؤكد أن ما قد يستشعره البعض من هدوء سياسي في أداء البيت الأبيض، ربما يكون نذير توتر وسخونة وحروب أحيانا، وفي الوقت الذي تهدأ فيه الأجواء على الصعيد الكوري الشمالي ويشير الترمومتر إلى انخفاض درجة الحرارة على جبهتها، فإن فُرنا ضخما يتأهب للاشتعال في سوريا وإيران.