فصل من فصول تلوث النيل.. أين اختفت أسماك بحر يوسف؟
الأربعاء، 04 يوليو 2018 10:00 ص
في إجازة عيد الفطر المبارك الماضية، قضيت حوالى 3 أيام بقرية "منهره" مركز إهناسيا المدينة محافظة بنى سويف، حاولت فى هذه الساعات القليلة الإلمام بأحوال القرية، من كافة النواحى، غير أنه لفت انتباهى خلال أيام الإجازة، ما شاهدته في بحر يوسف ــ الذى يمر بين قريتى وقرية زوجتى، قريتى منهره ومنشأة الحاج ــ والذى تغير 180 درجة، خلافاً لكل مشاهداتي له خلال الطفولة والمراهقة و حتى الشباب.
أين الشاطىء؟
المهم أننى لاحظت عدم وجود قوارب صيد فى القرى من حولنا، كما لاحظت عدم وجود صيادين بالشِباك أو السنّار، وحاولت الجلوس لفترات معينة من النهار والليل على شاطىء البحر، وخاصة فى فترة ما بعد العصر وحتى المغرب، وهى الفترة التى كانت أجمل أوقات صيد السمك من البحر خلال مرحلة الطفولة، ولكن ــ للأسف ــ هالنى ماشاهدت وما لاحظت وما رأيت، وكانت أولى ملاحظاتى أن أعمال تعميق البحر وإزالة الطمى والرواسب والحشائش ،جعلت المياه تبتعد عن الشاطىء الذى كنت أعرفه طفلاً، وحلت محله التعديات على حرم البحر بمساحات تتراوح مابين متر إلى 50 متراً، ولذلك أقيمت مبانى ومحلات وبيوت ، مكان الشاطىء، الذى كانت لنا فيه أجمل الجلسات والسباحة والسهر على البحر، وسألت أصدقائى وأقاربى عن وقت الصيد، لعلى اختلس من أجازتى دقائق لممارسة هذه الهواية القديمة، غير أن الإجابة جاءت صادمة لى : «لاتوجد أسماك كما كنت تراها زمان».
قرموط 20 كيلو جراما
عاندت وكابرت وقلت: «سوف أتأكد بنفسى، وفعلاً جلست فى مكان قريب، من الذى كنت أجلس فيه وأقاربى وجيرانى وأصدقائى للصيد زمان»، وتوقعت أن نشاهد الأسماك، وهى تقفز على سطح الماء ، فرحة سعيدة مسرورة وتلتهم قطع الخبز التى نلقيها لها فى الماء، بل تتشاجر الأسماك مع بعضها البعض على الفوز بها، ونحن نغافلها ونغترف بالمصفاه أو الشباك العشرات بلا المئات منها، ونعود بها إلى البيت مسرعين ، لنجعل منها المقلى والمشوى وبـ "الدمعة"، وهكذا حتى آخر النهار ودخول المغرب، ليس هذا فقط، بل إننا ــ وخلال رى المحاصيل الزراعية بالحقول ــ كُنّا نعود إلى البيت ليلاً أو نهاراً ، محملين بالأسماك البلطى والقراميط وثعابين السمك و أبو الرعاش والبياض وغيرها، أجولة مملوءة بخيرات المصارف المائية والترع والمساقى، بل هناك ما كان أعجب وأغرب من ذلك بكثير، فقد كُنّا نحصل على الأسماك وخاصة القراميط من الأراضى والحقول بعد ريها بيوم واثنين ، وبعد أن تبدأ فى الجفاف، نجد القراميط تصارع الموت بالعشرات والمئات زاحفة على سطح الأرض، بعد أن جفت عنها المياه، فنأتى بأجولة الأسمدة أو التقاوى ونجمع القراميط من الأرض الطينية، وكأننا نجمع أو نجنى ثمار محصول حان وقت قطافه وحصاده،بل تجاوز الأمر ما هو أغرب من ذلك ،حيث لاحظت فى يوم من الأيام قرموطاً يتجاوز وزنه الـ 20 كيلو جراماً ،يمخر عباب أحد المساقى فى حقلنا، متجهاً إلى الترعة فجريت مسرعاً حتى أغلق عليه المسقى، فلم أجد شيئاً كبيراً لسد المكان، وكان القرموط يجرى وأنا أسرع حتى لا يصل إلى الترعة قبلى، وعندما لم أجد ما أغلق به المسقى قفزت فى الماء وصنعت من جسدى سداً وناديت على من يعاوننى على الإمساك به، فإذا به يقفز من فوق رأسى إلى الترعة قفزة حيوان كأنه مفترس.
تلوث النيل
حملت همومى تلك إلى أحد خبراء المياه والثروة السمكية، وحكيت له كل ذلك وأكثر، فكانت ردوده وكلماته موجزة ومختصرة ومن خلال الأرقام ، التى ترصد أنواع وكميات الملوثات الرئيسية القادمة من الصرف الزراعي في نهر النيل وهي الأملاح، ومخلفات المبيدات، ومسببات الأمراض، والملوثات السامة العضوية وغير العضوية، وأكد الخبير فى شؤون المياه ، أن نهر النيل يستقبل المياه من 124 مصدراً من مصادر الصرف، ومنها 67 زراعية، والباقي هي مصادر صرف صناعية، ليس هذا فقط ، بل أن هناك الصرف الصحى المباشرة على النيل فى أسوان وغيرها من المحافظات.
كما رصد تقرير صادر عن جهاز شئون البيئة، فى ديسمبر عام 2017، مصادر تلوُّث النهر، و التى تدرجت خطورتها، من مياه تبريد محطات الكهرباء، حتى صرف المنشآت الصناعية، ولفت التقرير إلى أن تغيُّر نوعية مياه النهر يؤدى بطريق مباشر أو غير مباشر إلى الإضرار بصحة الإنسان.
وأشار التقرير إلى أن هناك 72 مصرفا زراعيا يلقى مياهه بطريقة مباشرة فى النيل بحوالى 13.7 مليار م3 سنويا، من المياه المحمَّلة بالمبيدات والكيمياويات، جنبا إلى جنب مع الصرف الصحى الخاص بالقرى المحرومة من الخدمة، وتابع التقرير راصداً حوالي 872 مليون م3 سنويا من مياه الصرف الصحى غير المعالجة أو التى تعرضت لمعالجة ابتدائية فقط، تلقيها محطات المعالجة بالوجه القبلى و4 مصارف بفرعى دمياط ورشيد، وهى الرهاوى وسبل وتلا وعمر بك.
وأكد التقرير أن هناك 14 محطة كهرباء تلقى بحوالى 4.2 مليار م3 من مياه التبريد فى النهر، وأن هذه المياه مطابقة كيميائيا ومخالفة فقط فى ارتفاع درجات الحرارة عن الحدود المسموح بها قانونا، كما تحدَّث التقرير عن صرف المنشآت الصناعية بوصفه الأكثر تأثيرًا على نوعية المياه، لاحتوائه على العديد من المركبات العضوية وغير العضوية، إضافة إلى المعادن الثقيلة، وأن النهر يستقبل 150 مليون م3 من مياه الصرف الصناعى سنويا من 8 منشآت صناعية تتبع وزارة التموين منها 6 مصانع لصناعة السكر و2 لصناعة الورق، والسؤال هنا بعد كل تلك الملوثات يمكن أن تتبقى أسماك فى البحر والنهر؟؟.