السحور على «طبلة دلال».. مسّحراتية المعادى
الأربعاء، 30 مايو 2018 03:19 ص
طبلة مستديرة ومزامير شّامية وأطفال يَجُرّون الشوارع وراء المسّحراتية، يُرددون فى مرح غير معهود، تيّمة السحور التى يحفظها المصريين عن ظهر قلب " أصحى يانايم.. يا نايم أصحى..وحِّد الرَّزاق".
فى ساعة السَّحَر، كانت الأمهات تشمر عن ساعدها لإعداد وجبة السحور المتراصّة فوق مائدة ضخمة فى منازل المسلمين، منتظرين عم"محمد" المسحراتى، اللاتى تعودت أسماعهن على صوته الدفق، لكنهم سرعان ما يلفت إنتباهم صوت أنثوى يمهد لمسحراتية جديدة تخترق شهاب السماء المتدلية على وجهها الحانى، وهى دلال التى تبلغ من العمر 44 عامًا، متزوجة، وأم لأربعة أطفال.
خرجت الأمهات من الشُرفة، بشغف غير معهود، ليجدّن سيدة تعلق فى رقبتها طبلة فى ساعة السَّحَر، تغنِّي وتصدَح في شوارع المعادى «أصحي يا نايم وحد الدايم.. وقول نويت بكرة إن حييت.. الشهر صايم والفجر قايم.. ورمضان كريم»، كجوابٍ ورقيِّ قديمٍ يحمل رسالةً معطَّرة من حبيبٍ، تنادى على الجميع أن يشهد السحر قبل أذان الفجر بخفة ولطافة.
بقدميها النحّيلتين تجوب السيدة "دلال" شوارع المعادى، تتحمل وطأة التعب والإرهاق الذّى ينهك جسد سيدة ستنينة من بوابة أحمد ذكى إلى النادى الجديد مروراً بالنصر وينتهى بها المطاف بشارع اللاسكى ودمشق والجزائر.
بضربات فنّية توجّهها إلى الطبلة، وبأسماء أصحاب المنازل التى حفرت فى الذاكرة، تقف منال أمامهم ترسل سلامًا وتطلب منهم الاستعداد للسحور "خدت عهد على نفسي، طول ما فيّ صحة هفضل أسحر الناس، حتى لو هعدي على شارع واحد وأسحره وأرجع تانى".
منذّ 7سنوات، فقدت أسرة دلال فلذة كبدها، فقدت الأخ الأكبر الذّى استخدم طبلته لسنوات عديدة فى إيقاظ الجيران بدندنته الجميلة وأشعاره الشامية المحببة للأسماع، فتسائلت دلال فى حنايا نفسها "كنت عمّاله ببص على الطبلة، واسأل نفسي ازاي مفيش حد هيسهر الناس تاني؟".
تقول دلال: عندما توقفت الطبلة، شعرت أن قلبى توقف، وأن مشهد تصويرى حزين خيّم على سماء المعادى، فنويت أن يكون لى دوراً فى إيقاظ الناس "كنت بنزل معاه وألعب مع العيال وراه، الأطفال كانت بتطلب يقول اسمها وهما سعدا ومبسوطين".
فى منتصف رمضان 2011، قررت أن أكشف وجهى فى أنوار النجوم المتدلية على عناقيد الإستريا التى تحتضها المنازل بخيوط رقيقة تحمل منظراً خلاباً تروح له النفس، حاولت بكل الطرق الممكنة أن تقاوم تعب المشي بالوقوف كثيرًا في منزلها، والاستعداد للشارع، غنّت كثيرًا "سحورك يا صايم، وحّد الدايم، لا إله إلا الله.. رمضان كريم"، لتقرر في منتصف شهر رمضان قبل سبع سنوات النزول إلى الشارع الذي ابتسم له.
أعارت دلال للكلمات صوتها الشجيِّ، فارتدَت الكلماتُ موسيقى، لم تكن لها في الماضي، لكنها تماهت معها، ربَّما لأنها تنبُع من قلب قُدِّر له أن يعشق السُحر صوتًا وطبلةً، فأثارا بداخلها موسيقى انتظرت كي تخرج هي الأخرى لتعانق دائرة الزَّمن.
الإرهاق الذّى يظهر أثاره على قدميها فى المشي طويلاً تراه الحاجة دلال لا يساوي أي شئ مقابل سعادة الجميع بوجودها، "بقيت بعرف يعني ايه أخلي الناس مبسوطة، أراضيهم وأخلي قلوبهم فرحانة".
الماضي لا يضيع تمامًا ما دامت هناك ذاكرة تحفظه، وقلوب تحنُّ إليه، هكذا كانت رسالة دلال فى شوارع المعادى لا تعبأ بطول السير أو وجع اليدين.
المسحّراتي صورة لا يكتمل شهر رمضان بدونها، وهو يرتبط ارتباطا وثيقا بتقاليدنا الشّعبية الرّمضانيّة، فقبل الإمساك بساعتين يبدأ المسحّراتي جولته الّليلية في الأحياء الشّعبية موقظاً أهاليها للقيام على ضرب طبلته وصوته الجميل يصدع بأجمل الكلمات مما يضفي سحرا خاصّا على المكان.
صوت الطبلة التى تتقاذّف منها الأصوات بين خفة يد دلال، يحمل ماضيًا طويلاً، من «بلال بن رباح» أول مؤذن وموقظ للسحور في الإسلام، و«عنبسة بن إسحاق» أول موقظ للسُّحور في مصر الذي كان يمشي بنفسه من مدينة العسكر بالفسطاط حتى جامع عمرو ليوقظ النَّاس، ثم الدَّولة الفاطميَّة التي أحضرت معها الاسم، وطبلته.
كانت في البداية صوتًا بشريًا فقط، ثم يدًا يخبِّط بها، نبابيتًا أحيانًا، مزامير وأغاني شاميَّة أحيانا أخرى، حتى أنَّه ذات مرة كانت امرأة، تغنِّي وتصدَح في الحيِّ بصوت جميل كي توقظ أهله من خلف مشربيَّتها، قالوا أن ذلك كان في الدولة الطولونية.
أحبّت الحاجة دلال خلال تلك السنوات المهنة التي ترى أنه لا يصح وصفها بمهنة لأنها واحد من التقاليد الجميلة التي يحبها الجميع، غير أنها ترى فيها صعوبة كبيرة وتعبًا جمًّا "المشي على الرجلين متعب للغاية، وصوتي اللي بيروح من كتر ما بنادي على الناس، والإجهاد اللي بيضرب جسمي كله أول لما بروّح بيتى".
السحورعلى طبلة دلال
السحورعلى طبلة دلال
السحورعلى طبلة دلال