زيارة في بلاد العم سام
الإثنين، 21 مايو 2018 12:18 م
في زيارة منظمة من خلال وزارة الخارجية الأمريكية، لاكتشاف التجربة الأمريكية في مكافحة التطرّف العنيف وحماية الشباب، والتي استمرت ما يقارب الشهر، وتنقلنا خلالها من شرق الولايات إلى غربها ثم جنوبها لنعود إلى شمالها الشرقي.
وبدأت الزيارة بالعاصمة الأمريكية واشنطن، وهي مدينة جميلة ومنظمة ومن ثم (فرجينيا ، ماريلاند ، كالفورنيا، تكساس)، وانتهت في مدينة ريادة الأعمال والتعليم الأكاديمي العالي مدينة بوسطن، أو ما تسمى بــ(نيو انجلند) التابعة لولاية ماساتشيوستس.
زرنا في هذه الولايات العديد من المؤسسات الحكومية الرسمية، والتقينا مع المسؤولين فيها، وأيضا عدد من منظمات المجتمع المدني، هذه الزيارة المتنوعة بكل تفاصيلها أتاحت لنا الفرصة، لأن نرى أمريكا من الداخل ونفهم الكثير من الأمور عن بلاد العم سام، وتركيبتها المتنوعة، وكيف يشتغل نظامها؟ وكيف يواجه المجتمع مشاكله بالذات التطرّف والعنف؟
وهذه المعرفة المباشرة مهمة، فقد تقرأ عن أمريكا الكثير وقد تسمع من الذين يحبوها أو يكرهوها، وأيضاً من الذين يحرضون ضدها، لكن أن تكتشف أمريكا من الداخل بنفسك، فستجد الأمر مختلف نوعاً ما وستكتشف الحياة الأمريكية كما هي، وبالذات إن كانت زيارتك مرتبطة بالسياسة والحكومة والمجتمع المدني وشملت أكثر من ولاية، وما يساعدك على تفحص الواقع التواصل المباشر مع مسؤولين، وناشطين مدنيين ومثقفين، ناهيك أنك تتحرك ومعك شركاء من دول عربية أخرى، ومن خلال الحوار والنقاشات والعصف الذهني والتبادل، وآليات التواصل المرنة والراقية ستمتلك مفاتيح كثيرة لفهم أمريكا، وهذا يسهم لا محالة في تقييم الكثير من الأمور، وربما ينتابك إحساس كم من التظليل مورس على، وعينا بالذات من منتجي الكراهية ضد الذات وضد الأخر.
يعتقد الكثير أن أمريكا غير مفهومة وتركيبة معقدة، لا يمكن استيعابها وهي كذلك، لكنها تركيبة قابلة للفهم، إن تحيزت بإنسانيتك وفرديتك، وتذكرت بأن أمريكا الداخل مختلفة عن تعقيدات الصراع الدولي.
فالبعض قد يكره أمريكا ويندفع ضدها بالتطرف، وحتى بالعنف ويحملها كل مشاكل العالم والواقع أنك بمجرد أن تضع قدمك في هذه الأرض، وتبدأ بالاحتكاك ستجد نفسك جزء منها ومن إنسانها، فأمريكا أرض مشاع لكل إنسان في الأرض وهي أرض الهجرة، وهذا ما يجعلك لا تشعر بالغربة فيها، ففيها عرب ومسلمين كثر وأين ما تحركت قد يكون لك قريب فيها.
قد نختلف مع أمريكا في أمور كثيرة، إلا أن أمريكا تشكل نموذج فريد وفرادتها أنها أرض مفتوحة ومجتمع متعدد ومتقدم، وفيها حركة الدولة والمجتمع حيوية وهي لا تتوقف حالة البحث عن كل جديد وتطوير ما هو موجود، فتبدو كذات متحررة كل طموحها بناء القوة من أجل السعادة وهذا ينتج أخطاء كثيرة، وميزة أمريكا أنها تعترف بأخطائها في الداخل بشكل دائم بهدف التصحيح، كما أن سياستها الخارجية قابلة للتحول والتغير، وميزة أمريكا أيضا في بحثها عن التغيير داخليا، أنها تبني قوتها من أجل المواطن.
ويلعب المواطن الفرد دوراً حيوياُ في السياسة الأمريكية على المستوى الداخلي، لذلك سنجد المجتمع المدني بكافة مظاهره وشبكاته المعقدة والمتعددة له السطوة والقوة والتأثير وبناء التغيير.
وملاحظة مهمة فعندما تفكر أمريكا بالعالم، فإنها تريده أن يكون على صورتها، باعتبار أن تركيبتها الديموغرافية وخلاصة تجربتها هي محصلة بني الإنسان في هذه الأرض، فأمريكا فعليا معولمة من الداخل، وربما هذه مبالغة لكن الواقع يحكي أنك في أمريكا، ستجد هوية معاصرة يتفاعل داخلها الأوروبي والعربي والأفريقي والأسيوي واللاتيني والروسي.. إلخ، وجميعهم يسعون ليندمجون في بيئة اجتماعية وسياسية تسعى من أجل التوافق والتكامل والانسجام، ويركزون على التنمية المتطورة والمستدامة في كافة المجالات.
المعادلة بكافة مدخلاتها ومخرجاتها تخلق مشاكل كثيرة في الداخل الأمريكي، ومشاكل مع العالم الخارجي لكن ما يميز أمريكا، أن كل شيء قابل للتصحيح، لذلك النموذج الأمريكي يتقدم ولا يتأخر ولا يمكن لأمريكا، أن تسقط كما يبشر البعض فهي أرض حيّة تصحح أخطائها، باستمرار وتسعى وراء الاختراع والإبداع بلا توقف، والفرد فيها هو الحاكم والمحكوم ومحور الدولة والمجتمع وحركة الأفراد الكلية، تخلق حراك حيوي لا يمكنه أن يتوقف أو يسقط بالذات، إنه محكوم بالقانون والوعي المدني، وفي حالة تحول مستمر من أجل تحسين الحياة.
أمريكا بلاد متواضعة في الداخل، ومن تجربتي في هذا البرنامج التقيت بأمريكيين متعددين ومتنوعين، من حيث الأصول الحضارية القادمين منها، ومن حيث العرق والاهتمامات والمصالح، فوجدتهم في الغالب العام يشرحون تجاربهم ببساطة وتلقائية، وما أذهلني أنهم كانوا يطلبون منا مساعدتهم في فهم مشاكلهم الاجتماعية، وأن نقترح عليهم ما نراه من حلول لمشاكلهم، وهذا يدل على بحثهم المتواصل عن التصحيح، كما أن الشعب الأمريكي شعب لطيف وراقي، وعنده القدرة على تلبية المساعدة، إن استطاع ذلك وتجده مستعد في أي وقت تطلبه المساعدة.
أتذكر ما قاله لي صديقي القادم من دولة شقيقة ألا ترى أن أمريكا لديها سحر عظيم، وبمجرد أن تضع قدميك فيها وتلتقي بأول شخص أو جماعة ستجد نفسك جزء لا يتجزأ منها بكل سلبياتها وإيجابياتها، وأن هذا البلد بكل أخطائه لا يمكن لفرد طبيعي، إلا أن يحبه بمجرد أن يتعايش معه! وهو لم يخطىء بذلك.
هذه هي أمريكا كل من يصل إليها، يعتقد أنه ينتمي إليها، لأنها دولة المهاجرين القادمين من كل أنحاء العالم، إلى هذه الأرض الجديدة، التي يراها الأمريكي المعتدل، بأنها أرض لكل إنسان، وقد تجد مسؤولين يدافعون عن المهاجرين، حتى غير الشرعيين إلى هذه الأرض، وهو لا يملك هوية ويتعامل معه باعتباره أمريكي، وعندما تسأله لماذا فهذا مخالف للقانون؟ فيجيب عليك طالما أن هذا الشخص لا يخترق القانون وملتزم بأداب الحياة العامة، فله الحق الكامل بأن يعيش في أمريكا ويصبح مواطنًا أمريكيًا، وإذا لم نقبل هذه الفكرة فإننا نخون أمريكا، فهذه بلاد جديدة وكلنا مهاجرون إليها ومن حق أي إنسان أن يأتي ويعيش فيها ، وعندما تسأله عن الرئيس ترمب وتشدده بالتعامل مع قوانين الهجرة يجيب انه لا يتفق معه كلياً .
امريكا من الداخل بكافة ولاياتها تعيش تجاربها الخاصة ولا تهتم للشؤون الخارجية، وامريكا من الداخل تبحث عن الانسجام والتوافق والتواصل ومواجهة ومكافحة كل التهديدات الداخلية والخارجية ، ولو رأيت أن كل امريكي مهما اعترض على سياسات حكومة أمريكا الفدرالية أو الحكومة المحلية، ستجد أن الجميع متفقين على حب أمريكا، والعمل من أجل الفرد لتكون أمريكا عظيمة، ويريدوها أن تكون نموذجاً، وتبقى أرض الأحلام والسلام.
وسنجد الكثير من الأمريكين لديهم اعتراضات، وغضب حول السياسات المختلفة التي ينتج عنها مظالم، تصيب بعض الأفراد لكن الجميع يلتزمون بالقانون ويحترمونه، صحيح بأن هناك أقليات متطرفة إلا أنها لا تشكل ظاهرة عامة، لكن الأمريكين أنفسهم يرونها خطرًا كبيرًا، وتعمل قوة فاعلة داخل الدولة والمجتمع لمكافحة هذا التطرف، ومواجهته عبر استراتيجيات ناعمة وفرض سلطة القانون.
وخطر الإرهاب والتطرف العنيف حالة إجماع واتفاق جماعي، بأنه من الواجب مواجهته ومكافحته والتصدي له مسؤولية الدولة والمجتمع، وتتبع أمريكا سياسات متنوعة في هذا الجانب، وتحتاج إلى تفصيل ربما أكتب عنها لاحقًا، وعندما تقول للمسؤول الأمريكي إن أمريكا هي سبب التطرف والإرهاب، في العديد من الأماكن في العالم، وهذا بسبب حروبها المنتشرة في العالم، فيجيب أن ظاهرة الإرهاب معقدة، ونحن نعاني منها في الداخل الأمريكي، كأي دولة ومن الجهل تجاهل استغلال الدور العالمي، في التحريض لتنمية الإرهاب، وحجم المسؤوليات الأمريكية كبيرة، وهي تسعى دوماً للتعاون مع الجميع لمكافحة التطرّف، ومن حق الولايات المتحدة الأمريكية أن تحارب الإرهاب في جميع أنحاء العالم، لتحمي مواطنين هذه الدول، ولتحمي نفسها حتى لا يصل الإرهاب إليها، وهناك مبالغ طائلة ترصد من أجل هذه الغاية، وقد تختلف طرق مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف في أمريكا، سواء من قبل الحكومة أو منظمات المجتمع المدني، وبرنامجنا الذي كنا فيه أكبر دليل، خصوصاً أنه لم يكن بيننا أي أمريكي فقد كنا عرباً فقط.
أمريكا بلاد الحرية، الجميع ينتقد الصحيح والخطأ ويتبادلون الآراء بأريحية كاملة، فحرية التعبير مقدسة والعنف الغير الشرعي الذي ينتجه الأفراد والجماعات يمثل جريمة كبرى، يواجه بقسوة من قبل المؤسسات الرسمية وينتفض المجتمع لمواجهة هذا العنف، ويقف بكل قوة أمام أخطار مالكي سلطة القهر والقسر الشرعية، فمثلاً أخطاء الشرطة ورجال إنفاذ القانون بحق المواطنين، لا يتم التساهل معها ويتم إخضاع من أخطأ للقانون ومعاقبته إن ثبت ذلك.
وهذه اللمحة الأولى عن أمريكا فهي فعلا دولة تستحق الاحترام .
وبعد هذا كله ، ما أعجبني وأشعرني بالفخر بين الزملاء العرب المشاركين، وأمام الأمريكيين من مسؤولين ومواطنين، إنني وجدت العديد من النماذج الأمريكية، والتي نتغنى بها موجودة في بلدي، التي قطعنا فيها أشواط كثيرة في التنمية وبناء الحياة الحرة للمواطنين، وتجربتنا في مكافحة الإرهاب والتطرّف نموذجاً يحتذى، ولدينا بالفعل نماذج قريبة ومتشابهة مع أمريكا.
تمثل قيادة جلالة سيدنا الملك عبدالله الثاني، المنفتحة والباحثة دوما عن التقدم، وما ينفع المواطن الأردني من أهم المحفزات التي تدفع المجتمع الأردني إلى العصرنة، وبناء الحياة بالاستفادة من تجربتنا التاريخية ومن الآخرين كالأمريكان.
وكل هذا للنهوض بوطننا لم يأتِ إلا بالجهود الكبيرة وبالخبرات المحلية والتلاقح مع تجارب العالم المتقدم، والذي تمثل أمريكا رأس الهرم فيه.
وما يجعل أمريكا دولة قوية هو الالتزام بالقانون، وهذا الأمر دوماً ما تركز عليه القيادة الأردنية، وأتذكر ما ناقشه جلالة الملك في أوراقه النقاشية بخصوص سيادة القانون، وطلب من الأردنيين ساسةً وشعبًا أن يطبقوه ويلتزموا فيه، وأيضا ما يطلبه جلالته من التزام المواطن الأردني ومشاركته بالإدارة المحلية لاتخاذ قرارت من شأنها النهوض بمستوى الوطن والمواطن، وليكون المواطن هو أساس الحكم فهو أيضا مطبق في أمريكا.
وأيضا تعامل الشرطة الأردنية مع المواطن الأردني، بأفضل الطرق التي ترسخ معاني الشرطة المجتمعية، والتي تساهم في بناء جسور التعاون بين المواطن ورجل الشرطة، هو أيضًا مطبق في أمريكا وتحديداً في مدينة بوسطن، وكل هذا أذهلني وجعلني أتسائل، لماذا ليس لدينا الإرادة الحقيقية كشعب ومسؤولين لتطبيق ما يقوله جلالة الملك؟ فهذا كله مطبق في أعظم دولة في العالم، وهي أمريكا التي ننظر إليها كأرض الديمقراطية والحريات والأحلام، ونحلم بأن نكون مثلها! لذلك يجب أن نقف بجانب جلالة الملك الذي يطالب وينادي المسؤولين والشعب الأردني، ليلاً نهاراً بالتطوير والنهوض بوطننا لتوفير أبسط أشكال العدل والمساواة والعيش الكريم للمواطن.
بالنهاية هذه التجربة الفريدة كانت مكسباً كبيراً لي؛ لتعلم ما هو جديد وما يمكن تطبيقه ونقله إلى بلدي الحبيب الأردن، فكل الشكر الى حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، ممثلة بوزارة الخارجية الأمريكية، التي أتاحت لنا هذه الفرصة الرائعة، فأمريكا لطالما كانت دائماً الحليف والصديق القوي للأردن، والجدير بالثقة طيلة السبعة عقود الماضية، مع أمنياتي الدائمة باستمرار هذه العلاقة القوية، بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين.