العبثيَّة الترامبيَّة وتداعياتها على السلم والأمن الدوليين (7)

الجمعة، 20 أبريل 2018 08:50 م
العبثيَّة الترامبيَّة وتداعياتها على السلم والأمن الدوليين (7)
د. حاتم العبد

أحدث القرار العبثي للرئيس الأمريكي ترامب بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والإيعاز لوزارة خارجيته ببدء الخطوات الفعلية لنقل السفارة الأمريكية بإسرائيل إلى القدس، زلزالًا عربيًّا وإسلاميًّا، وجلب سُخطًا دوليًّا، وأشعل فتيل انتفاضة فلسطينية جديدة، مرشحة لأن تكون انتفاضة مسلحة بامتياز، وأوقع وابلًا من حجر سجيل على السلم والأمن الدوليين. اقتضى القرار العبثي تحركًا عربيًّا وإسلاميًّا لمجابهته، ونجح مشروع القرار الفلسطيني– مصريّ التعديل– في حصد 14 صوتًا في مجلس الأمن من أصل 15 بعدما استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو، لكن شبه الإجماع هذا يدل على رفض القوى العظمى للقرار الترامبي، ثم تلقّت العبثيَّة الترامبيَّة صفعة جديدة، وفضيحة مدويَّة، عندما صوتت الجمعية العامة بأغلبية تاريخية ضد نفس القرار، الأمر الذي يمكننا القول معه، أن العبثيَّة الترامبيَّة قد وضعت الولايات المتحدة في مواجهة مباشرة وصريحة مع الأمم المتحدة !! والتساؤل الذي يفرض نفسه وبقوة في هذا المضمار : ما هي القيمة القانونية للاعتراف الترامبي بالقدس كعاصمة لإسرائيل ؟ وثيق صلة بهذا التساؤل، تساؤل آخر لا يقل عنه أهمية، بل هو نتيجة له ؛ التساؤل هو : ما هي تداعيات هذا القرار على السلم والأمن الدوليين ؟
 
بادئة لازمة ؛ تتبدى القيمة القانونية لأي قرار أو تصرّف بتحديد أطرافه وموضوعه، وتتمتع آثاره بالنسبيَّة، أي باقتصارها على طرفيها، فلا يحاج بتلك الآثار على الغير، ولا يتمخض عنها وضع قانوني يرتب حقوقًا والتزامات في مواجهة الغير، تمامًا كما هو الحال في بيع ملك الغير ؛ فمن يبيع سيارة جاره من دون سند قانوني يخوله ذلك، كتوكيل بذلك، أو من يبيع سيارة مسروقة، لا ينتج هذا التصرف أي آثار قانونية ولا يحاج به لا على صاحب السيارة، ولا على الآخرين ؛ فهو والعدم سواء وكأن لم يكن وتقتصر الآثار على الطرفين فقط. 
 
إن قرار اعتراف دولة ما بعاصمة جديدة، أو نقلًا للقديمة، لدولة أخرى ونقل السفارة إليها هو عمل سيادي للدولة الأولى، لا ينازعها فيه أحد، تقف آثاره عند حد علاقتها بالدولة الثانية، فمثلا : إذا ما قررت مصر تغيير عاصمتها– وهو قرار سيادي لها– بجعلها محافظة الإسكندرية بدلًا من القاهرة ؛ فاعتراف فرنسا بهذه العاصمة الجديدة ونقل سفارتها إليها هو عمل سيادي فرنسي، متفق وقواعد القانون الدولي، منتج لآثاره القانونية. لكن في الشأن الفلسطيني ؛ فإن الأمر جدّ مختلف، والرؤية أكثر وضوحًا، لا تحتمل لبسًا أو إبهامًا، ولا ينكرها إلا من يقْنع بولوج الجمل بسمّ الخياط، إذ إن اعتراف العبثيَّة الترامبيَّة بالقدس عاصمة إسرائيل ونقل سفارتها إليها، إنما هو تصرّف أهوج، وخرقًا صريحًا للقانون الدولي : فمن ناحية أولى غيريَّة موضوع القرار، إذ إن مدينة القدس ليست مدينة إسرائيلية يحق لإسرائيل اعتبارها واتخاذها عاصمة لها ومن ثم يحق لأي دولة أخرى نقل سفارتها إليها ؛ ومن ناحية ثانية، خرق قواعد القانون الدولي، إذ كما أوضحنا سلفًا فإن قرار نقل السفارة هو عمل سيادي، وإسرائيل بزعمها اعتبار القدس عاصمة لها، تتحلل من كونها سلطة احتلال وتتصرف كما لو كانت صاحبة الحق الأصيل في الأرض، وهذا ما ينافي القانون الدولي، إذ تتمتع مدينة القدس، كمدينة محتلة، بوضع قانوني دولي خاص، ومرتبط بالحل النهائي على أساس قيام دولتين، على أن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، وفقًا لقرار التقسيم عام 1947. ومن ناحية ثالثة فإن القرار يعد خرقًا لإتفاقية أوسلو الموقعة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل ؛ ومن ناحية رابعة، يعد القرار العبثي خرقًا لقرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العمومية التي أكدت في أكثر من مناسبة على ضرورة امتناع إسرائيل عن القيام بكل ما من شأنه مصادرة الأراضي وإصدار التشريعات لضم أجواء محتلة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، قرار مجلس الأمن في 25 سبتمبر 1971 وكذلك قرار الجمعية العامة رقم 2253 في  1967ومؤخرًا قرارها في 21 ديسمبر 2017.
 
 
نخلص مما سبق إلى عدم قانونيّة القرار الأمريكي وهو يعد عملًا عدائيًّا، يذكي ويشجع على عدم احترام القرارات والمواثيق الدولية ويعدّ خرقًا صريحًا للقانون الدولي، أي أنه قرار من لا يملك، فيما لا يملك، لصالح من لا يستحق.
 
أسلفنا أنه لا قيمة قانونية، للاعتراف الترامبي اللقيط بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأنه مخالف للقانون الدولي وللميثاق الأممي، لا سيما أهداف ومبادئ الأمم المتحدة، لكن ما هي خطورة مثل هذا الاعتراف على السلم والأمن الدوليين ؟
أولت الأمم المتحدة أهمية بالغة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، إذ أردفت الفقرة الأولى من المادة الأولى من الميثاق الأممي على أن " مقاصـد الأمـم المتحدة هي: 
1- حفظ السلم والأمن الدولي، وتحقيقا لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرع بالوسائل السلمية، وفقا لمبادئ العدل والقانون الدولي، لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها"، يتضح بما لا يدع مجالًا لشك أو ريب، قبوع حفظ السلم والأمن الدوليين على قمة أولويات الأمم المتحدة وتسنّمه لأهدافها، وبسحب هذا النص الأممي على القرار العبثي لترامب لاتضح لنا على الفور التناقض المطْبق، والمخالفة الواضحة والعبث الصريح للقرار اللقيط المنعدم مع أهداف ومبادئ الأمم المتحدة وكذلك مدى خطورته على السلم والأمن الدوليين. إذ إن القرار يتعلق ليس فقط بالدولة الوحيدة التي مازالت تئن تحت نير الاحتلال، بل بمدينة مقدّسة من كافة الديانات السماوية وأتباعها، والذين يشكلون غالبية سكان المعمورة، سينتفض أتباع تلك الديانات خاصة المسلمون منهم، في كل مكان على وجه الأرض لمجابهة هذا القرار وآثاره، وسنلحظ تعرّض المصالح الأمريكية والإسرائيلية للخطر واستهداف مواطنيهما، وفي تلك الحالة لا نكون أمام تعرّض واضطراب للسلم والأمن الدوليين للخطر، بل لقلقلتهما ولربما لغيابهما، وسينتج عن ذلك انشغال كل دول العالم بحماية سفارات وقنصليات إسرائيل وأمريكا وتوفير الحماية لمواطنيهما، وهو أمر يخرج عن مقدرة واحتمال أي دولة، ناهيكم عن قيام بعض الدول– على الأقل من الناحية النظرية– بقطع علاقاتها الدبلوماسية معهما، وسنجد العالم وقد تقطعت أواصره أشبه بالغاب وقوانينه، وستسيل الدماء في كل حدب وصوب ؛ قد يرى البعض مبالغة في فرضياتي وتحليلي، ولكن الرد على ذلك سهل ميسور، إذ بعد القدس، ماذا تبقى من المشكلة الفلسطينية للدفاع عنه ؟! وأيضًا نحيل المشككين لأطروحاتنا إلى تاريخ الانتفاضات الفلسطينية، وكيف أنها استهدفت كافة المصالح الأمريكية والإسرائيلية على مستوى العالم. 
 
لكم كنّا نتمنى من القطب الأوحد، وشرطي العالم، وممن يتغنّى ليل نهار بالقيم والمبادئ وحقوق الإنسان، أن تلقى أيٍ من هذه الشعارات ولو تطبيقًا جزئيًّا لها على أرض الواقع ؛ فماذا كان يضير العبثيَّة الترامبيَّة أن تعترف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين ؟! وبحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ؟! ألا يعد هذا تطبيقًا لصحيح القانون الدولي واحترامًا لقواعد العدل والإنصاف وحفظًا للسلم والأمن الدوليين؟!
إن الإدارة الأمريكية الحالية وحدها هي من تتحمل تبعات اضطراب السلم والأمن الدوليين وتعرضهما للزعزعة والتفاقم، ولا يخالجني شك، ولا يساورني ريب، في أن صمت منظومة الحكم الأمريكية سيستمر كثيرًا إزاء ما يحدث من تلك الإدارة، وسنناقش لاحقًا، احتماليَّة فرض الوصاية الكونجرسيَّة على ترامب وإدارته، ولربما بلغ الأمر مبلغه، إن لم يعد لرشده– ولن يعود– إلى عزله... 
 
إلى قادم المستجدات، تأبى أناملي إلّا أن تبقى ممسكةً بقلمي، ويأبى قلمي إلّا أن يبقى بالحبر زاخرًا...
يتبع...

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق