من مشكلات الخطاب الإصلاحي (الجزء ٢) المزايدة على قضايا الأمة

الإثنين، 16 أبريل 2018 08:29 م
من مشكلات الخطاب الإصلاحي (الجزء ٢) المزايدة على قضايا الأمة
د مهند خورشيد يكتب ...

قبل فترة زارني رجل عربي مسلم في مكتبي عارضاً علي فكرة مساعدته في إنشاء حزب سياسي مسلم في ألمانيا. سألته لماذا يريد إنشاء حزب سياسي مسلم، فجاء رده: "لا بد أن يكون لنا كمسلمين في ألمانيا حزبنا الخاص بِنَا والذي يتبنى قضايانا"، ثم سألته: "وكيف تريد إقناع المسلمين أن ينتخبوا هذا الحزب؟"، فقال: "المسلمون لا تُحرِّكهم إلا العاطفة، فأسرع طريقة للحصول على مساندة المسلمين هي أن أضع القضية الفلسطينية في أعلى القائمة وأن أُذكِّر المسلمين بضرورة مؤازرة الشعب الفلسطيني في قضيته وضرورة الدفاع عن الأقصى الشريف"، سألته متعجباً: "هل تنوي تحرير فلسطين من هنا، من أرض ألمانيا؟!"، فرد من غير تردد: "بالطبع لا، وليست لي أدنى فكرة كيف يمكن مساعدة الشعب الفلسطيني سوى بالدعاء، ولكن الحديث عن فلسطين يدغدغ عواطف المسلمين من إندونيسيا إلى المغرب"، قلت له: "أشكرك على صراحتك، فأنت مدرك إذن أمام نفسك أنك تستهلك الحديث عن فلسطين والأقصى لمجرد الفوز بقاعدة جماهيرية عريضة ليس إلا وهذا نوع من التلاعب بقضايا الأمة".
 
المشكلة الأكبر لا تكمن في نظري في أمثال هؤلاء من أحزاب وناشطين سياسيين يُزايدون ويرفعون شعار القضية الفلسطينية أو شعار الإسلام والدفاع عن حقوق المسلمين لمجرد التسلق إلى السلطة، وكثيرون هم، المشكلة الرئيسية هي تلك الشعوب العربية والإسلامية التي تُصدق كل من لعب على أوتار العواطف مستخدماً قضايا الأمة المصيرية. فما أن يأتي من يرفع شعار القضية الفلسطينية أو شعار الدفاع عن الإسلام، فإذا بالحشود تصفق وتنحني دون التساؤل عن مصداقية أو واقعية هذا أو ذلك الطرح. حديثي اليوم ليس عن القضية الفلسطينية، بل عن كيفية حماية أنفسنا من تلك الخطابات الجميلة الرنانة التي ترفع يافطات عريضة، لكنها في حقيقة الأمر فقاعات هواء فارغة. فنحن لا نريد أن نكون أولئك الساذجين الذين تجرهم الخطب الرنانة أو أولئك الذين  يُقَيِّمون الأمور وفق المعايير العاطفية.
 
في نظري، لن يحمينا من تلك الخطابات المستغلة لعواطفنا سوى النظرة العقلانية الواقعية للأمور والتفكير النقدي الذي لا يُسلِّم إلا لما اقتنع به من خلال تطبيق معايير عقلانية. حينها لن نُسلِّم رقابنا لمن يدغدغ عواطفنا ولن نبني قناعاتنا إلا على ما يتوافق والمنطق العقلي السليم. قد يصدمنا التفكير العقلاني الواقعي كثيراً لأنه يرفض المجاملات ويرفض التخطيط للمستقبل بناء على الأماني بل يطالب باحترام معطيات الواقع.
 
كثير من الخطابات التي تدّعي الإصلاح تعتمد بشكل رئيسي على الحديث العاطفي الذي لا يتوقف عند مجرد استهلاك قضايا المسلمين السياسية بل أيضاً تلك الدينية مما يفتح الباب أمام المزايدات باسم الدين. فتجد هذا أو ذلك الشخص أو هذه أو تلك المؤسسة الدينية يحرصون على إفهام العامة أنهم أشد تمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله عليه السلام وأنهم أشد اتباعاً لسلف الأمة وأكثر حرصاً على تراثها مما يؤجج العاطفة الدينية لدى الكثيرين خاصة من عامة الناس فيصدقون هذه الدعاوى التي كثيراً ما تكون مجرد مصيدة للتسلق من خلالها لقيادة الجماهير. ربما كان هذا الانسياق الأعمى وراء هذه أو تلك الشعارات الدينية المُفْرغة هو من أكثر الأسباب التي تساهم في تفريغ الإسلام من رسالته الرئيسية والمتعلقة بحب الله وحب خلقه والداعية لمكارم الأخلاق في معاملة الإنسان لأخيه الإنسان. الأشخاص والجماعات التي تريد التسلق للسلطة على ظهر الدين لا يعجبها الحديث عن روحانيات الإسلام وعن علاقة الإنسان بربه وعلاقته بأخيه الإنسان كعلاقة حب وتراحم وعن عقلانية الإسلام وتكريمه للعقل وللفكر النقدي، لأنه يصعب توظيف هذه الأبعاد الروحانية والأخلاقية والعقلانية واستهلاكها للتلاعب بالجماهير للوصول إلى الهدف الرئيس وهو السلطة، بينما يسهل توظيف قضايا الناس السياسية وتلك الدينية التي تتعلق بحياتهم الاجتماعية، لذا يُكثر هؤلاء من التركيز على هذه الجوانب على حساب الجوانب الروحية والعقلانية للإسلام. 
 
مما لا شك فيه هو أن الدين يحاكي أيضاً عواطف المؤمنين، لكنه في نفس الوقت يركز على ضرورة التفكير العقلي النقدي، لذا لن يحمينا من تلاعب المتلاعبين باسم الدين سوى الوصول إلى هذا التوازن الروحي العاطفي العقلاني.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق