معرض الزهور.. وأبو قرش وطنية
السبت، 07 أبريل 2018 02:21 م
سخرت ضحى بطلة رواية بهاء طاهر «قالت ضحى» من حبيبها لأنه يحب الزهور، بل هو مولع بها، ولكنه لا يعرف أسماءها ولا صفاتها. من يومها وأنا أكره غطرسة ضحى وكل ضحى، نعم البطل لم يكره ضحى أبدًا، لأن دمه تلوث بمخدر حبها، فلم يفطن لما فى سخريتها من عمى القلب الذى يصرف بعضهم عن رؤية الجمال والاستمتاع به دون السقوط فى فخ التباهى بمعرفة زائفة تهتم بالعرض وتسقط الجوهر.
المصريون المعاصرون للغاية أولاد اليوم وأمس وأول أمس، مثل بطل بهاء طاهر، نفضوا عنهم تراب الخلافات والصراعات والبغضاء والتشاحن، وذهبوا لرؤية الزهور فى معرض الزهور الذى تستضيفه حديقة الأورمان بالجيزة.
يعانى المصريون المعاصرون ما تعرفه من مشاكل تهد الجبال، وهى جميعًا مشاكل حقيقية القفز عليها نوع من أنواع عمى البصيرة، وتجاهلها يؤدى إلى اندثار الحضارة والمدنية، ولكن رغم أنف المشاكل والأزمات، انحاز المصريون للجمال، لمطلق العبير، للزهور التى تتألق تحت شمس الجيزة الحنون.
قام المصريون كعادتهم بما يجب عليهم القيام به، فهل أدت حكومتهم ما عليها من واجبات؟
معرض الزهور قديم جدًا، فهذه هى دورته الخامسة والثمانون، هو أسن من دول وكيانات تنغص علينا حياتنا، الحكومة تعاملت مع المعرض الفاتن، كما تعامل السيد عبدالعاطى البيروقراطى، بطل قصيدة صلاح جاهين، مع السد العالى، السد العالى هو فى نظر السيد عبدالعاطى «مجرد دوسيه».
تنسيق أو قل «تستيف» الأوراق مهم جدًا فى الحالة المصرية، ولذا فقد أرسلت الحكومة السادة، عبدالمنعم البنا، وزير الزراعة، ومحمد عبدالعاطى، وزير الرى، وعلى مصيلحى، وزير التموين، وخالد بدوى، وزير قطاع الأعمال، وأبوبكر الجندى، وزير التنمية المحلية، وكمال الدالى، محافظ الجيزة، ليشاركوا فى افتتاح المعرض، وكان ذلك يوم السبت العاشر من مارس.
أفتتح السادة الوزراء المعرض، وثار غبار الموسيقى المتشنجة وكذا تراب الطرقات، ثم ذهب كل وزير إلى شأنه.
تقول البيانات الرسمية: إن عدد العارضين بلغ مائة وخمسين عارضا، والمعرض يقام على مساحة 28 ألف متر مربع، ويستمر حتى بدايات شهر مايو، وتذكرة الدخول بجنيهين للفرد البالغ، ومجانًا للأطفال، وبعشرين جنيها للسيارة.
ويقول السيد وزير الزراعة: «إن إجمالى صادرات مصر من نباتات الزينة وزهور القطف بلغ 63 مليون دولار سنويا لـ20 دولة، ونستهدف زيادتها بنسبة تصل إلى 20 % لتوفير فرص عمل إضافية وتحقيق قيمة مضافة من صناعة الزهور»، مؤكدا أنه سيتم تخصيص عدد من الصوب بالمشروع القومى للصوب الزراعية لإنتاج زهور القطف ونبات الزينة.
ثم ماذا ؟
إنه اللاشىء العجيب، المصريون الذين لا يعرفون أسماء الزهور، تدفقوا على أرض المعرض، ليس لرؤية الجمال فحسب، بل لشراء ما تستطيعه جيوبهم من أصص الورد وقصارى النباتات النادرة.
المصريون متحضرون رغم أنوف عبيد الاحتلال، لم يقطف واحد وردة ولم يدهس أحد زهرة، المصريون أولاد الوادى الطيب كنسوا عتمة اللحظة وصنعوا هم بأنفسهم مهرجان الضوء والفرحة الصاعدة من أنقى بقعة فى قلوبهم المرهقة.
المصريون يعرفون أن لاعب الكرة محمد صلاح هو إنتاجهم الخاص، ولذا تبارى العارضون فى صنع لوحات له باستخدام الزهور والورد بل والنجيل، أطفال المصريين يعرفون محمد صلاح، ويباهون به فأخذ كل واحد منهم يجذب يد أبيه أو أمه لكى يلتقط له صورة بجوار لوحة صلاح.
أين الحكومة التى جاءت للافتتاح؟
لقد تركتنا لتراب الطرقات وجشع «السياس»، الذين جعلوا استخدام الزوار لسياراتهم الخاصة قطعة من الجحيم.
لا توجد أدنى درجات الخدمة فى طول المعرض وعرضه، لا حمامات، سوى عفوًا مبولة، غير نظيفة، لا مقاعد سوى البلاستيكية الرخيصة المتسخة التى يسيطر عليها أصحاب المقاهى التى هى أقرب «للغرز» كوب الشاى المصنوع بجشع يباع بثمانية جنيهات، لا مكان ظليل نظيف يلتقط فيه الأطفال أنفاسهم، الجسر الخشبى التاريخى النادر الذى يمر على بحيرة صناعية يكاد يتهدم، والبحيرة ذاتها، أصبحت تحت وطأة الإهمال دميمة ينفر منها القبح.
هولندا التى هى هولندا، بدأت نهضتها بوردة، فكيف نفرط نحن فى فرصة ثمينة من فرص الجمال والتنمية، معرض الأورمان على ما رأيت بعينىّ يستطيع النهوض بالجيزة كلها، الإيرادات معقولة جدًا، ويمكن تعظيمها، ولكن أين الماسترو الذى يضبط الحركة ويهندّس الخطوات ؟
التنمية من حسن حظنا لا تحتاج إلى عباقرة أو مخترعين، كما لا تحتاج إلى مليارات الدولارات، إنها تحتاج إلى «قرش» وطنية وأربعة قروش من الخيال وخمسة قروش من الثقة بهذا الشعب العظيم.
عشرة قروش فقط ستنهض بهذا المعرض ليصبح عروسًا مصريًا ينافس أكبر معارض العالم، فهل من مستمع ؟