تبدو الكتابة مأزقا خاصا، فى أعقاب الأفراح العامة، وهى مأزق لأنها ربما تنجرف بالكاتب إلى نهر المجاراة، حتى لا يصنف فى فئة عواجيز الفرح، والحق أننى لا عجوز فرح، ولا ندابة، لكنى أهوى أن أقول الحق بطريقة لا تعكر صفو العرس الوطنى العام، خصوصا وقد تمت مراسم الزفاف رغم قنابل الحاقدين وتراب المنافقين.
حيث إن مصر تعيش حالة فرح وطنية بعد أن حقق الشعب إرادته وانتخب الرئيس عبدالفتاح السيسى بواحد وعشرين مليونا وأكثر من ثمانمائة ألف صوت، بنسبة ٩٧٪، وحيث إن المصريين بهذا الإقبال اللافت على المشاركة جددوا لأنفسهم بقدر ما جددوا للرجل الذى أثبت رجولة ووطنية فى مواجهة حكم الإخوان والإرهاب اللاحق من فصائلهم، وحيث إن الناس اختاروه رغم الآلام الاقتصادية والمعيشية الهائلة التى طالبهم بتحملها حتى نجتاز محنة الانهيار الاقتصادى وينصلح الحال، وحيث، وحيث، وحيث فإن هناك حزمة من الملاحظات والضرورات السياسية والاجتماعية يمكن رصدها بإيجاز فيما يلى:
أولا: نزلت جموع كثيرة للإدلاء بصوتها إظهارا لحجم مشاركة أكبر، وامتنانا وتقديرا لكل ما قدمه ويقدمه المرشح عبدالفتاح السيسى، وجزء عظيم من هذه الكتلة التى هى قوام شعب يونيو العظيمة، كان «زعلان» من غلاء الأسعار وردد كثيرون لحد القسم بالله أنهم لن ينزلوا ولن ينتخبوا الرئيس لأن الغلاء كسر كبرياءهم الاجتماعى والمعيشى والجراحة كانت ولاتزال صعبة وبدون مخدر ولو موضعى.
لماذا غيروا رأيهم، ولماذا نزلوا ومنحوا الجراح القاسى ثقتهم؟ نقول إن الناس فعلوا ذلك لسببين: ١- أن الرجل لم يكذب عليهم ولم يخدعهم ولم يجعل البحر من تحتهم طحينة ولا نهر النيل لبنا وعسلا ولو تعد بتوزيع «زرابى مبثوثة»، كان صدقه مرا (بضم الميم) فى حلوقهم، لكنه استقر بالرضا والممانعة درجات فى عقولهم. ٢- أنهم يعتبرون التجديد له إلزاما له وعليه، بأن يرد إلى الشعب ثمار الصبر على الآلام الاقتصادية.
ثانيا: حتى من قبل إعلان نتيجة الانتخابات، شرع الناس فى التأكيد على أن الفترة التالية هى استئناف الحياة الطيبة، وبعبارة أدق يعيش الناس ثورة توقعات، بأن السيسى سوف يفتح عليهم ما حبسته عنهم العملية الإصلاحية الصارمة فى الاقتصاد، ومن ثم فإن المنتظر هو حدوث زيادات مالية فى الدخل تحقق الأمان المعيشى، وكف يد العوز والحوجة عن كل مواطن.
ثالثا: نحذر من أن الاستهانة بتوقعات الناس أو عدم مخاطبتها بالفهم والتفهم والاستيعاب ثم طرح الحلول المناسبة بلا إبطاء، سيؤدى إلى سقوط حاجز زجاجى سميك بين الشعب والرئيس، كما أن استمرار مطالبة الرئيس للناس بمواصلة تحمل تبعات العملية الإصلاحية مع جشع مفجع من التجار والمستوردين، دون ظهور شعاع من نور فى نهاية النفق، سيجعل حوار الطرفين، متوازيا.. يعتليان معا مئذنة فى مالطة !
رابعا: زيادة مخصصات التعليم والصحة والإسكان والخدمات والنقل والطرق والمرور جميعها أمر طيب ومحمود، ويعتبر استجابة لبنود الدستور، وتحقيقها ييسر حياة المواطن ويعمق ولاءه، ويجعل يد الدولة عليا عليه، باعتبارها حاضنة وراعية ومسئولة، وبالتالى يتوفر المواطن بدوره على أداء عمله بالكم وبالكيف المطلوبين، غير أن ذلك أيضا وحده، لن يرضى أحدا، وإن كان التعليم الجيد والخدمة الصحية الجيدة والطرق السهلة المرصوفة الخالية من الديناصورات الأسمنتية الفجائية، ستوفر للمواطن أموالا غير مباشرة (الإ فى التعليم لأنه كارثة فى حد ذاته وعلاجه يستغرق عقدين على الأقل لو بدأنا من غد).
خامسا: يحتاج المجتمع المصرى إلى الدخول طوعا ورغبة فى عملية تبريد، ليس بهدف تجميد التفاعلات السياسية والاجتماعية والثقافية، فعندئذ يكون المسمى الحقيقى هو التحنيط وليس التبريد، بل المقصود ترطيب المشاعر وإسكان النفوس وتهدئة الحناجر وسلب الخناجر من الخصور والصدور، لن يحدث ذلك سريعا ولن يحدث إلا بتغيير الخطاب اليومى للإعلام والمسجد والكنيسة والمدرسة والنادى والبيت، والناس ووزراء ومحافظين ألسنتهم مفلوتة بذيئة. عفة اللسان العام تنشأ من عفة لسان الأب ولسان الأم، وشيوع الذوق فى البيوت يفشى الذوق فى الطرقات ومكاتب العمل والشوارع، وتنخفض وتيرة الصوت ويهدأ عادم الشكمان الثلاثى خميس ولميس وخوار الجاموسا. تبريد المجتمع يعنى السكينة لا السكون ويعنى الطمأنينة والتسامح ونبذ الغل، ومعاقبة المنفلت بأدوات الضبط الاجتماعى التقليدية من عتاب ومن نصح وتذكير بآداب الجيرة وزمالة الحياة ومن نهى ومن إبعاد مؤقت، ومن احتضان الأصلح لإشاعة القدوة الصالحة.
سادسا: من العقل أن نتوقع تغييرا فى محتوى الرسائل الإعلامية، تستتبعه بالضرورة وجوه إعلامية جديدة، واعية ورشيدة وهادئة وماكرة مهنيا ومثقفة، وليس يخفى على أحد أن الناس ضجوا وضجروا بالمنافقين والجهلاء والزاعقين والزاعقات، بل لن يستطيع المواطن المصرى قبول خطة إعادة تدوير الوجوه الكالحة التى مهدت للبرادعى وبشرت به وفتحت له ومضت تفسر رسائله كالدروايش، واليوم تطل الوجوه ذاتها بعد استخراجها من أجولة المخازن وتوابيت المتاحف، لتدعو إلى توريط الرئيس مبكرا فى مواجهة مع الدستور، كانوا هم أول من نادى بالخروج الآمن لمبارك، وهم من دعا إلى مجلس وصاية على مصر من البرادعى وغيره وكانوا هم من بلعوا الشعب محمد مرسى والجماعة الإرهابية! كيف يستقيم أن يثق فيهم الرئيس وكانوا من قبل معاول هدم فى الدولة، ودعاة للإخوان والعملاء؟ إعادة تدوير القمامة لا ينفى كونها فى الأصل قمامة، ولا كانت من قمامة، ولن يقضى على عطن القمامة. هم قمامة مهما تمكيجوا وتلونوا، وسحناتهم البغيضة عنوان المكر فى عقولهم والغباء بقلوبهم.
وكما استحق الشعب رئيسه، فإنه يستحق مصريين أطهارا، لا أنفارا عند ممولى العمالة، فى إعلامه وصحافته وسياسييه.