الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس
الجمعة، 06 أبريل 2018 02:12 م
بريطانيا العظمى التي كانوا يطلقون عليها حتى منتصف القرن الماضي "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" بحكم امتداد مستعمراتها من الشرق إلى الغرب، بدأت في الانهيار والتراجع بعد هزيمة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وصارعت وقاومت من أجل البقاء وسط الكبار من القوى العظمى، لكنها، وفي إطار التحالف "الأنجلوسكسوني" اللعين مع الولايات المتحدة الأمريكية، باتت بريطانيا دولة تابعة يحركها اليمين المحافظ من واشنطن، هذا اليمين الذي يوجه سياسات الحروب والإرهاب وتجارة السلاح والمخدرات والأدوية وتجارة أعضاء الجسم، وكل تجارة تدر أرباحاً خيالية، سواء مشروعة أو غير مشروعة، هذا اليمين المحافظ الذي صٌدم بانهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يستخدمه كفزاعة لدول العالم حتى يفرض هيمنته وسيطرته عليها، فذهب هذا اليمين المحافظ ليبحث عن عدو أخر يستخدمه كفزاعة لتنفيذ مخططاته العالمية، ولم يجد دولة بقوة وحجم الاتحاد السوفييتي للعب هذا الدور، فلجأ لاستحداث وصناعة عدو من نوع أخر، وهو "الإرهاب الدولي"، الأمر الذي جعل الكثيرون يشيرون بأصابع الاتهام في أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 في نيويورك إلى جهات داخلية في الولايات المتحدة تملك من القوة والمؤسسات الخفية ما هو أقوى حتى من المخابرات الأمريكية ومن البنتاغون، وتملك شركات مرتزقة في مختلف أنحاء العالم، كما تملك سلطة توجيه معظم التنظيمات والجماعات الدينية المتطرفة، ابتداءا بجماعة الإخوان مرورا بالقاعدة وطالبان وداعش وكل ما يستحدث بعدهم.
بريطانيا التي فقدت الإمبراطورية والعظمة ذهبت تدور في فلك واشنطن كتابع مطيع لا تختلف معها أبداً وتنفذ ما تطلبه منها، وتأتي أزمة تسميم الجاسوس الروسي المزدوج سيرجي سكريبال وابنته يوليا بالغاز في مدينة سالزبري البريطانية في الرابع من مارس الماضى، لتكشف مدى ضعف وتبعية وتراجع بريطانيا "التي لم تعد عظمى"، حيث فوجئ العالم بتصعيد حاد وغير عادي من الحكومة البريطانية يتهم روسيا بأنها هي التي وراء تسميم سكريبال وابنته، ودليلها الوحيد في اتهامها أن الغاز التي تم به تسميمهما اسمه "نوفيتشوك" تم تصنيعه في الثمانينات في الاتحاد السوفيتي، أي أنه غاز روسي، ورغم أن روسيا أعدمت أسلحتها الكيماوية تماماً ولم تعد لديها منذ سنوات أي أنواع من الغازات، إلا أن العالم عرف بعد ذلك الألاف من أنواع الغازات أقوى بكثير من غاز "نوفيتشوك" السوفييتي، فما الذي يضطر روسيا، إذا أرادت قتل شخص بالغاز، أن تستخدم مثل هذا النوع القديم الذي ربما لم يعد له أي أثر في معامل العالم، خاصة وأنه ثبت ضعفه بشفاء سكريبال وابنته من حادث التسمم بعد أيام قليلة.
ما الذي يدفع روسيا لتسميم جاسوس سابق لها خان وطنه وذهب يعمل لحساب المخابرات البريطانية عام 2002، ثم انكشف وألقي القبض عليه وحكم عليه عام 2006 بالسجن في روسيا لمدة 13 عام، وفي عام 2010 صدر قرار بالعفو عنه وإرساله إلى بريطانيا ضمن عملية تبادل مع جواسيس روس مسجونين في الولايات المتحدة، وانتهى أمر سكريبال، ولم يعد له صلة بروسيا، وأصبح ورقة محروقة تماماً، فما الداعي بعد ذلك لتعرض روسيا له وتسميمه، علماً بأن السلطات الروسية طلبت اللقاء مع سكريبال وابنته بعد الحادث، ورفضت السلطات البريطانية، كما رفضت مشاركة روسيا في أي تحقيق في الحادث، ولا أية جهة أجنبية، الأمر الذي دفع الكثير من الدول للتشكيك في ادعاءات لندن، ومنها دول أوروبية مثل النمسا وتشيكيا وإيطاليا وغيرهم ممن رفضوا طرد دبلوماسيين روس وطالبوا بالشفافية الكاملة في التحقيق في الحادث، كما أن المعارضة البريطانية في مجلس العموم البريطاني بزعامة النائب جيريمي كوربين رفض اتهام روسيا واتهم رئيسة الوزراء وحكومتها باصطناع الأزمة ليخفوا أزماتهم وفشلهم في إدارة أحوال بريطانيا بعد أن أخرجوها من الاتحاد الأوروبي، وأيدت أكبر صحيفتين بريطانيتين (صنداي تايمز واندبندنت) موقف النائب كوربين، ودافعت الاندبندنت عن كوربين في وجه اتهامات حكومة تيريزا ماي له ووصفها له بأنه "دمية بوتين"، واتهمت "اندبندنت" تيريزا ماي ووزير خارجيتها جونسون باختلاق كذبة كبيرة جروا ورائهم فيها عدة دول أوروبية مستعينين بالضغوط الأمريكية.
الروس يقولون أن سمعة بريطانيا انهارت بسبب اختلاق هذه الأزمة، وأنها لن تحظى بعد ذلك باحترام المجتمع الدولي الذي يعلم مدى تبعيتها لواشنطن، أما ضعف ووهن وتراجع بريطانيا "التي لم تعد عظمى" فيتمثل في التصعيد الحاد والانفعالات الهيستيرية والتصريحات الحادة لرئيسة الوزراء تيريزا ماي ووزير خارجيتها بوريس جونسون ضد روسيا، ثم ممارسة اليمين المحافظ في واشنطن الضغوط على 23 دولة في الاتحاد الأوروبي لشن حملة لطرد الدبلوماسيين الروس، وردت روسيا عليهم بحملة أكبر وبطرد عدد أكبر من الدبلوماسيين خاصة البريطانيين، وما زالت الأزمة تتصاعد.
في الجدل والنقاش والبحث عن أسباب الأزمة، لم يقل أحد، أن السبب هو حادث تسميم سكريبال وابنته، سوى لندن وواشنطن، حتى الدول التي طردت دبلوماسيين روس لم ينطق أي مسئول في أي منها بأية اتهامات لروسيا، وحتى لو كان هذا هو السبب، فهل يستحق كل هذه الضجة والتصعيد وطرد العشرات من الدبلوماسيين وتأزيم الأوضاع والعلاقات بين دول كبيرة، لا شك أن الأمر وراءه قضايا أكبر وأكثر خطورة، منها ما قيل بأنه يتعلق بمشاكل كثيرة تواجهها الحكومة البريطانية في الداخل وعدم قدرتها على ضبط أوضاع خروجها من الاتحاد الأوروبي، ومنها ما قيل أن الأزمة كان مقصود بها اضعاف موقف وشعبية الرئيس الروسي بوتين قبل انتخابات الرئاسة في روسيا بأيام، الأمر الذي ردت عليه موسكو بأنه أتى برد فعل عكسي تماما، حيث زاد الإقبال على الانتخابات وفاز بوتين بنسبة ساحقة لم يكن هو نفسه يتوقعها، مما دفع المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في تغريدة ساخرة لها على تويتر، أن تشكر بريطانيا على حملتها ضد روسيا والتي حشدت الشعب الروسي بقوة خلف الرئيس بوتين.
في رأينا أن السبب الرئيسي وراء هذه الحملة البريطانية ضد روسيا، هو الإنجازات الكبيرة التي حققتها القوات المسلحة الروسية في روسيا منذ بداية العام في تطهير الغوطة ودوما ومدن سورية أخرى من الإرهاب، وقد اعتدنا مع كل إنجازات روسية كبيرة في الميدان في سوريا أن يصدر رد فعل هستيري من الغرب، خاصة من واشنطن ولندن، وهذا ما حدث مع تحرير حلب وتدمر وإدلب، وما أعقبهم من مسلسل عقوبات أمريكية وأوروبية لا مبرر له، ومن الواضح أن اليمين المحافظ "الأنجلوسكسوني" الذي يدير واشنطن ولندن، يتألم أشد الألم بسبب خساراته الكبيرة والجسيمة التي تم فيها القضاء على عشرات الآلاف من المرتزقة والإرهابيين الذين صنعهم وجلبهم هذا اليمين المحافظ لسوريا.
بريطانيا "التي لم تعد عظمى" لم تعد تهمها سمعتها، ولا تسعى لتحسين العلاقات مع روسيا، خاصة وأنها تؤوي على أراضيها قادة الإرهاب والتطرف في روسيا من عصابات شمال القوقاز الهاربين من القضاء الروسي، مثلما تؤوي قيادات لجماعات الإخوان والجهاد وحزب التحرير الإسلامي وطالبان وغيرهم.
مختص في الشئون الدولية