ثقافة الباذنجان
الأحد، 01 أبريل 2018 04:00 م
يروى التاريخ، أن الأمير "بشير الثاني الشهابي" الذي يعد أحد أشهر الأمراء في تاريخ لبنان وبلاد الشام، والذي حكم منطقة جبال لبنان منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر، كان له خادما خفيف الظل يدعى "مسرور" كان يصطحبه معه أينما ذهب.
فقال له الأمير ذات يوم، يا مسرور: تميل نفسي إلى أكلة "باذنجان"، فقال مسرور: "الباذنجان.. بارك الله في الباذنجان يا مولاي، فهو سيد المأكولات، شحم بلا لحم، وسمك بلا حسك، وﺩﺟﺎﺝٌ ﺑﻼ اعوجاج، ﻳﺆﻛﻞ ﻣﻘﻠﻴﺎً ﻭﻣﺸﻮﻳﺎ، ﻧﻴﺌﺎً ﻭﻃﺎﺯﺟﺎ، ﺑﺎﺭﺩﺍً ﻭﺳﺎﺧنا، أو ﻣﺪﺧﻨﺎً".
"إن الباذنجان يا سيدي هو أفضل المآكل و ارفعها قدرا، فان أكلته متبلا بقي طعمه تحت لسانك، وإن أكلته مقلياً أكلت أصابعك معه، وإن أكلته مكبوساً فهو أشهى المكابيس، وإن أكلته حشيا فهو شيخ المحاشي".
فأمره الشهابي بأن يأمر بإعداد وجبة من الباذنجان، وأحذ يأكل منها حتى شبع، وفى المساء، شعر الأمير بانتفاخ ووجع شديد في بطنه، فأمر باستدعاء مسرور، وقال متألماً: "ما هذا الباذنجان اللعين يا فتى؟، فأنا اشعر بانتفاخ في بطني و ألم في رأسي، ومنذ أكلته نالني كَرْب شديد".
فقال له مسرور: "الباذنجان.. لعنة الله على الباذنجان يا سيدي.. ﻓﺈﻧﻪ ﺛﻘﻴﻞ،ٌ ﻏﻠﻴﻆٌ، ﻧﻔﺎﺥ، ﺣﻠﻮه ﻣُﺮ، ﻭﻣُﺮه ﻋﻠﻘﻢ، ساخنة ﻣُﻨﻔﺮ، باردة ﻣُﻘﺰﺯ، انه يا سيدي رديء الطعم، وإن أكلته متبلا انتفاخ بطنك، وإن أكلته مقليا تضخم مصرانك، وإن أكلته مكبوساً اغشي نظرك، وإن أكلته محشوا جلب لك الكوابيس والأحلام المزعجة".
فتعجب الشهابي من أمر الخادم، وقال له غاضبا: "ويحك يا فتى، أتمدح الشيء وتذمُّه في وقت واحد؟". فرد عليه مسرور متبسما: "العفو يا مولاي، فأنا خادم الأمير لا خادم الباذنجان، فإذا قال الأمير نعم قلت نعم، وإذا قال الأمير لا قلت لا".
للأسف، هذا دائما هو الحال ـ في أغلب قطاعات دول العالم الثالث ـ تسيطر على أغلب من يعملون بها "ثقافة الباذنجان" فإذا ما غضب الرئيس ـ أي رئيس فى أى قطاع ـ حتى وإن كان على غير صواب، غضبت الحاشية، وصبت جام غضبها على من غضب عليه الرئيس، وإن رضي الرئيس على شخص، رفعوه إلى أعنان السماء، وجعلوه فذا عبقريا، حتى وإن كانت حقيقته غير ذلك.
وهى ثقافة للأسف، اكتسبتها حاشية كل رئيس ـ في كل قطاع ـ في مجتمعاتنا بالوراثة منذ مئات السنين، وترتبط بشكل مباشر بجينات تسمى "الإمعان في التملق والنفاق والتعريض" من أجل الحصول على مكاسب شخصية وكسب رضي الرئيس، أيا كانت النتيجة، حتى وإن كانت على حساب الصالح العامة، ولا تؤدى في الغالب سوى إلى الإبقاء على كل من هو فاسد ورديء والإطاحة بالكفاءات، والهبوط بالقطاع أي كان تخصصه.
للأسف، أن تسرطن "ثقافة الباذنجان" وتوريثها لعهود، أصبح مرتبطا بشكل مباشر بوجود الآلاف من الشخصيات في كل قطاع الدولة، وهو ما دفع بالكفاءات، خاصة ممن لا يجيدون الدخول في نزاعات، إلى الابتعاد في صمت، تاركين المشهد لأنصاف المواهب والجهلاء، مما يجيدون فنون التملق وثقافة النفاق.
أؤكد، أن الاستئصال "ثقافة الباذنجان" أصبحت من الصعب أن يتم من خلال تشريعات أو قوانين أو لوائح حتى وإن كانت غليظة، ولكنه يتطلب عزيمة مجتمعية، تدفعنا عن رضى إلى المبادرة بتغيير سلوكيات، وغرس ثقافات، تجعلنا ندفع بالكفاءات والمتميزين بشكل تلقائي إلى الصدارة في كل القطاعات، بعيدا عن الأهواء والتملق وأصحاب النفوس المريضة، الذين يعملون مع ـ كل رئيس ـ طبقا لثقافة مسرور مع الشهابي.