فى ذكرى رحيل حليم الـ 41..قصة العندليب الذى قاد ثورة أمة وأحلامها
الجمعة، 30 مارس 2018 06:53 م
اليوم تمر 41 عاما على رحيل العندليب عبد الحليم حافظ..اليتيم ابن القرية الفقيرة الذى أصبح منذ قيام ثورة 23 يوليو 52 – الثورة المصرية الأم- الى الزعيم..زعيم الأغنية العاطفية والوطنية وزعيم القلوب والمشاعر وبطل كل قصة حب فى حياه شباب مصر منذ جيل الخمسينات والستينات الى جيل السبعينات والثمانينات. وربما مازال يجد نفس المكانة لدى الجيل الجديد من الشباب.
حليم الأسطورة لم يكن مجرد مغنى سلك طريقه وسط العمالقة وانما كان تعبيرا عن طبقة اجتماعية صعدت مع الثورة وأنصفها زعيمها عبد الناصر الذى تعرض لليتم أيضا بالمصادفة ، ليجد فى حليم ابن الطبقة الفقيرة واليتيم ضالته الغنائية والجسر الذى يمكن أن يعبر الى الشعب بمبادئه وأفكاره الثورية والاشتراكية من خلال صوته الذى اختزل كل هموم ومعاناه مصر وشعبها وأحلامها وطموحها أيضا منذ بداية الخمسينات... فكانت القيادة السياسية لعبد الناصر والزعامة الغنائية لعبد الحليم.. فكان لقاءهما ولم يكن حليم ينادى ناصر الا بـ"بابا" رغم فارق السن البسيط بينهما فى ذلك الوقت-11 عاما فقط- عاش عبد الحليم بصوته وفنه وغناءه لأنه لم يكن مجرد مطرب أو ابن اللحظة والأغنية الواحدة أو الباحث عن الثروة من الغناء والحفلات. عاش لأنه كان واحد من الناس البسطاء يجدوا فيه ملامحهم ومعاناتهم وأفراحهم وجراحهم. واحد يشبه الجميع فى عيونه الغائرة وملامحه المصرية الأصيلة وجسده الهزيل الذى تحمل مثل ملايين المصريين المرض.
عاش لانه كان يتمتع بذكاء اجتماعى فطرى فتحول الى مؤسسة سياسية – بقربه من ناصر وقيادة الثورة – وثقافيا واعلاميا لتواصله مع رموز الأدب والاعلام ، من مصطفى أمين الى احسان عبد القدوس وكامل الشناوى وغيرهم- واجتماعيا بالتواصل مع جميع شرائح المجتمع وتلبية رغباتهم قد الامكان.
توفيت أمه فور ولادته، وتوفي والده في عامه الأول، ليبدأ حياته في دار أيتام، ومنها ينطلق إلى رحاب المجد والتألق، عبد الحليم حافظ.. صنع من آلامه تاريخا فنيا كبيرا ، وأبدع من بين آهات اليتم آلحان و ترانيم موسيقية باقية ، صانعا من معاناته زادا لإبداعه، ومن أوجاعه وعُزلة قلبه وضربات القدر حالة فنية غير قابلة للتكرار، فيعيش رغم المآسى متعافيا شامخا بدفء جمهور منحه عشقا لا حدود له، تخطى به كل ربوع العروبة، ليدق أبواب التاريخ دون استئذان، وليكتب اسمه باللون الذهبي رغم لونه الأسمر.
اسمه بالكامل عبد الحليم إسماعيل علي شبانة، ولد يوم 21 يونيو 1929 بقرية الحلوات بمحافظة الشرقية، وهو الابن الأصغر لوالده، توفيت أمه بعد ولادته بأيام قليلة، وتوفي والده ولم يكمل عامه الأول، فعاش مع خاله، ثم ليبدأ حياته مغردًا في دار أيتام بالزقازيق، والتحق بكُتاب الشيخ أحمد في القرية، ثم بالمدرسة الابتدائية.
في عام 1943 التحق بمعهد الموسيقى العربية، وانتظم في قسم التلحين، وتخرج فيه عام 1948 عازفا على آلة "الأبوا"، وهي من آلات النفخ، وعقب تخرجه عمل مدرسا للموسيقى والأناشيد في مدينة طنطا، وانتقل إلى الزقازيق ومنها إلى القاهرة، ثم قدّم استقالته من التدريس، والتحق بفرقة الإذاعة الموسيقية، عازفا على آلته عام 1950.
عام 1951 يتقدم حليم لامتحان لجنة اعتماد المطربين بالإذاعة ، واكتشفه الإذاعي حافظ عبد الوهاب، الذي اختار عبد الحليم أن يرتبط اسمه الفني به للأبد، فأصبح "عبد الحليم حافظ"، واعتمدته اللجنة عام 1952 بعد أن غنى "صافيني مرة"، التي لحنها محمد الموج وكتبها سمير محجوب.
ولم يكن الظهور الأول للمطرب المغمور، آنذاك، على خشبة المسرح القومي بالإسكندرية صيف 1951، ورديًا كما كان يحلم، فقد رفض الجمهور أغنيته الجديدة السابقة لعصرها "صافيني مرة" وقذفه بـ"البيض والطماطم" طالبًا منه أداء أغان أخرى للمطرب الذائع الصيت وقتها محمد عبد الوهاب، لكنه رفض الاستجابة لهذا الطلب وأصرّ على أداء أغنيته مما دفع متعهد الحفلات إلى طرده من المسرح.
بعد نجاح ثورة 23 يوليو 1952، غناها مرة أخرى بالقاهرة في 18 يونيو 1953، بحفل أضواء المدينة يوم إعلان الجمهورية ولاقت ترحيبا كبيرا، وكانت بداية شهرته الفنية كمطرب، ثم أعقبها بأغان من اللون الجديد نفسه مثل "فوق الشوك، وعلى قد الشوق" وغيرها.
أحدث ظهور "حليم" انقلابًا جذريًا في شكل الأغنية العربية كلمات ولحنًا وأداءً، وهو ما أدى إلى بروز اتجاهين: الأول رافض له ويقوده الملحن رياض السنباطي الذي لم يلحن له سوى أوبريت "لحن الوفاء" مطلع الخمسينيات، وكان يفضل عليه شقيق "حليم" الأكبر المطرب إسماعيل شبانة، ويقول إن صوته أكثر رصانة وقوة، وآخر داعم له ويقوده الموسيقار محمد عبد الوهاب، حيث رأى أن "حليم" هو صوت المستقبل، فتبناه وأسس معه شركة "صوت الفن".
كان من حسن حظ الشاب القادم من عمق الريف المصري، والمصاب بالبلهارسيا منذ طفولته، أن يتزامن ظهوره مع بداية ثورة 23 يوليو، مما جعله يحظى بغناء عدد كبير من الألحان التي نصبته مطربًا للثورة وصوتها، وغنى العديد من الأغاني الوطنية في تلك الفترة، مثل "السد العالي، حكاية شعب، ثورتنا المصرية، عدى النهار، فدائي".
قدم "عبد الحليم" في رحلته الفنية أكثر من 230 أغنية، جمعها صديقه مجدي العمروسي في كتاب "كراسة الحب والوطنية"، فمن ألحان محمد الموجي غنى: "رسالة من تحت الماء، حبيبها، قارئة الفنجان، النجمة مالت ع القمر، أنا من تراب، وأدعوك يا سامع"، ولحن له كمال الطويل: "في يوم في شهر في سنة، في يوم من الأيام، على قد الشوق، إحنا الشعب، ابنك يقولك يا بطل، حكاية شعب، صورة، وعدى النهار"، ولحن له بليغ حمدي "موعود، جانا الهوى، حبيبتي من تكون، عاش اللي قال، وأي دمعة حزن لا"، ولحن له محمد عبد الوهاب "توبة، يا خلي القلب، الله يا بلدنا، نشيد الوطن الأكبر، أهواك، نبتدي منين الحكاية، فاتت جنبنا، والمركبة عدت".
استغل المخرجون شهرته وأسندوا إليه بطولة العديد من الأفلام، فشارك في 16 فيلما منها، "لحن الوفاء، أيامنا الحلوة، أيام وليالي، دليلة، بنات اليوم، الوسادة الخالية، فتى أحلامي، والخطايا"، وآخر أفلامه "أبي فوق الشجرة"، وغنى بصوته فقط في أفلام عديدة منها، "بعد الوداع، بائعة الخبز، وأدهم الشرقاوي"، كما قام ببطولة مسلسل إذاعي وحيد "أرجوك لا تفهمني بسرعة".
بعد مسيرة حافلة قدّمها "حليم" إلا أن الخاتمة كانت مؤلمة و حزينة لمشواره كتبها له القدر، عندما اشتبك مع جمهوره في إبريل 1976 في حفل عيد الربيع الذي تعوّد أن يحييه سنويًا، وغنى قصيدة "قارئة الفنجان" للشاعر نزار قباني لأول مرة، لكنه فوجئ بمجرد أن بدأ الغناء بمجموعة من الأشخاص يحاولون التشويش عليه في أثناء غنائه، وهنا توقف عن الغناء وقال بعصبية شديدة: "بس بقى، أنا أعرف أصفر وأزعق زيّكم"، وراح يصفر لهم، ثم أخذ منديلًا من جيبه ليمسح العرق الذي كان يتصبب من جبينه وهو في حالة انفعال شديد، وتعرض لحملة إعلامية قاسية نتيجة لذلك، اضطرته لاحقا لتقديم الاعتذار عما بدر منه.
ولم يكد يخرج من هذه الواقعة حتى شهد وضعه الصحي بعد عدة أشهر تدهورا خطيرا في أثناء مراجعته الدورية لمستشفى كنجز كوليج في لندن مطلع عام 1977 لإجراء عملية حقن الشعيرات الدموية، إذ كان يعاني من تليف بالكبد نتيجة إصابته بالبلهارسيا منذ الصغر ولم يكن له علاج، واكتشف الطبيب أن "حليم" يعاني من نزيف في المريء يتطلب عملية زراعة كبد، لكنه رفض إجراء العملية وأصرّ على أن يتم التركيز فقط على إيقاف النزيف، واضطر الطبيب للرضوخ لطلبه بعد أن فشل في إقناعه؛ قبل أن يتوقف قلبه في أثناء محاولات وقف النزيف، ليلفظ أنفاسه الأخيرة مساء يوم 30 مارس عن عمر ناهز 48 عاما، ليرحل تاركًا إرثًا جعله أهم مطربي مصر والعالم العربي في القرن الماضي.