ليس أصدق من كلام العيال
السبت، 17 مارس 2018 04:19 م
الكبار هم الكبار ، يحسبونها كما البقالين ، البقال الطيب لا يسمح بزيادة أو نقصان في الميزان ، الأمور منضبطة تمامًا ، ليس لتحرى الحلال والحرام ولكن لأن هذه هى قواعد السوق .
العيال كما باعة الفواكه ، بائع الفاكهة يتحرك بأريحية في دكانه كأنه يمتلك الدنيا ، لا يساوم كثيرًا بل قد لا يساوم أبدًا ، من المألوف لديه أن يقدم لك أصبع موز فوق البيعة أو حبة كمثرى فوق الميزان ، قد يداعب شعر صبيك أو يقبل خد طفلتك أو يحمل عنك فواكهك حتى باب سيارتك ، ثمة عطاء رباني يسكن تحت جلد بائعة الفاكهة ، يميزهم عن غيرهم من أرباب الأسواق ، كذا العيال ، يغدقون في العطاء ، امنح العيل منهم بعض العاطفة ثم انتظر تدفقه .
العيال مثل الجراء الصغيرة مصابون بحساسية مفرطة ، ليس تجاه أمهاتهم فقط بل تجاه الكون ذاته ، العيل مفرط الحساسية ، سيتقدم به العمر فلو فقد حساسيته أصبح من الكبار ، ولو سكنته ثم لم تغادره سيصبح فنانًا حزينًا ، وهذا ما صار إليه العيل الذي يقف على حافة الخمسين ونعرفه باسم هشام أبو المكارم .
هشام كتب كثيرًا وحزن أكثر وأصيب منذ طفولته بداء البراءة والدهشة ، ولكن دهشته التي تلازمه كأنها بعض دمه جعلته يتهيب كتابة كتاب من بابه ، إنه يهرب من الكتابات المطولة ، يخافها لأنها قد تكشف له عن جروح دفينة يريد قبرها في زوايا النسيان ، ثم فجأة قرر في ليلة شتائية باردة وطويلة أن يعود لجذور دهشته يتقصى أمرها وكيف كانت ولماذا هى باقية معه كأنها بعض دمه .
لا أشك في أن هشام قد تحير كثيرًا وهو يتخير موضوع كتابه الأول ثم نفض عنه حيرته وقرر أن يعود إلى زمن العيال ، زمن تصديق كل شيء والحماس لكل شيء والدفاع حتى الموت عن كل شيء ، زمن الأحلام الكبرى التي تغطي الأرض وتصعد إلى السموات البعيدة .
عاد هشام إلى طفولته المبكرة التي صدّق فيها ، أنه لو ذهب كما طلب أهله منه إلى الحضانة سيجد بطة كونية يمتطي صهوتها كأنه عنترة يمتطي ظهر حصانه ، ذهب إلى دار الحضانة فوجد بطة بلاستكية صغيرة وتافهة ورخيصة .
حزن هشام الحزن الأول في عمره، حزن الذي تعرض لخديعة كبرى، خديعة أن يكذب عليه أقرب الناس إليه.
لا يقدر الكبار فرط حساسية الجراء الصغيرة المتوحدة مع ذواتها ، لا يعرفون شيئًا عن ملوحة الدموع التي تتفجر من عيون مندهشة ومن قلوب بريئة لم تعرف بعد مبادئ اللف وسياسة الدوران .
من تلك اللقطة القديمة جدًا يواصل هشام صعوده مع الزمان متعرفًا على عادات وتقاليد أسرة كبيرة تقيم في إحدي قرى الصعيد الجواني ، قبل ما يزيد على أربعين سنة .
كانت البيوت بسيطة ولكنها كانت ممتلئة حتى سطوحها بدفء ما وبرائحة غنى النفوس ، وبتكاتف في المسرات والأحزان ، تلك الحالة يقبض عليها هشام جيدًا ويقدمها في أكثر من فصل من فصول كتابه ( كلام عيال /عن أيامنا الأكثر براءة ) الذي يقدم من خلاله خدمة لعلماء الاجتماع عندما يريدون دراسة كيف كانت قرية مصرية صعيدية قبل نصف قرن ، لقد كانت سعيدة رغم كل شيء ويكفي ذلك الفصل المدهش الذي يكتبه هشام عن " صناعة الكشك " ذلك الطعام الصعيدي الذي له خشونة طبع الصعايدة ومتانة أخلاقهم .
في فصل الكشك يذكرنا هشام بيوم الخبيز في رائعة عبد الحكيم قاسم أيام الإنسان السبعة، عندما يصبح الخبيز وتصبح صناعة الكشك إعلان عرس وزغرودة مجلجلة لانتصار الحياة على كل قسوة.