فن المرافعات.. الأفعى والثعبان
الجمعة، 16 مارس 2018 07:00 م
رجل من أسرة فقيرة حضر من صعيد مصر، إلى القاهرة وعمل في ورشة رجل كهل ليس له أولاد كان له بمثابة الأب، وكان هو ابن بار به، لدرجة أن الرجل المُسن كتب له ورشته باسمه واسلم الروح بعدها.. تزوج هو فتاة فقيرة ثم تفتحت له أبواب الرزق على مصراعيها وأنجب ثلاثة أولاد في مراحل تعليمية مختلفة.
انتقل الرجل إلى العيش في فيلا في حي راقي، وفى أحدى شقق العقار المواجه لفيلته، قطن بها شاب ادعى أنه طبيب كان جميع سكان الحي معجبون به نظرا لرقة حديثه وتخيره كلماته، مرضت زوجة الرجل فاستدعى الطبيب فكانت هذه الزيارة بمثابة الفتيل الذي أشعل النار في بيته، فقد ربطت علاقة آثمة بين الزوجة والطبيب، سكان الحي همسهم وصل إليه فواجه زوجته وكانت الطامة عندما أكدت له هذا فقد وعيه ولم يدري إلا وهو يغرس سكين في قلبها فأرداها قتيلة.
تحريات المباحث أكدت خيانة الزوجة والعلاقة الآثمة التي ربطتها بالطبيب وكان آنذاك خطيب ابنتها، أحيل الرجل جراء ذلك إلى محكمة الجنايات بتهمة القتل العمد، وفى تلك الأثناء نودي على المتهم، وبسؤال رئيس المحكمة له، أصر علي الاعتراف وأنه قتلها عندما فاجأته، وأعلنت له في وقاحة وبلا استحياء أنها على علاقة آثمة بالطبيب.
وفي المرافعة جاء دور المحامي والفقيه الدستوري بهاء أبو شقه، الذي استهل الدفاع مرافعته قائلاً: «إن خير موارد العدل القياس على النفس»، وطرح سؤالاً يفرض نفسه في منطق الدليل في هذه القضية هو: «لو آياً منا ساقه قدره الأليم وحظه العاثر في أن يعيش فصول هذه المأساة التي عاشها المتهم.. فماذا هو فاعل؟».
«إن المجني عليه الحقيقي وبحق في الدعوي الماثلة هو هذا الزوج المسكين الذي تلقي طعنه غادرة في شرفه.. وكيانه.. في عرضه أمام نفسه.. أمام جيرانه.. أمام أولاده.. أمام الحي الذي عاش فيه.. كانت كفيله بأن تجهز عليه .. تحطمه .. تقضي عليه قضاء مبرماً».
لم يتسرع الزوج بالقصاص منها أو من الطبيب رغم وجود الدليل الدامغ معه علي خيانتها بعد أن تلقي خطاباً يفضح هذه العلاقة وبعد أن أصبحت سيرتها وفضيحتها علي كل لسان في الحي.. كان بوسعه أن يهدم المعبد على من فيه ويدفن الجميع تحت أنقاضه، ولكنه آثر أن يحافظ على هذا الصرح الذي تعب وجد وشقي حتى شيده صدق معسول قولها وأقنع نفسه بتصديق قولها علها تصحح من سلوكها المعوج.. ذكرها بأبنائها الذين يدرسون في الجامعات وأنهم سيتخرجون في الجامعة، وكيف أن سلوكها المعوج سيكون نقطة سوداء في الرداء الأبيض الذي حرص دائما أن يكون ناصعا.. ترك الحى الذي عاش فيه والفيلا التي بناها بعرقه واستأجر شقة بمكان بعيد كي يبتعد بها أو يبعدها عن هذا الطبيب.. ولكنها لم ترتدع اصمت أذنيها واغلقت فكرها وداست علي ضميرها وابتعدت عن النصيحة واختارت طريق إبليس- حسب المرافعة.
من هول ما كشفت عنه التحقيقات أنه لم يكن طبيبا.. كان أفاقا.. يبتز أموالها.. وكانت تعلم ذلك جيداً وأدخلته البيت ليخطب ابنتها وهي تعلم جيداً ليكون إلي جوارها عابثة غير عابئة حتى بعد أن تأكدت ابنتها من خيانتها .. لم تفق من غفلتها ولا أنانيتها.. لم تتحرك أمومتها وهي تري أبنتها تتعذب.. تترك البيت حتى لا تري الخيانة في عيون أمها ليلاً ونهاراً .. ووصلت بها البجاحة والتدني منتهاها عندما فاجأت الزوج معترفة بخيانتها- طبقا للمرافعة.
واستطرد في دفاعه: «أن المادة 237 من قانون العقوبات، التي جعلت الجنحة لمن يقتل زوجته وشريكها وهما متلبسين بجريمة الزنا تنطبق علي المتهم في الدعوي الماثلة.. فما هو معني التلبس؟ التلبس لا يعني المشاهدة بالعين.. لا يقتضي أن يفاجأ الزوج بوجود زوجته مع خليلها في وضع الرزيلة، لكن التلبس يدرك بأي حاسة من حواس الإنسان.. فما الفرق في أن يدرك الصورة ببصره أو يدركها تخيلاً بعد أن سمعها بأذنيه.. في أن يسمع زوجته وهي تعترف أنها تخونه بين أحضان رجل آخر لا تستطيع أن تنساه وأن صورته لا تفارق عينيها».
وأكمل: إنه التلبس بعينه.. وقعه علي نفسه وأثره عليها تماماً كما لو كان شاهدهما معاً متلبسين بالجريمة.. الغاية التي تغياها القانون والحكمة التي من أجلها شرع هذا النص وهبط بعقوبة القتل من الجناية إلى الجنحة.. عقوبة الجنحة ذلك الشعور المفاجئ غير المتوقع من الزوج عندما يفاجأ ويتيقن من أن زوجته بين أحضان رجل آخر.. على نحو يفقده صوابه وقدرته على التفكير العاقل المتأني في روية وهدوء أمام هول ما رأي وما سمع وهو ما يتحقق وتأكد منه عندما سمعها وهي تعترف بالخيانة وتؤكدها بلا حياء أو خجل».
وتابع متسائلا: «لو أيا منا قدر له أن يواجه الظروف ذاتها التي واجهها المتهم.. أن يبتلي بزوجة خائنة تجاهره بالخيانة لا تراعي حق الزوجية والواجبات التي تفرضها الأمومة.. فماذا هو فاعل غير ما فعل المتهم؟».
حكمت المحكمة: «بحبس المتهم سنة مع الإيقاف عن تهمة قتل زوجته كان قد قضاها في الحبس الاحتياطي وأوردت في أسباب حكمها أنها طبقت عليه المادة 237 من قانون العقوبات وقاست حالته على حالة التلبس باعتبار أن القياس جائز في المسائل الجنائية إذا كان لمصلحة المتهم».
يشار إلى أن الواقعة من 12 واقعة سردها المحامى بهاء الدين أبو شقة فى كتابه أغرب القضايا التي تمثل تجربة إنسانية صادقة وعميقة من داخل المحاكم المصرية خلال سنوات طويلة من عمل «أبو شقه» داخل المحاكم.
ويتضمن الكتاب 12 قضية اتسمت بالغرابة والتعقيد والغموض، وأوضح كيف تم حلها والوصول إلى الجاني الذي كان يظن فى أغلب الحالات أنه في مأمن من العقاب، وأن يد العدالة لن تصل إليه، ومن هذه القضايا «اديني عمر.. وارميني في البحر، والأفعى والثعبان، العقرب والضفدع، صراع مع الوهم، وضيف على مائدة عشماوي، ولقاء مع إبليس، ونصابين لكن ظرفاء وعدالة السماء وقاتل رغم أنفه وفى بيتنا شيطان، الخيانة قتلت في الفجر، الذئب والحمل».