لماذا يوجد الشر في عالم خالقه إله رحيمٌ قديرٌ عدل؟
الأحد، 04 مارس 2018 10:20 م
السؤال عن وجود الشر في عالمنا هو أكثر ما يحْتَجُّ به الذين يرفضون فكرة وجود إلهٍ خالقٍ مدبرٍ لهذا الكون، فيوجهون السؤال للمؤمنين: "أنتم تدَّعون أنّ هذا الكون له خالق، وأنّ هذا الخالق متصفٌ بصفات الكمال، فهو القادر على كل شيء، فهو إذاً القادر على أن يمنع حدوث الحروب والجرائم والمصائب في عالمنا. لكننا نرى أنواع الشر المختلفة قد تكررت في تاريخ البشرية وحاضرها دون أن يمنع إلاهكم حدوثها، مع أنكم تدَّعون أن الله هو إله قديرٌ رحيمٌ ومحب. فإذا سلّمنا لكم بوجود هذا الإله الخالق لهذا الكون، فهو إما أن يكون إلهاً عاجزاً عن منع حدوث الشر، فيكون إلهكم ضعيفاً وقدراته محدودة، وإما أن يكون إلهكم قادراً على منع حدوث الشر ولكنه غيرُ معنيّ بذلك، فيترك حدوث الظلم والفقر والمجاعات والقتل والحروب وغيرها مع قدرته على منع ذلك كله، فهذا لا يكون بحا لٍ إلاهاً رحيماً محباً، كما أننا لا نستطيع أن نقول عن أمٍّ أنها رحيمة بأطفالها مُحبة لهم إذا رأتهم يسقطون مثلاً من نافذة الشقة وهي تجلس بجوارهم وتستطيع منع سقوطهم، لكنها تتركهم يسقطون غير كارثةٍ أو مهتمة بمصيرهم، فتكتفي بدور المتفرج. لذا لا نقتنع معكم بوجود مثل هذا الإله الذي إما أن يكون ضعيفاً غَيْرَ قادرٍ على كل شيء أو أن يكون شريراً مريداً للشر".
هذه التساؤلات لا بد أن نتعامل معها بجدية وبموضوعية، لأنها كثرت في الآونة الأخيرة ليس فقط في الوسط الإسلامي، بل أيضاً المسيحي، وذلك في الغرب كما في الشرق. والتجربة تَشهَدُ أنّ التعامل مع مثل هذه الأسئلة بأسلوب تغلب عليه العاطفة، كالتجريح بالسائل أو توجيه الإهانات له، يُشعر السائل بأننا لا نملك حجة قوية لنقدم له إيجابات مقنعة فيُعزّز ذلك موقفَه.
فلنعُد للسؤال عن كيفية إمكانية وجود الشر في عالمنا رغم إيماننا بوجود خالقٍ قديرٍ رحيمٍ لهذا العالم. المُشكلة في نظري تكمن في السؤال نفسه، لأن السائل ينتظر أنه إذا كان للكون إله، فلا بد أن يكون هذا الإله مُتحكّماً بشكل مباشر في الكون كي يمنع حدوث أي نوع من الشر، وكأن الإنسان ليس له أي دورٍ في عالمنا وكأن الله لم يهبه أيّ إرادة أو قدرة أو حرية.
فإذا سلّمنا لصديقنا السائل تنزُّلاً أن الله سبحانه وتعالى يتحكّم بالكون على هذه الشاكلة، أي أن الله سوف يمنع حدوث أي حادث سير، أو رسوب أي طالبٍ في المدرسة أو في الجامعة، أو سقوط أية طائرة، وأنه سبحانه سوف يمنع ارتفاع السكر أو الضغط أو الكولستيرول عند كل إنسان وأنه سيمنع حدوث المجاعات في العالم الخ. فتعالوا معي نتخيل هذا العالم كيف سنعيش فيه.
في مثل هذا العالم الذي يتحكم الله في كل تفاصيله بشكل مباشر ليمنع حدوث الشر، لا داعي للطالب أن يدرس للاختبار، لأنه حتى ولو لم يدرس، فالله سيتدخل بقدرته ويحول دون رسوبه، ولا داعي في هذا العالم أن نلتزم بقواعد المرور وأن تتوقف السيارات مثلاً عند الإشارة الحمراء، لأن الله سيمنع حدوث أي حادث سيرٍ سواء التزمنا بقواعد المرور أم لم نلتزم. في هذا العالم لا داعي لنا أن نلتفت للفقير أو الجائع، فالله هو من سيقوم بنفسه بإعطاء الفقير وإطعام الجائع. في هذا العالم ليس من الضروري أن يتفقّد مهندسو الطيران حالة الطائرات لصيانتها إذا تطلب الأمر، فسواء كانت في حالة جيد ة أم لا، فالله سوف يمنع سقوط أية طائرة. في مثل هذا العالم يمكننا أن نأكل الحلويات والدهون كما نشاء، فالله سوف يمنع عنا كل مرضٍ مهما أفرطنا في تناول الأطعمة الضارة. في مثل هذا العالم لن يكون هناك معنىً للإيمان بالله أصلاً، لأنه سواء آمنّا به أم لم نؤمن فلن يسمح الله حدوث أي شرٍ منّا أو علينا. في مثل هذا العالم سيُصبِح وجود الإنسان مثل عدمه، فالله هو من يقوم بكل شيء وبشكل مباشر. في مثل هذا العالم ليس من الضروري أن أستمر في كتابة هذه الأسطر، فالله سوف يُتمها، بل وليس من الضروري أن أذهب غداً للعمل، فالله سوف يمنع بطريقته من أن يتسبب تغيّبي عن عملي في الجامعة بأي شر.
يُمكننا أن نستمر سوياً رسم صورةٍ لمثل هذا العالم الذي يتحكّم فيه الله بشكل مُباشر ليمنع حدوث أي شر فيه، ولكني متأكد أن القارئ يُشاطرني الرأي أنه لا توجد للإنسان في مثل هذَا العالم أدنى قيمة ولن يكون هناك أدنى معنى لبقائه فيه. وهنا تكمن مشكلة السؤال عن لماذا الشر في عالم فيه إله قديرٌ رحيمٌ عدل.
لكن دعونا نعود لما تؤمن به الأديان السماوية، وسوف أركز على الإسلام الذي منه تنطلق نظرتي هنا. نحن نؤمن بالله القدير، ولكن قدرة الله سبحانه وتعالى لا تتجلَّى في أنه سبحانه يتحكّم في العالم بطريقة تجعل من وجود الإنسان فيه أمراً عبثاً، بل تتجلَّى قدرته سبحانه في خلق الإنسان كمخلوق حرٍّ وفي تمكينه من خلال تزويده بالعقل من أن يستخدم حريته في جلب الخير ودفع الشر.
ذلك السائل الذي لم يؤمن بالله مُحتجّاً بأن الشر في العالم دليلٌ على عدم وجود إله عنده القدرة على منع الشر، قد أساء فهم القدرة الإلهية فظنها أنها تتجلَّى في تحكّم الله بكل شيء في خلقه بحيث لا يبقى لحرية الإنسان أيّ معنى. القدرة الإلهية لا تتجلَّى في هذا التحكم، بل في قدرتها على إيجاد إنسان مُزوّدٍ بالإرادة والحريّة والقدرة على فعل الخير وتجنب الشر.
لقد أبدع الفيلسوف المصري الكبير، زكريا إبراهيم، في كتابه عن مشكلة الحرية حين تساءل:
"ما الذي يمنعنا من أن نفترض أن الله قد أراد فعلاً أن تكون هناك مخلوقات حرة فاعلة. أعني إرادات أخرى غير إرادته الخاصة ؟ بل لماذا لا نقول أنه لمّا كان من المستحيل أن تكون الأشياء مخالفة لما يريده الله فأنه لابدّ وأن تكون لدى الله قدرة على خلق موجودات حرة. حقاً إن مثل هذه القدرة المستقلة التي يهبها الله بمحض إرادته لإرادات أخرى، قد تبدو للبعض بمثابة نقصان في القدرة الإلهية. ولكن أليس في وسعنا أن نقول إن قدرة الله المطلقة تتمثل في صورة أسمى وتظهر بشكل أوضح حينما تخلق موجودات قادرة حقاً بدلاً من أن تخلق موجودات عاجزة لا تملك قدرة ذاتية ولا تقدر على توجيه نفسها ؟ والحق ماذا عسى أن تكون تلك المقدرة الإلهية إذا كان كل ما تستطيع أن تفعله إنما هو أن تخلق أشباح موجودات ؟ أليس مثل هذا الخلق بعيداً كل البعد عما نتصوره عن قدرة الله المطلقة ؟ وإذاً فلماذا لا نقول أنه كلما أعطى الله مخلوقاته قدرة مستقلة ونشاطاً حقيقياً كانت قدرته أكمل وأظهر، لأن عظم المنحة يكشف عن عظم المانح ؟ وحريتنا هي في الحقيقة أصدق تعبير عن قدرة الله المطلقة."
فَهْمُ زكريا إبراهيم هنا عن الحرية هو تماماً ما فهمه الفيلسوف الألماني فريدريك ويلهلم شيلينغ، في أن الحرية تتحقق كلما أهْدَت حرية، بمعنى أن حريتي تتحقق كلما سمحتُ أنا للآخر بأن يمارس حريته، كما أنّ حريته تتحقق كلما سمح هو لي بأن أمارس حريتي، وقس على ذلك أموراً كثيرة. فإنسانيتي تتحقق مثلاً أكثر كلما حقّقتُ أنا إنسانية الآخر وأعنته على ذلك.
هذه الفكرة تفتح لنا باباً جديداً لحل المشكلة التي واجهت علماء الكلام الإسلامي من أشاعرة ومعتزلة حين طرحوا السؤال: هل إرادة الله أم إرادة الإنسان هي التي لها الكلمة الأخيرة؟ فانتصر السادة الأشاعرة كما هو معروف لإرادة الله وحريته ولكن على حساب حرية الإنسان. أما السادة المعتزلة فقد انتصروا لإرادة الإنسان وحريته على حساب حرية الله سبحانه وتعالى.
أما الفكر الفلسفي الحديث عن الحرية فهو يسمح لنا بالتوفيق بين حرية الله وحرية الإنسان. حيث أن إعطاء الحرية هو ليس تقليصاً للحرية بل بالعكس، إهداء الحرية هو تأكيدٌ وإثمارٌ للحرية الذاتية. فمنح الإنسان الحريةَ لا يُقلّص من حرية الله لأنّ بِمَنحِ الله الحريةَ للإنسان تتجلّى حرية الله. فالله أراد أن تكون للإنسان إرادة مستقلة وحرية تجعله مسؤولاً عن أفعاله، وهذه هي عين قدرة المولى عزّ وجلّ.
فالشر يحدث في عالمنا إذاً هناك حيث يُسيء الإنسان استخدام هذه الحُرية المهداة له من الله. إنه إذاً ليس الله من تجب مُساألته عن سبب حدوث الشر في العالم، بل الإنسان هو المسؤول عن ذلك. ولو "تدخل" الله بشكل مُباشر لمنع الشر في العالم لكان في ذلك إلغاء لحرية الإنسان. فالله كرّم الإنسان بأن زوّده بهذه الحرية، فَخَلَق الله العالم وتصرّف ويتصرّف فيه سبحانه على الوجه الذي لا يفقد من خلاله الإنسا نُ حريته.
لكن قد يسأل هنا سائلٌ عن معجزات الأنبياء كما أخبر القرآن عنها، أليس في هذا تدخل مباشرٌ من الحق سبحانه وتعالى في مسيرة التاريخ؟ وما فائدة دعائنا إذا كان الله لا يتدخل في مسيرة العالم بشكل مباشر؟
إن القرآن قد أخبر عن معجزات الأنبياء ليؤكد لنا أن الله قريب وأنه كما أخبر عن نفسه في القرآن معنا حيث كنّا وأنه يُجيب دعوة المضطرّ إذا دعاه، بل ويستجيب سبحانه لكل دعوة: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم"، فهذا أمرٌ مفروغٌ منه. لكن استجابة الدعاء لا يعني أن الله قد أخذ على عاتقه تسيير أمور الإنسان جميعها بشكل مباشر وسلبه بذلك حريته ومسؤوليته، كما لا يعني ذلك أن الله قد أخذ على عاتقه خرق قوانين حركة الكون كتأجيل شروق الشمس لمدة ساعات استجابة لدعاء طالب أراد أن ينام ساعات أطول قبل ذهابه للجامعة. فكثيراً ما يستجيب الله لدعاء الإنسان من خلال الإنسان نفسه، كأن يُلهم الحق سبحانه الطالب ضرورة المواظبة على دروسه في وقتها كي ينجح في الاختبار، لكن يبقى أخذ هذا الإلهام بعين الاعتبار والعمل به مُوكلاً للإنسان، فإن استخدم حريته فيما ينفعه وواظب على دروسه فسيتحقق مُراد الله من إجابة دعوته من خلال جهده، أما إن تقاعس ولم يُحضّر نفسه لاختباره فلن ينفعه الدعاء ولن يأتي الله ليكتب عنه الاختبار. والقرآن أكد على هذا في قوله جل جلاله: "إن الله لا يُغَيِّر ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم".
هذا لا يعني أن الله ليس بقادرٍ على أن يتدخل بطريقته سبحانه في مجريات التاريخ وفي ظرفٍ معين قد لا نفهم دائماً جميع أبعاده ومعطياته ولكن يبقى عمل الله في عالمنا بشكل مباشر أو خارق لما تعودناه حالة استثنائية وتبقى القاعدة الجارية هي عمل الله خاصة من خلال ذلك الإنسان الذي أحبه الله وأحب هو الله كما ورد في الحديث القدسي: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها وقدمه التي يمشي بها".
قد يخالفني في هذا من ينطلق من مبدأ وحدة الوجود الذي يرى أن العالم كله ليس إلا تجلي الله سبحانه وتعالى، فالله يعمل وفق هذا المنظور بشكل مباشر في العالم مما يجعل السؤال عن حرية الإنسان صعب الإجابة للغاية.
السائل الذي لم يؤمن بالله مُحتجّاً بأن الشر في العالم دليلٌ على عدم وجود إله عنده القدرة على منع الشر، قد انطلق من صورةٍ لإلهٍ يريد تحقيق إرادته ولكن على حساب حرية الإنسان. لكن هذه الحرية الإنسانية التي منحها الله للإنسان تبدو أنها عند الله ثمينة ذلك الثمن، بحيث أن الله خلق الكون وسيّره بطريقة تُحافظ أكثر المستطاع عليها. فمن احتج على المؤمنين بالله بوجود الشر في عالمنا، قد فاته التفكّر بمكانة حرية الإنسان عند الله وتبعيّات ذلك.