الدين يُسر، فلماذا يُصر البعض على تعسيره؟
الأحد، 18 فبراير 2018 09:39 م
كلنا أو معظمنا يعلم أو على الأقل سمع أن الإسلام دين يسر، وأن الحق سبحانه وتعالى قال لرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وأنه سبحانه قال: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"، والكثير الكثير من الأمثلة على يُسر الإسلام لا يسع المجال هنا لذكرها جميعها، ولكن لنجعل أهم دليل عملي على يُسر الإسلام هو وصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الرسول عليه السلام بأنه ما خُيّر في أمرين إلا اختار أيسرهما، ولنجعل من سنة رسولنا الكريم هذه معياراً لنا إحياءً لسنته عليه السلام، فهو كما وصفه القرآن الكريم: "عزيز عليه ما عَنِتُّم، حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم"، ولنتّفق على أن اتباع سنة نبينا الكريم يعني، أني كمسلمٍ إذا خُيّرت بين أمرين فسوف أحرص دائماً على أن أختار الأيسر منهما إن لم يكن في ذلك معصية، وإن خُيّرت بين فتوتين أو أكثر فسأختار أيضاً الأيسر منها.
لكني أتساءل عن سر ثقافة تشديد، بل وتعسير البعض من المسلمين على أنفسهم وعلى غيرهم رغم شدة حرص القرآن الكريم والسنة المشرفة على التذكير بأن الدين يُسر. أريد أن أضربة مثالين على ذلك من واقع حياتنا كمسلمين في أوروبا.
المثال الأول يتعلق بقضية أكل ذبائح غير المسلمين هنا في أوروبا. الجميع متفقٌ على حرمة أكل لحم الخنزير، ولكن حين نأتي لأنواع اللحوم الأخرى التي أحلّها الإسلام والتي عليها يدور الحديث هنا، فتجد أن هناك فتاوى تُحلّل وأخرى تُحرم وثالثة تتحدث عن كراهية أكل ذبائح غير المسلمين.
من الملفت للنظر، أن فتاوي تحليل أكل ذبائح اليهود والنصارى قد صدرت أيضاً عن مُفتين عُرفوا بتشددهم أو انتمائهم لمذاهب متشددة كالسلفية. فعلى سبيل المثال قال الشيخ ابن باز، مفتي المملكة العربية السعودية سابقاً، بحل ذبائح اليهود والنصارى (يمكن الرجوع إلى تفصيل فتواه على موقعه الرسمي في الإنترنت)، كما أكد ذلك الشيخ ابن عثيمين وكثيرون غيرهم، حيث استدلوا بالقرآن الكريم الذي صرح بحل ذلك في قوله تعالى: "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، وكما قال ابن عباس: "طعامهم أي ذبائحهم"، كما استدلوا بالسنة النبوية الشريفة كحديث عائشة رضي الله عنها، أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن قوماً يأتونا باللحم لا ندري أذكِر اسم الله عليه أم لا، فقال: "سموا عليه أنتم وكلوه"، قالت: "وكانوا حديثي عهد بالكفر". وغيرها من الأدلة، حتى أن الشيخ ابن عثيمين يرى أنه لا يجوز للمسلم في أمريكا وغيرها من البلاد السؤال عن كيفية ذبح اللحوم أصلاً، بل يكتفي بالتسمية ويأكل اتباعاً لعمل النبي عليه السلام (يمكن الرجوع لفتوى الشيخ في اليوتيوب بعنوان "فتوى أكل لحوم أهل الكتاب")، كما أكد خطيب جامع الشيخ زايد، الشيخ وسيم يوسف، بعدم جواز السؤال والتحري عن كيفية الذبح طالما كان المسلم مقيماً في بلد يهودي أو نصراني.
مع هذا تجد أن عدداً غير قليل من المفتين وأئمة المساجد في أوروبا يفتون اليوم بحرمة أكل ذبائح غير المسلمين من يهود ونصارى ويُشددون بذلك على المسلمين، فأصبح هذا الموضوع هاجساً ووسواساً يرافق المسلمين.
أنا لست هنا في موقع الإفتاء، ولكن في موقع التساؤل عن سر اعتقاد الكثيرين، دون تعميم، أنه كلما عسّر الإنسان على نفسه وعلى غيره في مثل هذه الأمور، كان ذلك من علامات الورع والتقوى. أليس في هذا مزايدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تعبّد الله وتقرّب إليه بالأخذ بالأيسر لا بالأعسر؟ ذلك النبي الكريم عليه الصلاة والسلام والذي توقف عن أداء صلاة التراويح في المسجد خوفاً أن تُفرض على المسلمين ويشقّ عليهم ذلك، أليس كان سيختار الفتوى الأكثر تيسيراً على المسلمين في قضايا اختلف فيها العلماء كقضية أكل ذبائح غير المسلمين؟ وهل يدّعي أولئك الذين يصرون على تعسير حياة المسلم أنهم أتقى لله وأقرب إليه من رسول الله أو أنهم أحرص منه عيه السلام على رضى الله؟ أليس التقرب إلى الله وإلى رضاه سبحانه باتباع الأيسر؟ أليس في الإصرار على التعسير على المسلمين تفريط في سنة الرسول وتجاهلها؟ لماذا أصبح التعسير إذن ثقافة لدى البعض وربما لدى الكثيرين؟!
لا أقصد من وراء ذلك الإنتصار لفتوى تحليل ذبائح أهل الكتاب، بل أقصد الإنتصار للتعددية الدينية في الإسلام كمبدئ، فيصبح عالم الدين أو إمام المسجد مطالباً بأن يُظهر للعامة أكثر من رأي في المسألة ثم يترك لكل فرد حرية أن يختار هو لنفسه ووفق سياقه الرأي الأصح له. كما أريد أن أنتصر لروح الإسلام التي تدعو للتيسير، لا للتعسير، والتي تدعو للوعي الديني بأن كلاً مسؤلٌ عن اختيار طريقه إلى الله، فلا تبعيّة ولا بابويّة ولا كهنوت في الإسلام.
المثال الثاني يتعلق بمواعيد الإفطار في رمضان، خاصة في تلك البلاد التي يتأخر مغيب الشمس فيها حتى ساعات متأخرة من الليل، وذلك يكون غالباً في فصل الصيف، فمثلاً يكون موعد الإفطار في بعض مدن شمال ألمانيا في أشهر الصيف قرابة الساعة العاشرة والنصف ليلاً، بينما موعد الإمساك الساعة الثانية صباحاً. الكثير من المسلمين الذين يصومون رمضان يلتزم بهذه المواعيد، لكن البعض لا يتمكن من صيام كل هذه الساعات الطويلة، أو يشق عليه ذلك.
هناك من يفتي في هذه الحالات بجواز الإلتزام بمواعيد الإمساك والإفطار حسب توقيت أقرب بلد مسلم، أو حسب توقيت مكة المكرمة، ولكن هناك من يفتي بعدم جواز صيام من اتبع هذه الفتاوى ويقف مع حرفية النص دون إلقاء أي اعتبارٍ لظروف البلاد والعباد، فيُصرّ على التضييق عليهم وإلزامهم رأيه بوجوب الصيام من الفجر إلى المغرب مهما طال اليوم وشق ذلك على العباد.
أكرر أني لست بصدد الإفتاء، ولكني أتساءل لماذا هذا الإصرار على التضييق على الناس، أليس من واجب الإمام أو عالم الدين أن يضع الآراء المعتبرة في المسألة أمام أعين الناس، حتى وإن اختلفت هذه الآراء وحتى إن خالف بعضها رأيه هو، ثم يترك لهم الاختيار، كلٌ وفق استطاعته؟ أليس في أمر الرسول عليه الصلاة والسلام: "إستفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" بيان منه عليه السلام أنه لا يجوز للإنسان تفويض أمور دينه لشخص آخر، بل عليه هو أن يُحدد لنفسه طريقه إلى الحق سبحانه وتعالى بعد البحث ووزن الأمور بميزان قلبه المخلص الباحث عن حب الله والتقرب إليه؟
تصلني في شهر رمضان الكثير من الاستفسارات من قبل مدراء المدارس الألمان الذين يشتكون كثرة حاجتهم للإتصال بالطوارئ في شهر رمضان، خاصة في فصول الصيف، لكثرة الطلاب الصائمين الذين يفقدون الوعي، كما يشتكون تأخر حضور بعض الطلاب إلى المدرسة أو عدم تمكنهم من التركيز ومتابعة الأساتذة في هذا الشهر. أرجو عدم سوء فهم ما أحاول طرحه هنا، فليس القصد هو إلغاء فرض الصيام في رمضان، الذي أسعى له هو لفت النظر لحاجتنا الماسة لثقافة التيسير على الناس خاصة في مثل هذه الظروف حين يشق عليهم تتمة الصيام لساعات الليل المتأخرة بألاّ نبخل عليهم ليس فقط بإظهار الفتاوى المُيسِّرة، بل وقبل كل شيء بتسليحهم بسنة الرسول عليه السلام في الحفاظ على اختيار الأيسر، فالتقرّب إلى الله يكون باتباع الأيسر لا بالتشديد على نفسه وغيره، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى يُحِب أن تُؤتى رخصه، كما يكره أن تُؤتى معصيته" (أخرجه أحمد). وقد علّق الإمام الشوكاني في كتابه "نيل الأوطار" على هذا الحديث "أن في ترك إتيان الرخصة، ترك طاعة، كالترك للطاعة الحاصل بإتيان المعصية". فكأنه فهم من هذا الحديث، أن في عدم الأخذ بالرخصة معصية. فإذا كان الله تعالى يحب أن نأخذ برخصه سبحانه، فالذي يكره الأخذ بها، يكره أمراً يحبه الله.
أنا على وعي أن الرخصة الشرعية ليست في نفس مقام الأخذ بالفتوى الأيسر، لكن روح هذا الحديث الذي يخبرنا أن الله يحب أن تُؤتى رخصه هي نفسها روح اليسر والرحمة التي عمل بموجبها رسولنا عليه السلام.
نعم، الكثير من عامة المسلمين أصبح ضحية تعسير بعض الفتاوى، حتى تحول هذا التعسير لثقافة. ففي وعي الكثيرين أن الله يحب ما يشقّ علينا وحاشاه سبحانه، بل هو أرحم بِنَا من أمهاتنا كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
كما أن هناك جماعات من المسلمين بيننا عدلت عن روح الإسلام، فلم تفهم الإسلام إلا كدين تعنت وقسوة وكراهية للإنسانية، فعملت على تكريس ثقافة التحريم والتكفير في مجتمعاتنا وتكبّر أتباعها على جل المسلمين فأصبحوا عبئاً على أوطانهم، بل وعلى الإسلام ينخرون روحه كما تنخر السوس الخشب وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
في كتابه "فيض القدير" أكد العالم الجليل المناوي أن الشرع أمر بالأخذ بالرخص، كي يدفع ذلك الكبر والعجب عن النفس. وهذا سرّ تعنت بعض المتعنتين من هذه الجماعات، إنه التكبر، أو كما نقول اليوم، هي المزايدة في الدين ومحاولة إفهام النفس والآخر أني أكثر تديناً وأقرب إلى الله لأني إذا خُيّرت بين أمرين، اخترت أعسرهما وأكثرهما مشقة. لا، ليس هذا هو معيار التدين. فتعسير الدين مآله قسوة القلب، ومن قسى قلبه لم يعد فيه مكان لحب الله أو خلقه، فأخذ يتكبر على عباد الله مُقنعاً نفسه أن معظم الناس بما فيهم المسلمين على ضلال وأنه هو وأتباعه وحدهم على الحق.
نحن اليوم في أمس الحاجة لروح التيسير النابعة عن حب الله، دون أن يتلبسنا وسواس الخوف من أن التيسير في الدين سيؤدي بِنَا للبعد عن الدين، بل العكس صحيح: التعنت في الدين هو الذي يُبعد عنه كما جاء في الحديث: "إن الدين يسر، ولن يُشادّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه". فلنحي سنة الرسول عليه السلام: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره" (مسند أحمد).
كما أننا في أمس الحاجة لإعادة فهم معنى التشدد في الدين وفق معايير الحب والتراحم والأخلاق والإنسانية، حتى يصبح المتشدد في تدينه هو ذلك الشخص الذي يحرص كل الحرص على حب الخلق ورحمتهم وإظهار مكارم الأخلاق في جميع معاملاته على أكمل وجه.