فتنة النقراشى باشا وحقل ظهر
السبت، 17 فبراير 2018 03:19 م
فى العام 1947 قرر رئيس وزراء مصر محمود فهمى النقراشى باشا الذهاب إلى أمريكا لعرض قضية استقلال مصر من الاحتلال البريطانى على مجلس الأمن.
وبعد تلك الزيارة التاريخية بسنوات كتب الكاتب الراحل الأستاذ رجاء النقاش مقالًا نشرته الأهرام تحت عنوان «اخلع طربوشك يا أخى» قدم فيه تغطية طريفة لكواليس الزيارة التاريخية، جاء فى المقال ما ملخصه:
وصل الزعيم المصرى إلى نيويورك وهو يلبس الطربوش، وأصر على إبقاء الطربوش فوق رأسه طيلة مدة رحلته إلى أمريكا وقد كان طربوش النقراشى موضوعا للسخرية والفكاهة من جانب الصحف الأمريكية، ومع ذلك أصر النقراشى على موقفه وتمسك بطربوشه وكان الأستاذ محمود أبو الفتح الصحفى الكبير وصاحب جريدة المصرى المعروفة، أحد الصحفيين الذين سافروا إلى أمريكا لمتابعة عرض القضية على مجلس الأمن، وهو الأمر الذى انتهى بقرار سلبى كامل من المجلس جاء فيه أن مجلس الأمن لم يتمكن من اتخاذ قرار بشأن هذه القضية وستظل المسألة المصرية مدرجة فى جدول الأعمال ومعنى هذا القرار أن مصر لم تكسب شيئا من عرض قضيتها على مجلس الأمن، وعندما عاد محمود أبو الفتح من أمريكا كتب فى المصرى سلسلة من المقالات حول الأسباب التى أدت إلى عدم نجاح مصر فى الحصول على قرار ايجابى فى مصلحتها من المنظمة الدولية.
وقد أشار أبو الفتح إلى أسباب عديدة، ولكن الذى يهمنا هنا هو النقد الذى وجهه الصحفى الكبير إلى النقراشى باشا بسبب إصراره على أن يلبس الطربوش رغم أن الكثيرين قد نبهوه إلى أن الطربوش غير مألوف ولا معروف فى أمريكا وأنه سوف يعطى انطباعا للرأى العام الامريكى بأن النقراشى إنما هو رجل متخلف يمثل دولة متخلفة، وأن هذا فى حد ذاته مما قد يبتعد بالناس عن القضية الرئيسية وهى قضية جلاء الانجليز عن مصر.
انتهى ملخص كلام الأستاذ النقاش الذى لم يلتفت فيه لأخطر ما صاحب الزيارة من فتنة لا تزال قائمة ومتقدة.
فقبل ذهاب النقراشى إلى أمريكا أطلق صيحته العظيمة فى وجه الإنجليز: «أيها القراصنة اخرجوا من بلادنا».
تلك الصيحة كانت حقًا واجبًا على رجل مثل مصطفى باشا النحاس أن يتجاوب معها بكل ما بقى له من قوة ولكن النحاس باشا الذى أفنى عمره داعيًا لاستقلال مصر ومدافعًا عن دستورها فعل فعلًا عجيبًا لا يتسق مع تاريخه ونضاله، لقد أرسل النحاس باشا إلى مجلس الأمن وإلى السكرتير العام للأمم المتحدة برسالة اتهم فيها النقراشى بالديكتاتورية مؤكدًا أنه، أى النقراشى، لا يمثل مصر وليس صوتا شرعيا يتحدث باسمها.
لماذا خطا النحاس تلك الخطوة التى تنقض تاريخه النضالى المشهود ؟
إنها الخصومة السياسية لا أكثر ولا أقل، والتي ما إن تتمكن من القلوب فتعمى البصيرة قبل البصر، فترتبك الخطى ويبعثر الهوى الهدف المنشود ويدب الخلاف ويشتد عوده حتى لا يعود للمصالحة مكان أو مكانة.
تلك الخصومة الفاجرة التى تعمى البصائر عادت لتطل برأسها بعد مرور واحد وسبعين عامًا على واقعة النقراشى والنحاس، فبعد ظهور تباشير حقل ظهر المصرى القبرصى، رأت تركيا أن تشاكس مصر وتعاندها وتفوت عليها فرصة أكيدة من فرص النماء والرخاء فأعلنت من جانبها بطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص، وذلك لأنها -أى تركيا- لا تعترف بدولة قبرص !
الموقف التركى المتهافت أرخص من عناء الرد عليه، فالفتنة وإن كانت تركيا هى عنوانها ولكن وقودها كان جماعة من المصريين الذين أعمت الخصومة السياسية مع الحكومة المصرية بصيرتها فراحت تساند بطريقة مريبة غاية الريبة المزاعم التركية !
ونست تلك الجماعة أن اتفاقية ترسيم الحدود كانت بدايتها قبل خمسة عشر عامًا من عامنا هذا، فلماذا سكتت تركيا كل تلك السنوات ثم اكتشفت فجأة أنها لا تعترف بدولة قبرص التى هى عضو فى الأمم المتحدة وعضو فى منظمات ومؤسسات دولية عديدة ؟
تلك الجماعة تساند المزاعم التركية وكأن الحكومة المصرية ستستولى على إنتاج حقل ظهر ثم ستبيعه لحسابها الخاص.
معارضة الحكومة شىء والوقوف ضد فرصة للتنمية تبدو شبه مؤكدة ستعود بالخير على الوطن كله شىء آخر، ولكن ماذا نقول والله عز وجل قال: «فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور».