عفوا طفلتي ف"الغربة" لا قلب له
الثلاثاء، 13 فبراير 2018 07:17 م
وتبقى دموع المغتربين وذويهم هي سيدة الموقف وبطلة المشهد، تهوّن عليهم آلام الفراق وتغسل أوجاعهم وأحزانهم، ففي مشهد تنخلع له القلوب، بطلته طفلة صغيرة، امتلأ قلبها شوقا قبل الوداع، وهي تقف في شجون وحزن شديدين، وقد امتلأت عيونها بالحسرات والألم، تودع أباها وهو يستعد للقاء الغربة بحثا عّن لقمة العيش، وقد انتهت أجازتة سريعا وحان وقت الفراق، ويزداد الموقف ألما بدموع هي أكثر الدموع حرارة وصدقاً، وهي تستجدي عطف والدها بكلمات يهتز لها الوجدان، في محاولة يائسة منها أن تثنيه عن السفر، أو لعلها تحظى بليلة أخرى في دفئ أحضانه، ويعلو صراخها:"قول للشغل بنتي الصغيرة زعلانه منك"، لكن الحقيقة التي لم تدركها تلك المسكينة أن الشغل لا قلب له، وأن الفراق لا مفر منه، وأنها قد مزقت قلب أبيها وأمها وكل كل من حولها أو شاهدها بكلماتها البريئة الصافية.
إنه الأب يا ساده وإنها الغربة المقيتة، مزيج بنكهة خاصة لا يعرف طعمه إلا من ذاق مرارته، فالأب يضطر للسفر من أجل لقمة العيش، ومن ثم يتألم بين قسوة الغربة وبين حنينه لأهله وأولاده، في حين تجد الأم نفسها مضطرة لتحمل مسؤولية الأبناء، وأصبح عليها القيام بدوري الأب والأم سويا، مع افتقادها لروح الشراكة والدعم من الأب، ناهيك عن عدم تلبية احتياجاتها النفسية والجسدية، وبالرغم من كون الأم الحضن الأكثر دفئا في حياة الطفل منذ ولادته، إلا أن ذلك لا يغني من سداد الأبناء للجزء الأكبر من فاتورة الغربة، حيث يفقدون حنان الأبوة، ويختفي من أمامهم القدوة، ويغيب عامل الأمان والحماية والمرشد لهم في كل تفاصيل حياتهم، بالإضافة إلى الإصابة بآثار نفسية مزمنة يصعب شفاؤها لاحقا.
ومع الغربة تبدأ المشاكل الأسرية، فبداية من الزوجة التي تتأثر بالبعد لأوقات طويلة، تشعر معها أنها تعيش بمفردها، لتجد نفسها مسئولة عن إدارة شئون الأسرة بنفسها، ومن ثم يتسرب لقلبها الخوف الشديد على أبنائها، مما قد يضطرها لعزل نفسها وأبنائها عن العالم، وهذا ما يسبب حالة من الانطواء لدى أبنائها.
وقد تصاب الزوجة بحالة من العصبية الشديدة، والانفعال الزائد نتيجة الضغوط الكبيرة التي تتراكم عليها، ويزداد الأمر سوءا حينما يتدخل بعض الأقارب فى تربية أبنائها، مما يحدث معه صدامات كثيرة بينها وبينهم، فالأم تريد تربية أولادها بطريقتها التي تختلف مع طريقة الأهل، ضف إلى ذلك حالة الشك التي قد تنتابها تجاه زوجها في مقدار حبه لها مع طول فترة الغياب، لتتحدث لنفسها :" لو كان بيحبني مكنش طول في الغياب كل الفترة دي".
أما الأب فبغض النظر عن مرارة الغربة وقسوتها، فإنه قد يحاول تعويض حنينه لأسرته وجبر خواطر ابنائه بدفع مزيد من المال إليهم كبديل لغربته, فينشأ الأبناء في حياة مرفهة لا يتحملون معها المسئولية لا حاليا ولا مستقبلا، وقد تقودهم هذه الأموال إلى الانحراف، ليعود الأب فيجد ثمرة عذابه وغربته ضائعين مدمنين أوغير ذلك.
إن الغربة ضريبتها كبيرة، تفوق العسل الذي يجنيه الإنسان من وراءها، فإن كان ولابد منها فليحرص الأب على اصطحاب أهله معه قدر المستطاع، ومهما كانت التكاليف، فلا شيء يعوض ضياع العمر في الفراق، وما يتركه الأب داخل أبنائه من فكر وعاطفة ومهارات أهم بكثير ممّا يوفره لهم من مال، وإن لم يستطع فعليه ألا يطيل غيابه عن 4 أو 6 أشهر قدر المستطاع، ويحافظ على التواصل معهم بمختلف أنواع التكنولوجيا والاتصالات المتعددة والمتاحة والمتوفرة في مجتمعاتنا وزماننا الآن، حتى يضمن استمرار الود والترابط بين جميع أفراد الأسرة ويتفادي آثار كل تلك المشكلات قدر المستطاع.