الوعي التاريخي هو مفتاح التجديد الديني
الأحد، 11 فبراير 2018 09:04 م
هناك نوعان من الإنتقادات التي تُوجَّه عادةً من قِبَل غير المسلمين للإسلام، أحدهما يتعلق بواقع المسلمين اليوم، كقلة الإنتاج المعرفي والتكنولوجي، أو عدم مراعاة حقوق الإنسان في كثير من الدول الإسلامية، أو تهميش دور المرأة في كثير من هذه البلاد الخ.
وأما الإنتقاد الآخر فيتوجه إلى التراث الإسلامي، فكثيرة هي الرسائل والتعليقات التي تصلني منتقدةً مثلاً قول فلان من العلماء المسلمين أو المذاهب الإسلامية بقتل المرتد، أو قتل الكافر لمجرد كفره، أو تحليل بعضهم لجهاد الطلب، أي استخدام القوة العسكرية للدعوة إلى الله، أو نظرة بعض المذاهب والآراء الفقهية للمرأة كسلعة، كأنها لم تُخلق إلا لخدمة واستمتاع الرجل دون الاعتراف بإنسانيتها كاملة، أو جواز الزواج من الصغيرة، أو جواز سبي النساء وفق بعض الآراء الخ. قد لا أكون مبالغاً إذا قلت أن مثل هذه الأسئلة تُوجّه لي بعد كل محاضرة ألقيها أمام مستمعين غير مسلمين، بعضهم يُحضر معه ترجمات ألمانية أو إنجليزية لهذا أو ذلك المصدر من التراث الإسلامي معترضاً: "تُراثكم مليء بمثل هذه الآراء اللاإنسانية، فهنا مثلاً في كتاب فلان يقول كذا وكذا…".
لا أريد هنا عرض ومناقشة هذه الآراء، فكلٌ منها بحاجة إلى مقالة خاصة به. الذي أريده هو طرح المشكلة من منظور منهجي. فقد مرّت عليّ مواقف كثيرة مثل هذه حضرها بعض المسلمين الذين سرعان ما ينفعلون أمام توجيه النقد للتراث الإسلامي فيسارعون بقلب المعادلة بتوجيه التهم للآخر المسيحي: "تراثكم ليس أفضل، بل هو مليء باللاإنسانية، فالكنيسة في العصور الوسطى فعلت وفعلت وهناك مواضع كثيرة في العهد القديم من كتابكم المقدس تتحدث عن العنف وإقصاء الآخر وظلم المرأة الخ".
فسرعان ما يأتي رد المسيحي: "نعم هذا جزء من تراثنا، ولكننا تعلمنا من هذا التراث، بأن تعلمنا من أخطاء الماضي، وبهذا احترمنا تراثنا بأن قرأناه في سياقه التاريخي ثم تجاوزناه ولم نحاكمه بمعايير حاضرنا اليوم".
كذلك ليس من العدل أن يوضع التراث الإسلامي في قفص الإتهام وأن يُحاكم بمعايير حاضرنا. ولكن هنا تكمن إشكالية كلا الخطابين الإسلاميين اليوم: المحافظ والتجديدي.
إذا تتبعت مثلاً المناظرات التلفزيونية بين ممثلٍ عن الخطاب المحافظ وممثلٍ عن الآخر التجديدي، فتجد في الغالب أن المُطالب بالتجديد يأتي للنقاش وقد أحضر معه مجموعة من الأوراق تحتوي على اقتباسات مثيرة للجدل من كتب التراث الإسلامي مشيراً إلى اسم الكتاب والمؤلف وأحياناً رقم المجلد والصفحة مُطالباً خصمه ممثل الخطاب المحافظ بالاعتراف بأن هذا العالم أو ذلك أو أن هذا المذهب أو ذلك قد أخطؤوا وأساؤوا فهم الإسلام. فتأتي ردة الفعل الغاضبة محاولةً الدفاع عن التراث ومطالبةً الآخر بالاعتذار وبالاعتراف بأن فهم من سبقنا من علماءٍ للإسلام أصح من فهمنا نحن اليوم ولذلك علينا تطبيق التراث كما فهموه هم بحذافيره.
المشكلة لدى الطرفين تكمن في غياب الوعي التاريخي، أي أنه من الخطأ المنهجي الحكم على التراث بالصحة أو بالخطأ من منظورنا نحن اليوم وبمعايير عصرنا وسياقنا. فعلماء المسلمين والمذاهب الإسلامية وليدةُ سياقاتها، كما أننا نحن أبناؤ سياقنا الحاضر. الوعي التاريخي يعني أن نُحلل الأمور ونناقشها ونحاكمها في سياقاتها، أما إحياء التراث فلا يكون بنقله من سياقه وحشره في سياق آخر وكأنه قد وافته المنية وتوقف عن الحياة والتفاعل مع حركة التاريخ في زمن معين مضى، إحياء التراث يعني الإبقاء عليه حياً مواكباً لحركة الإنسان والتاريخ وهذا يتطلب تجديده باستمرار. فإحياء تراث حجة الإسلام الغزالي مثلاً حين تحدث عن أقسام العلوم لا يكون لا بتخطيئه إعتماداً على معارفنا اليوم، ولا بالمطالبة باعتماد هذا التقسيم الذي قام به الغزالي في زماننا هذا مما سيجعلنا نصطدم بمشاكل منهجية كثيرة، بل بطرح السؤال: "ذلك الغزالي الذي استفاد من علوم عصره بما في ذلك علم المنطق الأرسطي، كيف كان سيقسّم العلوم لو أنه كان اليوم في القرن الواحد والعشرين حياً ينطق بيننا؟" في محاولة الإجابة عن هذا السؤال سنعيد للغزالي ولتراثه نبضهما ليعيشا معنا ويُثريانا دون أن يتصادما مع معطيات عصرنا، فغزالي القرن الواحد والعشرين سيكون بروحه العلمية الناقدة كما عرفناها حتماً أول مجددٍ لفكر غزالي القرن الثاني عشر، مثل هذا ينطبق على تراث علمائنا كلهم وعلى مدارسنا الفقهية منها أو العقدية.
وهكذا أفهم قول نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". ليس من الضروري أن نفهم المائة كعدد و أن نفهم أن المقصود هنا شخص بعينه، بل الأهم هو فهم هذا الحديث كدعوة منه عليه الصلاة والسلام للمسلمين في كل عصر وسياق لإعادة مراجعة تراثنا وحاضرنا من خلال عملية ديناميكية حيّة مستمرة لا تتوقف، وإن توقفت، مات التراث والحاضر معاً وأصبحنا خارج التاريخ، وهذه من أكبر معضلات الخطاب الديني اليوم، سواء التجديدي أم المحافظ.
في إحدى النقاشات التلفزيونية بين المفكر الإسلامي المُطالب بالتجديد، إسلام البحيري، والدكتور الأزهري، سعد الدين الهلالي، في برنامج "كل يوم" أصرّ الأستاذ البحيري على ضرورة اعتراف الدكتور الهلالي بخطأ التراث في مسألة قتل الكافر وفي مسائل أخرى كثيرة، وهذا المطلب، كما ذكرت، خطأ منهجي، لأنه يُحاكم إنتاج عصر ما من منظور عصر آخر ويقف عند هذه المحاكمة، هذا الخطأ المنهجي يقع فيه أيضاً من يُصر على استنساخ الماضي مدعياً أن هذا الماضي يمثل سقف الحكمة. كلا المطلبين يُعبران عن فقدان الوعي التاريخي وكلاهما يسير بِنَا خارج التاريخ. وهذا الخطأ المنهجي يُكرره من يُوجّه النقد للإسلام من غير المسلمين مدعياً أن الإسلام لا يتماشى مع الديمقراطية أو مع حقوق الإنسان أو مع إنصاف المرأة وغير ذلك مستدلاً بأقوال هذا أو ذلك العالم الذي عاش في سياق تاريخي لم تكن هذه المصطلحات والمطالب حاضرةً أصلاً في أبجدياته. فالمسألة ليست محاكمة التراث من أجل تخطيئه أو تصويبه، بل إنتاج تراث جديد يُحاكي عصرنا مستفيدين من الحركة التاريخية المصاحبة للتراث ولواقعنا اليوم ومستفيدين كذلك مما نراه اليوم أنه من أخطاء الماضي، فإن حاكمنا التاريخ فليس لإصدار شهادات نجاح أو رسوب لمن سبقنا من علماء ومدارس أو توزيع درجات نُقيمهم من خلالها، بل لندخل مدرسة التاريخ.
الملفت للنظر هو موقف الدكتور الهلالي والذي لم يُحاول الدفاع عن صحة كل ما جاء في التراث، بل دعى إلى تجاوز الآراء الفقهية التي تجاوزها القانون المعمول به اليوم في الجمهورية المصرية مطالباً وضع الآراء الفقهية في سياقاتها مع دعوته لمتابعة كتابة، وليس استنساخ، التراث، فمثلاً دعى لاستبدال الحديث عن الذمي والمستأمَن بمصطلح المواطنة مطالباً أن نعيش عصرنا وليس الماضي. نحن بحاجة لمثل هذا الخطاب الذي يدعو لوعي تاريخي وقد تعمدت هنا ذكر الدكتور سعد الدين الهلالي باسمه للفت الأنظار لوجود مثل من يحمل هذا الوعي التاريخي بيننا وهم في تزايد ولله الحمد، ولكن لا بد أن يتحول هذا الوعي لمنهج علمي للتعامل مع العلوم الإسلامية.
البعض قد يتحفظ على مصطلح الوعي التاريخي مسيئاً لفهم المقصود به، فيظن أن هذه دعوة للقطيعة مع التراث وجعله تاريخاً لا يعنينا اليوم، لذا أكرر أن الوعي التاريخي هو دعوة لمنهجية علمية تدرس وتحلل ثم تحاكم الأمور في سياقاتها وذلك أولاً لفهمها وثانياً للتمكن من الاستفادة من أخطاء الماضي من أجل كتابة حاضر مشرق ومستقبلٍ أكثر إشراقاً، فالتاريخ لا يتوقف، أما الإنسان الذي يتوقف بحجة أنه وصل لسقف الحضارة، فلن يرحمه التاريخ ولن تنفعه ذكريات الآباء والأجداد، ولن يتوقف قطار الحضارة الذي فاته منتظراً وصوله، بل على هذا الإنسان المثابرة كي يلحق بالركب.
فهيا بنا يا صناع التاريخ، لنأخذ بأيادي بَعضنا البعض لنُعين بعضنا على النهوض من جديد، كلٌ في سياقه ووفق إمكانياته.