"إخرس ياله"

الإثنين، 29 يناير 2018 10:39 م
"إخرس ياله"
الحسانين محمد.. يكتب

المسافة بين ما نتمناه ونتخيله، وما نعيشه ،هي نسبة السعادة التي نتحصن بجدرانها من عواصف الحياة ، والمسافة بين الميلاد والموت ، يراها المبتلون ، نفقا طويلا مظلما، يحلمون بلحظة الوصول إلي نهايته، رغم تيقنهم أن النهاية انتقال لعالم آخر، ويراها الحالمون قطارا مسرعا يستنزف الأيام، ولا يعطيهم فرصة لتأمل تفاصيل الطبيعة في طريق رحلتهم ، ويبحث العابثون واللاهون، في كل لحظة من رحلتهم، عن وسيلة لإشباع الشهوات ، وتناسي الممات ، والتمحورحول الذات .

 وما بين المبتلون والحالمون والعابثون ، يصارع المستبصرون عقارب الزمن لاقتناص أطواق النجاة من هول المجهول المعلوم جزئيا من العقائد، ويراجعون بين الحين والآخررصيدهم من الأطواق ، وما فاتهم من هبات، كانت في طريقهم وبجوارأقدامهم وغفلواعنها بالنظرإلي الأمام فقط ، أوالإستغراق في لحظة تحسر،بالنظرإلي الخلف علي فرصة ضائعة..

 العبقري المتأمل جبران خليل جبران له أقوال شهيرة في هذا المعني منها " إذا كنت لا ترى إلا ما يظهرهُ النور ، ولا تسمع إلا ما تعلنهُ الأصوات.. فأنت في الحقيقة لا ترى ولا تسمع ..وإذا تعاظم حزنك أو فرحك صَغُرَتْ الدنيا ، والرغبة نصف الحياة ، وعدم الإكتراث نصف موت".

 فهل سألت نفسك يوما إذا كنت حيا أو ميتا ؟ وهل حاولت يوما أن توقف عجلات الزمن للحظات تراجع فيها أخطاءك في مباراة الحياة ، ثم تستأنف اللعب بخطة لعب جديدة ؟ هل فعلا تصيرالأيام أقصروقتا ،مع تقدم العمر، وتضمروتشيخ شوارع طفولتنا وطرق المزارع والترع ، التي كنا نراها في عنفوان قوتها وشبابها عندما كان طولنا وعمرنا مثل نبت أخضرلا يقوي عوده علي الصلابة أمام الرياح؟ وهل فعلا تذكرالموت يدنيه؟ ومن يخاف المرض يبتلي به؟، وليس هناك فرارا من القدرإلا إليه؟ .. حسنا .. إذا كانت التساؤلات عبثية ، ومباراة الحياة من شوط واحد بلا وقت مستقطع لالتقاط الأنفاس ، فما العمل؟؟؟

هناك قصة عن الفضيل بن عياض أنه قابل رجلا ؛ فقال له الفضيل : كم عُمُرك ؟ قال الرجل : ستون سنة ..فقال الفضيل : إذاً أنت منذ ستين سنة تسيرإلى الله ..توشك أن تصل ..فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون .. قال الفضيل : هل تعرف معناها؟ .. قال : نعم أعرف أني عبد لله , وأني إليه راجع .. فقال الفضيل : يا أخي ، من عرف أنه لله عبد ، وأنه إليه راجع ، فليعلم أنه موقوف بين يديه ، ومن عرف أنه موقوف بين يدي الله , فليعلم أنه مسئول ، ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جوابا .. فبكى الرجل وقال ما الحيلة ؟

قال الفضيل : يسيرة .. قال وما هي يرحمك الله ؟.. قال : تُحسن فيما بقى ، يغفر الله لك ما مضى وما بقى ... فإنك إن أسأت فيما بقى أُخذت بما مضى وما بقى ".

 لحظات حساب النفس،نعيشها جميعا علي فترات تقترب أو تبتعد حسب قوة تأثيرالنفس اللوامة فينا ، وعندما يدورالحواربين العقل والروح تسأله بدهاء الخائف  " عشان مايطلعش روحها من رخامة السؤال" فتقول :" هل تتذكرملامح أيام الفرح أو الحزن أو النجاح في الـ20 عاما الماضية؟.. فيبحث العقل بسرعة آلة الزمن فلا يجد مايرد به سوي رماد أيام بلعتها طاحونة الحياة ،ومازالت ذرات هذا الرماد مبللة بدماء ودمعات نزفت في صراعات المناصب والأموال و"تربية العيال "،ومحاولات إحياء أحلام شابت في ريعان شبابها ، وأبدا لن تدب فيها روح المقاومة ..

 تعود الروح الساكنة في النفس اللوامة لتسأل .. هل ستستمر في نفس الطاحونة حتي نقطة النهاية لتحصد محصلة السراب ؟.. يلتجم العقل للحظة ثم يسألها باستنكار .. وماذا أستطيع فعله ولم أفعله ؟ وكيف أخرج من دائرة طاحونة الحياة والخروج سباحة عكس التيارمحصلتها دائما فوات محطات الحياة دون الغنيمة منها بخيرأو شر؟ هل نسيتي يانفس أنكي من جموع الدهماء المحشورين زمرا، تتزاحم أقدامهم في صعود سلالم المترو، كقطعان نمل فوق خشبة مركب غارق طافية فوق موج بحرهائج، موت أحدهم أوجميعهم لايؤثرفي كون الله الواسع خردلة؟ ..كم تساوي يانفس بين الملايين التائهين الدائرين في الطاحونة جبرا لا يملكون رفاهية المرض أو التوقف لأن أرضك المكلفة بسقايتها لن ترحمك.

تسأليني يانفس عن دوري في وقف نزيف أيامك الضائعة في السراب، ولا تسألين شقيقتك الأمارة بالسوء لماذا كلما وليت وجهي شطرطريق النجاة ،تغشي علي قلبي بمخدرالشهوات ،وكلما تملكني حزن الندم علي ما فات من طاعات في مراسم وداع عزيزأورفيق درب فجأة مات،وتذكرت وقتها كل من عايشتهم وفارقوا الحياة ،في اللحظة التي كانوا يخططون فيها أحلام سنوات مقبلات ، فتراودني شقيقتك الأمارة بالسوء قائلة " لسه بدري ..إنت آخر واحد في اللي حواليك دول ماتخافش وعيش !!".." بصي بقي يالوامة، م الآخر ورايا فواتيركهربا ومية وغازوتليفون بتطاردني حتي في منامي ، ومدرسين لوعصروني وما شربوش دم جيبي هايرموا العيال في الشارع، تحب أريح شوية واعمل عبيط وتدوري الدنيا دي انتي ؟"

اصفر وجه النفس اللوامة من هول ما يقوله العقل وقبل أن تنطق حرفا .. دوي صوت تليفون صغيري المدعو" حمو" بأغنيته المفضلة " إلعب ياله" فصرخت فيه " إخرس ياله".." حد عنده حل تاني؟

 

تعليقات (1)
مقال رائع من كاتب متألق دائما
بواسطة: Omiga
بتاريخ: الأربعاء، 31 يناير 2018 10:42 م

مقال اكثر من رائع لكاتب مميز وربط اللغة العربية الفصحى والعاميه بطريقه مميزه

اضف تعليق