هل يهزم التصوف الإلحاد في العالم العربي؟.. عن الاتساق مع العلمنة والفن
الإثنين، 29 يناير 2018 08:26 م
من منا لا تخطفه أشعار جلال الدين الرومي؟، قصائد ذات مضامين روحية وأخلاقية، بعيدا عن شيخ الطريقة كما هي الحال في ثقافة التصوف الشعبي القديم.
صحيح أن الموجة الإلحادية وصلت إلى العالم العربي، ولا يمكن إغفالها، ولكن على الزاوية الأخرى ظهر التدين الذاتي لدى شريحة واسعة من الشباب العربي، غير مشروط بالنسق التقليدي للمذاهب، ولا بآراء فقهائها. تدينٌ يؤمّن الحاجات الروحية، وفي الوقت نفسه يراعي الحاجة لمواكبة العلمنة والحريات وحقوق الإنسان.
إذن لماذا يمكن للتصوف أن يوقف الزحف الإلحادي في العالم العربي؟
التصوف والعلمنة والحريات
يقول السهروردي: وأقوال المشايخ في ماهية التصوف تزيد على ألف قول، فمن ناظر إلى المنهج جزيئا أو شاملا، إلى ناظر في الثمرات والغايات، أو بتعير آخر، منهم من نظر إليه باعتبار المقدمات( المجاهدات) ومنهم من نظر إليه باعتبار النهايات (المذاقات)، ومنهم من تأثر بومضة الحال، ولمسة الوجدان، ونفحة الأذواق، ومنهم من تكلم بإشارة المقام ، و لغة أهل الحال ، وكلها تعبر عن أحوال أصحابها، وتعبر عن مقامات أهلها، وتبين منازل السير والسلوك، وتقدم لنا إطارا جامعا يمكن لنا أن نتعرف من خلاله على التصوف منهجا وموضوعا وغاية.
التصوف ظهر لحاجة طبيعية إلى غذاء الروح الإنسانية، وتسكين رغبات النفس المندفعة، فكما ظهر عند الإنسان الأول، وفي الديانات الأخرى، ظهر عندنا في عهد الإسلام، فاحتياجات البشر متحدة قديما وحديثا، و شوقه دائما شديد إلى ما يسكن روعه، ويهدأ طبعه، ويضفي على حياته طمأنينة وأريحية، فهذا الشوق هو الذي راوده، وهو يستكشف ربه المغروز في فطرته، والمغروس في جبلته،
والتصوف امتداد لهذا العشق الإنساني لربه، أو للحقيقة المطلقة، وصيرورة لحياته الممتدة إلى عمق روحه، وليس استنساخا للتجارب الحاضرة والقديمة، فالصوفية يؤدون فرائضهم وسننهم بدون تقديم لجانب على جانب، ولا لمهم على أهم، وغيرهم قد يشاطرونهم في ذلك، وربما يزيدون في الاعتداد بظاهر العمل، لكن يختلفون معهم في نية العمل وقصديته، فالأداء بالحب، ليس هو الأداء بالامتثال، واتهام النفس بالتقصير، ليس هو الرضا عنها، وممارسة العمل بالوجدان ليس هو العمل بالجوارح، فما أبعد المنهجين.
والتصوف قاصر على مجموعة من الأذكار والأوراد التي تعطي لأصحابها نوعا من الراحة والهدوء دون الاهتمام الحقيقي ببقية التكاليف الشرعية من أوامر ونواهي, كما أنه يعزل الدين تماما عن واقع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهو ما يريده العلمانيون ويصب في أهم مرتكزات عقيدتهم التي يعادون بسببها التيارات الإسلامية.
التصوف والفن
يقول جوليوس بورتنوي في كتابه "الفيلسوف وفن الموسيقى"، فيثاغورث منشئ "العلم الموسيقي" عند اليونان كان هو نفسه مؤلف فرقة دينية/ فلسفية ذات تعاليم سرية وكان تلاميذه أشد غلوا منه في التصوف. وهناك أدلة قوية تبعث على الاعتقاد بأنه سافر إلى مصر وعاد منها إلى اليونان ناقلا إليها بعض النظريات البسيطة في علم الصوت ومنها أن الموسيقى البشرية الفانية إن هي إلا أنموذج أرضي للانسجام العلوي بين الأفلاك، أما الفيثاغوريون المتأخرون فاعتقدوا أن السماوات تنبعث منها موسيقى بالفعل.
ولم ينفرد الفيثاغوريون بمقولة الأصل السماوي للموسيقى، فقد روى أرسطو في الساعات الأخيرة من حياته حلما سجله أفلاطون في محاورة فيدون رأى فيه أرسطو أن الوحي أتاه ليأمره بتأليف الموسيقى ويعني هذا الحلم ضمنا أن للموسيقى قدرة تفوق العلم على تقريبنا من الحقيقة النهائية، وقد نقل عنه قوله: "بعض الناس يغيبون في حالة تشنج ديني فإذا استخدم هؤلاء من الألحان المقدسة ما يثير في النفوس حالة من الوجد الصوفي فإنهم يبرأون". وفي الأدب اليوناني إشارات إلى حالات كان الكهنة يجمعون فيها النساء ذوات العقول المضطربة في المعبد للعلاج بالموسيقى حيث يرقصن على موسيقى صاخبة حتى يسقطن في غيبوبة وعندما يفقن يكن قد شفين شفاء نهائيا أو مؤقتا.
وحسب هيرودوت فإن المصريين كانوا يعتقدون أن لألحانهم الدينية أصلا مقدسا ولذا كانوا شديدي الحرص على حمايتها من أي تغيير أو مؤثر أجنبي، كما أنه امتدح قدرتهم على خلق ألحان يمكنها قهر الانفعالات الغريزية في الإنسان وتنقية الروح.
وفي العصور الوسطى المسيحية بقيت الكلمة تشير إلى الحرفة أو الصناعة وأصبحت تنطبق على طيف واسع من النشاطات الإنسانية ضمنها: النحو والمنطق والسحر والتنجيم.. وفي معجم لالاند الفلسفي نجد أن البعد الجمالي يصبح أكثر وضوحا حيث الفن "كل إنتاج للجمال يتحقق في أعمال يقوم بها موجود واع أو متصف بالشعور" وقد سار الكثير من الكتاب المحدثين على هذا النهج مؤكدين البعد الجمالي في الفن على حساب أي اعتبارات عملية، وعليه أيضا سارت "دائرة المعارف البريطانية" و"معجم أوكسفورد" وغيرهما. ويرى أصحاب هذه النزعة أنه لا يمكن أن يتولد الفن إلا حينما تدع هموم الحياة ومطالب المعيشة متسعا من الوقت لظهور "الحلم"، وهذا البعد الوجداني للفن أحد أهم ملامح التشابه البنيوي مع التصوف إذ هو (الفن) تجربة "شبه دينية" شخصية وجدانية تتم خارج نطاق الحواس فلا تقيدها قيود الواقع ولا المنطق.
وعلى يد هنري برجسون وصل مفهوم الفن إلى قمة الصوفية فالفن في فلسفته "عين ميتافيزيقية" والفنان قادر عبر الإدراك المباشر على النفاذ إلى "باطن الحياة" وعين الفنان تملك مقدرة صوفية هائلة على الاتحاد مع موضوعها، وفي النهاية فإن الفن عند برجسون حدس يستولي على الذات العارفة فيجعلها تتطابق مع موضوع معرفتها على نحو شبه صوفي. وفي فلسفة شوبنهور يصل الأمر إلى نوع من المطابقة بين المتصوف والفنان، فالفنان هو الذات العارفة الخالصة المتحررة من الإرادة وأسر الجسد وعبودية الأهواء، فهو لا يعود يعيش إلا بوصفه مرآة لموضوعه، بعد أن فقد ذاته واستحال ذاتا عارفة خالصة عارية من الإرادة. وفي نهاية معمار فكرته اعتبر شوبنهور أن الفن "أداة للمعرفة والعرفان"، وتحتل الموسيقى مكانا خاصا في مفهوم شوبنهور للفن حد أنه يعتبر أن "السيمفونية السديدة قد تكون نسخة ميتافيزيقة كاملة للوجود".
التصوف والغرب
يقول مارتن لينجز "الذي أعجبني في الحركة الصوفية هو أنني كأوروبي وجدت خلاص روحي ونجاتها في التصوف وهذا بالضبط ما نريده".
فكرة نشر الصوفية حظيت باهتمام كبير من قبل المفكرين الغربيين فالاتجاهات الصوفية ظهرت وماتزال تظهر في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية
بدأت قضية الفكر الصوفي تحتل مكان الصدارة في الإستراتيجيات العالمية، ومؤسسات البحث العلمي ومراكز الاستشراق والدراسات المتعلقة بالحركات الإسلامية وذلك لاعتبارات سياسية وإستراتيجية وعقائدية ومذهبية، فأصبحت القضية جزءا من إستراتيجية متكاملة تستهدف إحداث تغيير جذري في حركة الدين تقوم على إضفاء المشروعية على الفكر الصوفي.
لقد حظي هذا المشروع الفكري باهتمام كبير في أوساط النخب الغربية المؤثرة والمؤسسات الأكاديمية وأقسام دراسات الاستشراق في الجامعات الغربية وكانت مراكز القرار في الغرب سعت في وقت مبكر إلى الإيعاز لمؤسسات متخصصة لرصد الظاهرة الإسلامية ومراجعة حركة الإسلام في العالم فتفتق ذهنها عن إحلال الفكر الصوفي بديلا للمنهج الصحيح.
المصادر:
1) ) تاريخ التصوف الإسلامي: من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الدكتور عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثانية 1978، ص 5 .
(2) تاريخ التصوف الإسلامي: من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الدكتور عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثانية 1978، ص 15 - 16 .
(3) الفيلسوف وفن الموسيقى، جوليوس بورتنوي، ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، مراجعة الدكتور حسين فوزي، وزارة الثقافة، مصر، المكتبة العربية، 1974، ص 28 – 48.
(4) مشكلة الفن، الدكتور زكريا إبراهيم، سلسلة مشكلات فلسفية، رقم 3، مكتبة مصر، مصر، 1979،
(4) مقدمة في فلسفة الدين، جون هيك، ترجمة: طارق عسيلي، مجلة المحجة، لبنان، العدد الثامن، شتاء 2004، ص 43.
(5) تاريخ الفلسفة اليونانية، الدكتور يوسف كرم، السلسلة الفلسفية، لجنة التأليف والترجمة والنشر، مصر، الطبعة السادسة، 1976، ص 5 – 6 .