ما هو معيار التدين؟
الأحد، 28 يناير 2018 02:57 م
حدثني أحد الألمان عن جاره المسلم أحمد والذي كان لسنين كثيرة لا يلتزم هو وأسرته بمعظم شعائر الإسلام وكيف تغير حالهم حين بدأ بالالتزام بها، وهذا كلامه: "تعرفت على أحمد حين انتقل إلى مدينتنا وبدأ عمله الجديد في مصلحة البريد حيث كان يوزع الرسائل والطرود على منازل الحي مما جعله معروفاً لدى معظم السكان. كان أحمد لبقاً في أسلوب تعامله وكانت من عادته أن يتبادل أطراف الحديث مع سكان الحي إذا التقى بأحدهم خلال عمله، فأصبح أحمد محبوباً من الجميع يعامل الجميع بحب واحترام متبادل. زوجته فاطمة وجدت عملاً في إحدى الحضانات القريبة، أما أبناء أحمد وبناته فجميعهم كانوا طلاباً مجتهدين وعلى درجة عالية من الأدب والأخلاق. أحمد وعائلته كانوا محبوبين من الجميع، الكل يبادلهم التحية والابتسامة إذا رآهم أثناء التسوق أو التمشي في الحديقة العامة. أحمد لم يكن يذهب إلى المسجد القريب من الحي إلا للاحتفال هو وعائلته بعيد الفطر أو عيد الأضحى. بعد مرور سنوات بدأ أحمد يتغير، لقد بدأ بالذهاب إلى المسجد وتوقف عن شرب الكحول الذي كان يتناول شيئاً منه في بعض المناسبات الإجتماعية، أما زوجته فوضعت الحجاب على رأسها لتغطية شعرها. هذا كله لم يزعج أحداً في الحي إطلاقاً، لكن المشكلة بدأت حين تغيرت معاملة أحمد وأسرته لنا جميعاً. لم يعد أحد منهم يلقي السلام علينا، وإذا ألقيت أنا أو أحد من الحي السلام عليهم فيأتي رد مختصر دون أن ينظر أحد منهم إلينا ويسارعون في خطواتهم تجنباً لنا. بنات أحمد اللاتي كنت أحملهن وألاعبهن وهن أطفالاً وكأنهن بناتي توقفن عن الحديث معي أو حتى السلام علي. في بداية هذا التحول استقالت فاطمة زوجة أحمد من عملها ثم توقف هو عن العمل وبعد فترة سحب بناته من المدرسة. لم يستوعب أحد منا هذا التغير. أحمد لم يعد ذلك الجار البشوش الودود كما عرفناه، أسرته تقوقعت على نفسها وأصبحت تتجنب أي لقاء أو حديث مع أحد من سكان الحي. بعد محاولات كثيرة استطعت أخيراً التحدث مع أحمد الذي أخبرني أنه عاد لدينه وأن دينه الإسلامي يحرم عليه أن يقيم صداقة مع غير المسلمين، كما أن الإسلام يحرم عليه العمل عند غير المسلمين، أخبرني أحمد أن الإسلام يطلب من المرأة البقاء في منزلها وعدم مغادرته إلا للضرورة، لذلك سحب بناته من المدرسة ثم اعتذر أحمد أنه لا يريد تتمة الحديث معي لأَنِّي غير مسلم وطلب مني أن أعيد له لوحة كان قد أهداني إياها قبل سنوات مكتوب عليها آية من القرآن، والذي صعقني وزوجتي هو تبريره لهذا الطلب بأني نجس، لأَنِّي لست مسلماً ولا يحق لي أن أحتفظ بهذه الآية القرآنية في منزلي. لقد تغير كل شيء، أحمد لم يعد أحمد الذي عرفته، لقد ذهبت أخلاقه النبيلة، لقد تغيرت معاملته الحسنة إلى معاملة لا أبالغ إن وصفتها بأنها معاملة تحمل التكبر والكراهية والحقد لي ولسكان الحي بل ولكل غير مسلم أو مسلم مخالفٍ له، مع أننا وقفنا معه وساعدناه حين انتقل إلى منطقتنا، ساعدناه في إيجاد منزلٍ إجاره منخفض، كما ساعدناه في تأمين عمل لزوجته وفي تسجيل أطفاله في المدرسة والكثير غير ذلك. اليوم يتنكّرأحمد لنا وكأننا أعداؤه. هو وأسرته أصبحوا عالة على سكان المنطقة، فبسبب رفضهم للعمل أصبحوا يعيشون من المساعدات الإجتماعية التي تجمعها الدولة من الضرائب التي ندفعها نحن وتقدمها الدولة للمحتاجين. أحمد ليس محتاجاً ولكنه تحجج لدى مكتب العمل بأنه لا يستطيع العمل لأسباب صحية، في الحقيقة كان دافعه هي قناعته بأنه لا يجوز للمسلم العمل في بلاد غير المسلمين. نحن في حيرة من أمرنا، كيف صنع تدين أحمد منه إنساناً فظاً غليظاً إنتهازياً ناكراً للجميل؟! كيف تحولت هذه الأسرة المسالمة، راقية الأخلاق، لأناسٍ لا يأمن أحدٌ في الحي على نفسه منهم؟!"
حاولت إقناع هذا السيد الألماني أن سبب هذا التغير السلبي هو ليس الإسلام نفسه، بل فهم معيّنٌ للإسلام يُفقد الإنسان إنسانيته باسم التدين. مشكلة هذا التدين أنه لم يغص في عمق الدين ليحاول فهمه فهماً صحيحاً، فتوقف على السطح واهتم بالمظاهر والقشور. فتجد لدينا الكثيرين حين يدّعون الإلتزام بالدِّين أنهم غيروا الواجهة وبالغوا في ذلك غير عابئين بالجوهر. لذلك كان في البداية من الصعوبة إقناع السيد الألماني أن تصرّف أحمد وأسرته ليس هو التدين الحقيقي، فمثل هذه الحادثة تتكرر باستمرار هنا في ألمانيا. تجد أن الشاب اقتنع بأنه تديّن بمجرد أن بدأ يأكل بيمينه بدلاً من شماله، أو بمجرد أنه بدّل بعض العبارات، وكرر أخرى، فيحذف من قاموسه عبارات مثل : "صباح ومساء الخير"، "أهلاً وسهلاً"، "شكراً وعفواً"، ويبدلها بأخرى مثل: "السلام عليكم"، "جزاكم الله خيراً، بارك الله فيكم"، وبعد كل جملة أو جملتين يقولها، تسمع منه عبارة: "سبحان الله" الخ. بلا شك أن ذكر الله واستخدام عبارات تُذكِّر بالله بركة، ليس هنا الإشكال، فالمشكلة بل والطامة الكبرى تبدأ حين يعتقد الشاب أنه بمجرد استخدامه لمثل هذه العبارات قد وصل إلى سقف التدين ويبدأ المزايدة على غيره من المسلمين الذين لا يلون لها ذلك الإعتبار، فيسيطر عليه التكبر والتعجرف في معاملته لغيره من حيث درى أم لم يدر.
نعم، كثيراً ما نُركّز على الواجهة وننسى الجوهر، فلا عجب إن رأيت من سلبه تديّنُه إنسانيّتٓه، لأنه لم يفهم الإسلام كرسالة إثراءٍ للإنسانية، بل فهمه كمجموعة من الطقوس مفرغة من معانيها الروحية والأخلاقية والإنسانية. لذلك حذّر رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام من العبادة التي تقتصر على الظاهر، فتُبعد الشخص عن الله: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعداً"، حتى وإن ضعّف بعضهم هذا الحديث والحديث الآخر الذي في معناه: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فلا صلاة له"، إلا أن كليهما موافق لمفهوم قوله جل وعلا: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" (العنكبوت ٤٥). فالعبادة لا تتحقق بمجرد أدائها كطقوس بل لا بد من تفعيلها في الحياة المعاشة، لا بد أن تنعكس على شخصية الإنسان، على أخلاقه، على تعامله، على دوره في الحياة، وإلا لبقيت طقوساً بلا معنى، كما قال عليه الصلاة والسلام: "ربّ صائم ليس له حظ من صومه إلا الجوع والعطش، وربّ قائم ليس له حظ من قيامه إلا السهر والنصب".
لنعد للسيد الألماني والذي ذُهل حين سمع حديث المرأة البغيّة والتي دخلت الجنة بسبب كلب عطشان سقته ماءً والأخرى التي دخلت النار بسبب حرمانها قطة من الطعام والشراب، فقال لي: "إن كان محمد قد قال هذا، فهذا أعظم ما سمعته في تحقيق معنى الإنسانية، إذا كان دينكم مهتماً حتى بالكلب العطشان ويرحم البغيّة بمجرد أن رحمته وسقته ماءً، فما بال دينكم إذا كان هذا العطشان إنساناً؟ إن الدين الذي يهتم بالقطة والكلب لا بدّ وأن كرّم الإنسان واهتمّ به فرداً فرداً أقصى اهتمامٍ كما لم يفعل أي دين آخر. مثل هذا الدين يستحيل أن يفرق بين بني الإنسان بسبب إنتمائهم الديني أو العرقي، فالإنسان مكرمٌ بما أنه إنسان وبدون شروط مسبقة. لكن أين تعاليم دينكم على أرض الواقع، لماذا لا تحققونها في حياتكم مع أنكم تصلّون وتصومون أكثر منا نحن المسيحيين؟!"
ربما تكمن المشكلة في وعيٍ خاطئٍ عن معيار التدين عند الكثيرين دون تعميم، فأحمد لا يعكس صورة جميع المسلمين ولكن الكثير منهم، فالتدين الحقيقي لا بد أن تشهد عليه إنسانية الإنسان في تعامله مع أخيه الإنسان، بل ومع الخلق كله، من أراد أن يعرف مقدار تدينه، فما عليه إلا أن يسأل نفسه ما الذي قدمه للإنسانية، هذا هو محك التدين وجوهره وميزانه، لأن الإيمان لا يتحقق إلا بالعمل الصالح. وكم شغلتنا الواجهة عن الجوهر والمظاهر عن الحقيقة، فضاع الجوهر وبقيت القشرة.