عن معركة رشيد 1807 وهو طالب ثانوى..

من وثائق عبد الناصر: فى سبيل الحرية

الإثنين، 15 يناير 2018 04:00 م
من وثائق عبد الناصر: فى سبيل الحرية
جمال عبد الناصر

تدور رواية «فى سبيل الحرية» التى كتب ناصر أول ثلاثة من فصولها حول المعركة الخالدة التى خاضها أهل رشيد بمصر عام 1807، عندما تصدوا للحملة الإنجليزية بقيادة فريزر، لم يستكمل ناصر فصول الرواية، فأجرت وزارة الثقافة عام 1958 مسابقة لاستكمالها، وفاز بالمركز الأول الكاتبين عبدالرحمن فهمى وعبدالرحيم عجاج .

يوم لا ينسى..
... هذا اليوم العابس أوله، الباسم آخره، فى عام 1807 قال الإنجليز: هذه مصر استقلت عن الترك وحكمت نفسها، وهى على هذا لقمة سائغة تمضغ وتبتلع؛ إذ ماذا تستطيع ملايينهم الثلاثة أن تصنع أمام أسطول بريطانيا وجيشها المدرب العظيم ومدافعها وقنابلها؟ قال الانجليز: هذه هى الفرصة قد سنحت لتحقيق حلم قديم، وأمل طالما جاش بنفوس الانجليز القدماء. وما هى الا أسابيع حتى رست على شاطئ الإسكندرية أساطيلهم، ودوت القذيفة الأولى من قذائف الجيش البريطانى؛ وهم يظنون أنها مسمار كبير فى نعش الحرية والكرامة المصرية، وعن قليل سوف تكفن هذه الحرية وتوسد فى قبرها ويهال عليها التراب.
 
أصبحت الإسكندرية ذات الماضى الحافل تتقد ناراً وتشتعل.. ناراً رأى المصريون على ضوئها أفظع صور الظلم والجشع والطغيان..
هام أهل الإسكندرية على وجوههم وخرجوا بأطفالهم ونسائهم، لا يعرفون مصيرهم، وبيوتهم من ورائهم تعصف بهم عواصف الجحيم؛ ناراً فى كل مكان.. ناراً فى المدينة، وناراً فى القلوب.
 
والانجليز سعداء بالنصر الذى فازوا به، ونزلت الجيوش الانجليزية الى المدينة تزهو بالنصر، وسارت حتى وصلت الى رشيد، وكانت اذ ذاك بلدة تشعر بقوميتها، فهبت كرجل واحد، ولم تنتظر أمر الحاكم بل دبرت أمرها بنفسها؛ فقسمت رجالها قسمين: قسماً ذهب الى الحماد يستدرج الانجليز الى المدينة، وقسماً بقى فى الدور لا يشعر به أحد هناك.
 
وعندما اقتحمت فلول الأعداء المدينة صب عليهم الموت من تلك النوافذ المغلقة.
 
فى-سبيل-الحة
 

الفصل الأول
كانت الليلة حارة جافة من ليالى أواخر مارس، وكان الليل قد ولى ولم يبق على طلوع الفجر غير ساعات، وكان الهلال قد احتجب منذ ساعات وراء حجب كثيفة من الغيوم المتلبدة فى جهة الغرب، ولم يسمع أى حس ولا صوت فى الحماد التى وقفت عندها الحملة الانجليزية تتربص. ومن جهة الشمال كانت تقوم معسكرات الجنرال فريزر، وكانت خطوات الحراس المتزنة تقطع السكون التام المستولى على تلك الجبهة. 
 
أما فى الجنوب فقد أقام مراد باشا البطل، هو ورجاله المخلصون غير المنظمين الذين حاولوا أن يستفزوا العدو الى القتال المباشر، ولكن محاولاتهم ذهبت هباء. وفى تلك البقعة ساد السكون أيضاً كما ساد فى البقعة الأخرى، واستولى التعب على الحراس فناموا فى مراكزهم.. كان الجميع يغطون فى سبات عميق تلك الليلة. وكان مراد باشا فى خيمته الخاصة مستغرقاً فى النوم من شدة التعب بعد سهر متواصل دام ليالى طويلة، كما نام حراسه الى جانبه.
 
وفى ذلك السكون المخيم بدأت حركة هادئة فى خيام الجنرال فريزر.
وبدأت أمواج الأجسام البشرية تتحرك ببطء فى سكون الليل البهيم، وكانوا يقصدون خيمة مراد باشا؛ فكانوا لا يتكلمون الا همسا، وهم يتقدمون بسرعة وهدوء، فى سكون الفجر وصمته؛ فكان سيرهم شبيها بزحف الأفاعى الهائلة.
 
وقال قائل منهم بهمس: اسمع يا سير ولنجتن دع الكابتن برسى يفاجئ الحراس وادخل أنت مباشرة خيمة مراد باشا؛ فاقتل حراسه واقبض عليه.
 
وما أن انتهى الهمس حتى جد سير ولنجتن السير على رأس ستمائة من رجاله المختارين، وكان كل منهم يلبس قميصه؛ حتى يمكنهم أن يميزوا بعضهم بعضاً حينما يختلطون بالأعداء فى أثناء المعركة، ولم يكن يفصل بين معسكرات فريزر ومراد باشا سوى نحو ميل من الأرض السهلة المنبسطة، وبينما كان القوم يتآمرون ويتوعدون ويدبرون الخطط، كان أهل الحماد مستغرقين فى نوم عميق. 
 
وكان سير ولنجتن وجمعه المتحرك قد قطعوا نصف المسافة، وكان من الصعب جداً تمييز القمصان البيضاء لشدة الظلام المخيم؛ حتى ليخيل الى الرائى أنهم أشباح، ولم يبق أمامهم سوى نصف ميل أو أقل حتى يصلوا بزحفهم، هذا وقوم مراد باشا لا يزالون يغطون فى نومهم. وفى تلك اللحظة تقدم شخص من الحراس فأيقظهم، وامتدت يده القوية اليهم حارساً تلو حارس فهزتهم هزاً عنيفاً، وهو يصيح وسط الظلام: هلموا، استيقظوا، فالعدو مقبل عليكم ليأخذكم على غرة ويفتك بكم وأنتم نيام. 
 
وقبل أن يتمكن الحراس من الاستيقاظ تماماً، كانت اليد نفسها قد وصلت الى الحرس الخاص لمراد باشا وهزته بشدة وعنف. وعلا الصوت ذاته وهو يقول: استيقظوا، فقد وصل الانجليز اليكم. وفى خيمة مراد باشا بدا نور ضئيل، وكان الباشا مستلقياً على الأرض مدججاً بالسلاح كامل العدة، فلما طرق الصوت سمعه وبدأت الحركة؛ أفاق من نومه فى الوقت المناسب، ووثب واقفا فلم يجد أحداً معه فى الغرفة، ولكنه لمح ظلا مبهماً لرجل طويل القامة يبرح الخيمة بسرعة زائدة، فظن أنه فى حلم، وأن ذلك المنظر لم يكن الا كابوساً مخيفاً، ولكنه وجد المعسكر قد عادت اليه الحياة؛ وتجاوب نداء القتال، وصلصلة السيوف وصهيل الخيل، وأوامر الضباط تلقى فى كل جهة، ولكنه وجد عبارات مكتوبة على الخيمة؛ هذا نصها: «هجوم ليلى. فإن ستمائة رجل يزحفون عليكم، وبينكم وبينهم الآن أقل من نصف ميل».
 
وكان السير ولنجتن قد أصبح على بعد ربع ميل؛ فسمع بأذنيه هذه الأصوات كلها وشعر بحركة الجند وهم يتأهبون، فعلم أن تلك المفاجأة التى دبرت بروية وبمنتهى التكتم قد فشلت، وإذاً فليس عليه إلا أن يرجع خائباً الى معسكره؛ اذ لم يعد فى وسعه اقتحام معسكر عدوه؛ لأن ستمائة جندى لا يكفون لخوض موقعة حاسمة، ولأن جنود مراد باشا يحاربون ببسالة واقدام، وارتدت الجنود كالأمواج الى الخلف تجر أذيال الخيبة والفشل.
 
ولما وصل سير ولنجتن الى المعسكر ثانياً، اضطر أن يعترف أمام رئيس الحملة الجنرال فريزر بفشل المفاجأة التى كانت قد أعدت معداتها بنظام دقيق.
 
قال سير ولنجتن، وقد بدا الغضب والتذمر على وجهة: لقد كانت الخيام فى الحماد تتحرك فلم أجرؤ على الهجوم؛ لأننا كنا نعتمد فى الفوز على المفاجأة.. فأحتج فريزر وأخذ يصخب، ويسب ويلعن، وقال:
 
ومن الذى أفشى لهم الخبر؟
فزأر ولنجتن كالأسد الغاضب وقال: لا بد أن الشيطان المقنع هو الذى أنذرهم.
 
وفى الناحية الأخرى من البلدة، كان الرجل المدعو «المقنع» يتأهب للاختفاء بهدوء كما ظهر.

الفصل الثانى
فى اليوم التالى وقف فريزر داخل خيمته، هو والسير ولنجتن وأركان حرب الحملة وهو يهدر ويصخب كالبركان الثائر، وكان يقطع الخيمة ذهاباً وجيئة، ولم يجرؤ واحد على مفاتحته فى الكلام حتى تكلم وحده فقال: لقد فشلنا فى ست معارك الآن مع مراد باشا، ويظهر أنه يتلقى انذارات فى الوقت المناسب.
 
فقال السير ولنجتن: لقد كانت كلها مدبرة تدبيراً محكماً، وكان رجالنا يسيرون صامتين كالأشباح فى ليل بهيم شديد الظلام، ولكن فى كل مرة كان هناك من ينبئه بقدومنا اذ كنا نجد خيامه كلها فى حركة، فكنا نضطر الى التقهقر، فمن غير ابليس أعطاه الانذار؟
 
جاسوس أمهر منك وأشد حيطة!
فصاح أحد القواد:
- إننى أجزم بأن هناك عاملا خفياً يحرس حياة ذلك الرجل. إن قومه – كما أخبرنا أحد جواسيسنا – يتحدثون عن رجل طويل القامة عريض المنكبين، وبعضهم يدعوه «بالمقنع»، وهم يظنون أن القوة التى تحميه قوة علوية، ولكن يظهر أن أحدا لم يره؛ فكأنه حقاً رسول من ابليس نفسه.
 
ولم يكد الرجل ينتهى من قوله حتى ساد الغرفة صمت رهيب، فاصفرت الوجوه واضطربت الشفاه، فرسم سير ولنجتن نفسه علامة الصليب. إن أولئك الرجال الذين كانوا يتحدثون بذلاقة وعنف، ويطربهم قتل الأبرياء، غلبتهم الخرافات على أمرهم، هؤلاء الذين يطربهم تعذيب الناس، ذعروا وملكهم الخوف؛ فرددت شفاههم المضطربة صلوات كاذبة طلباً للرحمة من الله الذى كانوا يعصونه كل يوم بأفعالهم.
 
وحين عاد فريزر الى الكلام كان خافت الصوت فقال: سواء أكان الذى أنذرهم ابليس أم غيره، فهذا لا يهمنا، إنما الذى يهمنا هو أن ننفذ أوامر ملكنا ونتم الاستيلاء على مصر. وصمت قليلا ثم قال: «ليس ينقصنا الا أن يكون لنا داخل المدينة جواسيس مهرة؛ لكى يعرفوا كل الخطط التى تدبر».
 
قال ذلك ونظر نظرة احتقار الى الموجودين، فأجابه السير ولنجتن؛ بأن الجاسوس 566 قد أرسل اليوم إشارة يقول فيها: إن رشيد ضعيفة جداً، ويمكن الاستيلاء عليها؛ اذ أن الابطاء يمكنهم من جمع صفوفهم. وقد وصل الى خبر آخر، وهو أن محمد على باشا قد صمم على الحرب إلى سورية، بعد أن رأى ذلك الانتصار الباهر الذى أحرزناه فى الإسكندرية ودمنهور، فهو الآن يحارب المماليك فى الصعيد، أضف الى ذلك أنه يفكر فى ارسال عدد من الجيش الى رشيد. وإنى متعجب لهؤلاء القوم الذين يقاومون جيشاً كبيراً وهم ضعفاء جداً؛ اذ ليس لديهم ذخيره ولا سلاح.
 
عند ذلك ظهر الابتسام على وجهه وقال:
- هذه أخبار سارة جداً، وعلى كل حال سوف ننتهى فى مدة قصيرة من هؤلاء القوم، وبعدها تصير مصر من أولها الى آخرها تابعه للتاج البريطانى.
وعند ذلك وقف الجميع اجلالا للتاج البريطانى.

الفصل الثالث
جلس محسن على كرسى منخفض، وغطى وجهه بيديه، وجلست أمه أمامه، وقد لفت رقبتها بشالها من البرد، وأخذ محسن يفكر تفكيراً عميقاً، حتى أنه نسى أنه جالس مع أمه.. وراح يتصور الموقف، فقد كان هذا اليوم محدداً لحفلة عرسه، ولكن البلدة أخذت بقدوم العدو اليها؛ فكان من جراء ذلك تأجيل العرس الى ما بعد الموقعة. لقد كانت وداد، وهى من علية القوم وابنه أحد أشراف البلدة، ذات عينين سوداوين ناعستين وشعر مسترسل على جبينها ووجه مثل البدر وسط السحاب.. أخذت هذه الصورة الجميلة تتراءى لمحسن وتسيطر على عقله وهو جالس فى الشرفة مع والدته، وراحت الحوادث الماضية تكر أمامه.
 
فقد كان، بعكس أخيه ابراهيم، خاملا لا مكانة له فى القرية.. كان جالساً ذات يوم فى مزرعة فى الطرف الشرقى للمدينة يغنى أغنية شعبية، فاستولى عليه النوم، ولكنه قام فزعاً على صوت استغاثة ونباح كلب، فوجد فتاة تجرى ويتبعها كلب ضخم الجسم، فما كان منه الا أن هجم على ذلك الكلب وضربه بعصاه؛ حتى جعله يفر من أمام هذه الفتاة الحسناء. وعند ذلك شكرته الفتاة، وعرفته أنه الآن فى مزرعة أحمد بك عاصم والدها، وعند ذلك تآلفت روحاهما، وصار يقابلها كثيراً فى تلك المزرعة بدون علم والدها. وكان لتلك الفتاة ابن عم يدعى «حسناً» مغرم بها، وطالما عرض عليها قلبه فكانت ترفضه بإباء وشمم. وقد أقسم ذلك الشاب أنه سينتقم منها فى يوم من الأيام. ورابه خروجها كل يوم فى وقت الغروب، وتوجهها الى الحقل منفردة بدون علم أحد من أهل المنزل.
 
وذات يوم اقتفى أثرها فوجدها تتلاقى مع محسن بجانب الغدير، وعلى حين غرة خرج من مخبئه، وفاجأهما معاً، ونظر الى محسن نظرة احتقار وقال له: أيها السافل الدنئ، ماذا تفعل فى تلك المزرعة؟
 
فقالت وداد:
- إنه فى هذه الأرض بدعوة منى.
 
- لا عهد لى بأن الرجال يحضرون بدعوة النساء.. ما هذا الا لص مجرم، ولكن ما بالك تدافعين عنه!
 
ولم يخف ما كان عليه من حنق شديد، ولكن محسن نظر والضحكة الهازلة لا تفارق فمه، كما لم تفارقه نظرة الاحتقار.
عند ذلك تركهما حسن وذهب يعدو نحو المنزل، فقالت وداد لمحسن:
 
- بالله عليك اذهب، فإنه لا يلبث أن يرجع مع رجال المزرعة فيمسوك بضرر.
 
واستجاب محسن لنصيحتها ومضى الى منزله. وفى اليوم التالى ذهب هو ووالده الى والد الفتاة وخطبها منه، وحدد العرس فى هذا اليوم، ولكن الاحتفال به تعطل بمناسبة هجوم العدو لاحتلال رشيد.
 
أفاق محسن من تأملاته على صوت والده يقول له: فيم تفكر؟.. لقد جند كل شبان البلدة ليذودوا عن نسائهم وأطفالهم، فما بالك جالساً فى المنزل ولم تخرج لتدافع عن بلدتك مع المدافعين عنها؟.. هل ستبقى طول حياتك.. 
 
فقاطعته زوجته قائلة: لقد خرج ابراهيم وجند، فليبق محسن معى فى المنزل.. إنى لا أستطيع ذلك؛ اذ ماذا أصنع بعد ولدى، وهل يلذ لى العيش فى الحياة؟ لقد تجرد قلبك من محبتهما فتريد أن توردهما موارد التهلكة.
 
- لا تظنى ذلك أيتها الزوجة العزيزة، فإننى لست أقل محبة لهما منك، بل أنا أكثر منك وطنية.. أتفضلين حياة ابنك وموتنا نحن فى ذل الأسر ورق العبودية، أم موته وحياتنا فى نسيم الحرية؟ 
 
وصمت فجأة؛ لأن السكون الذى كان مخيما على المدينة، قطعته أصوات أغنية شعبية وطنية وهتافات عالية.
 
حدث كل هذا ومحسن لم يتحرك من مكانه، فقد كان لا يأبه لأحد فى الوجود، وعاش طول حياته خامل الذكر، فما الذى يجعله الآن يقوم ويتحمل كل هذه الأهوال؟ لقد نظر إلى والده وهو يبتسم تلك الابتسامة الساخرة المستهترة التى اشتهر بها فى البلدة؛ فما كان من والده الا أن خرج من المنزل وهو يتمتم بكلمات تدل على الغضب والتذمر.

الفصل الرابع
جلس ابراهيم مع أمه فى الصباح؛ اذ كان يقوم بمهمة فى المدينة، فسألته أمه قائلة: هل رأيت أخاك محسن؟
 
فأجاب قائلا: لا.. هلى رأيته أنت؟
 
أجابت: رأيته لحظة واحدة.
 
- وماذا قال؟
- إنك تعرف محسن.. فإنه أبدى إعجابه بشجاعة المتطوعين.. فى شىء من الدعابة، وقبل أن يبدى ابراهيم استياءه، عادت الأم الى الكلام فقالت:
 
- لا تلم محسن، فهو كما خلقه الله.. إنه لا يبالى شيئاً.
 
- إنه لا يعنى الا بملذاته وشهواته، لقد سمعت أنه كان بالأمس مع عدد من الماجنين يضحكون ولا يأبهون لتلك المحنة التى يجتازها البلد.
 
وقام الشاب ليذهب الى عمله، وكان ابراهيم من الشباب المتحمسين الذين ذهبوا الى القتال ليمحوا العار عن الوطن.
 
ومدت الأم يدها نحو ابنها المفضل، فجاءها ثانية وجلس عند قدميها وقبل يديها فقالت:
 
- أرجوك يا ولدى ألا تقدم على عمل من أعمال الطيش، ولا تتصرف تصرفاً تندم عليه حين لا ينفع الندم.
 
لا تخافى يا والدتى، فقد جاءتنا وعود بالمساعدة.. إننى حذر كالثعلب، ولكن لن أثنى ركبتى للقوة الغاشمة.. إننى أقاتل عصابة السفاحين الذين انتهكوا حرمتنا وداسو حريتنا، فإن الواجب على هو أن أخدم بلادى وأبوى.
 
ثم قبل أمه وغادر المنزل مسرعاً، ولو استطاعت لأوقفته.. لأن الخوف استولى عليها.

الفصل الخامس
لم يكن الجاسوس 566 سوى قطان باشا المستوطن برشيد، كان قطان باشا من أهل أرمنيا، وعندما فقدت أرمنيا استقلالها حضر الى مصر، وتجنس بالجنسية المصرية واعتنق دين الاسلام.. ولكنه كان من أكبر المرابين فى المدينه، فكان يخرج الأموال بفوائد فادحة حتى كرهه الناس؛ ولذلك انعزل عنهم، وعاش فى مزرعة فى الطرف الشرقى من البلدة، وشيد لنفسه هناك قصرا كان يسكنه هو وابنته.
 
كانت تلك الفتاة المسكينة لا تخرج من القصر، وقد فقدت عطف أمها منذ كانت فى السابعة من العمر، وهى الآن فى الثامنة عشرة.
 
حدث مرة أن احتاج طاهر بك عمدة البلدة الى نقود لكى يسدد ما عليه من الدين الذى كان غارقاً فيه الى أذنيه، فلم يجد أحدا يلتجئ إليه غير قطان باشا الذى عرض عليه المال بفائدة قليلة، وعندما حان وقت الدفع لم يجد طاهر بك ما يدفعه، فذهب الى دائنه يستمهله فأعطاه مدة أسبوع يدفع بعدها ما عليه من الدين.
وردت على قطان باشا اشارة من الحملة، أنه لا بد من وجود شخص فى منزل العمدة لكى يحضر لهم الأخبار والمؤامرات والخطط التى يعدها مراد باشا؛ لأن كل هذه الأشياء فى عهدة ابراهيم ابن العمدة.
 
ودبر قطان باشا خطته؛ اذ لا بد أن يستولى الانجليز على مصر لكى تنال أرمينيا استقلالها على أيديهم.. هكذا كان الاتفاق بين قطان باشا والانجليز.
وحينما حان الوقت لدفع الدين الذى على طاهر بك، ذهب الى قطان باشا ليستمهله.. فقال له قطان باشا:
 
- والله يا أخى إنى محتاج الى المال؛ ولذلك لا أستطيع إمهالك أكثر من ذلك، وأملى أن تدفع دينك حتى لا أضطر الى نزع ملكية الأرض وبيعها.
عند ذلك اصفر وجه طاهر بك وأخذ يرجو المرابى أن يمهله بعض الوقت؛ ولكنه كان يضرب فى حديد بارد. وأخيراً انسابت الدموع من عينى الشيخ المهدم الذى وجد الفضيحة أمامه بسحبها الداكنة.. فقال له قطان باشا:
 
- إننى أقترح عليك اقتراحاً أنت فيه الرابح، فإن قبلته كان بها، والا فسأبيع الأرض بالمزاد اليوم أو غداً، وأستولى على الدار وأخرجكم منها.
فظهر البشر على وجه الشيخ المهدم، وقال:
 
- لا خيب الله رجائى فيك أيها الصديق العزيز، ودام عزك.. أرجوك أن تسرد على ذلك الاقتراح، وهو مقبول باذن الله تعالى.
فقال المرابى:
 
- إذا رضيت أن تزوج ابنك من ابنتى – وهى كما تعلم على قدر كبير من الجمال – فإننى أرفع ما عليك من الدين والفائدة.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق