إصلاح المجتمع يحتاج 1000 سنة.. الرسائل السرية من عبدالناصر إلى صديقه حسن النشار
الأحد، 14 يناير 2018 12:00 ص
1- من جبل الأولياء بالسودان
إصلاح المجتمع يحتاج 1000 سنة
إن الحياة الآن تختلف اختلافا كليا عما كانت عليه فى الماضى.. وطبعا فى هذا الاختلاف تأثير على النفس، وعلى الفكرة التى كونتها عن الحياة.
والحقيقة إن كل ما كنت أعتقده فى سنة 1936 وما حولها من الأيام، يتغير تغيرا مستمرا، وتثبت لى الأيام أن تفكيرى فى الأيام الماضية كان خطأ، وأن نظرياتى ونظرياتك أيضا كانت كلها من بنات الخيال، وأن الحقيقة الآن تهدم هذا الخيال بالنسبة لى!
تصور كلامى وتعجب يا حسن.. جرى إيه لجمال عبدالناصر؟!
ولكن إذا عشت ربع المدة، التى عشتها فى هذا الجو لكنت ألعن من ذلك؛ الإخلاص معدوم.. والذمة مفقودة.. والضمير لا تسمع عنه.. حتى إنى أعتقد الآن إنى ابتدأت أفكر فى نظرية؛ إذا كنت أنا الوحيد فى هذا البيئة اعترف بالضمير واعترف بالذمة، فطبعا أكون مغبونا جدا.. إذ أن كل «البلاوى» ستقع على هذا الذى لا يرضى عن الذمة بديلا.
فاكر نظريات الإصلاح التى كنا نتباحث فيها زمان.. وندرنا لها 10 سنين!! لقد قدرت لها الآن 1000 سنة، ونكون كسبانين كمان.
طبعا فى الجو الهايص الذى نعيش فيه.. برضه راح تقول جمال عبدالناصر جرى له إيه؟!
ولكن أقول إن هذا الكلام عن خبرة واحتكاك بفئة من الفئات المفروض أنها ترفع بمجد البلاد!
عندنا فى الخزان نجد مياه الفيضان محجوزة، والنيل يصل إلى مدى البصر فى الاتساع.. المياه زرقاء، والقمر يعكس نوره الفضى..
تصور كل المناظر دى وعليها شوية نسيم عليل كمان.. وبالرغم من ذلك فأنا لا استسيغها، ولا أحس لها طعما.. فمثلها كمثل أى صحراء!.. علما بأنى لم أكن كذلك من مدة..
فهل مات الشعور؟ أو هل ماتت العاطفة؟ سؤال أساله لنفسى مرات عديدة، لكننى لا أعرف الجواب.. الحقيقة إن المصريين فى السودان ليس لهم أى حس أو صوت..
سواء فى ذلك الحكومة المصرية، أو الأهالى.. إن السودان ما زال إلى الآن مصريا بالاسم فقط.. حسن.. دى حاجة تسد النفس!
إذا كنت أنا الوحيد الذى اعترف بالضمير واعترف بالذمة فطبعا أكون مغبونا جدا
2- يشكو إليه هموم العمل
أكتب اليك الآن وأنا ثائر فى نفسى ثورة داخلية عائلية
نسير إلى الهاوية
عزيزى حسن..
أكتب اليك الآن وأنا ثائر فى نفسى ثورة داخلية عائلية..
وصلنى جواب من العم شديد اللهجة، يقول إنه كتب لى جوابين فلم يصله الرد، ويتهمنى بأنى كنت أكتب له فقط مدة وجود أشقائى عنده. وقد كان وقت هذا الخطاب مناسبا لأن أرد ردا يقطع علاقتى به وبالعائلة أجمع اذا احتاج الأمر.. فقد كانت أفكارى تدور حول ما جنته هذه العائلة على، وما قاسيته على يديها.
ولكنى تداركت نفسى..ورددت عليه بخطاب يؤلمه، ولن يؤنب بعده إلا نفسه على ارساله هذا الخطاب..
لقد أخبرته أنه يعتقد أن جمال عبدالناصر ممتع، يعيش كما يتصورون عن الضباط..
ليس له مشاغل فى الحياة، خالى البال.. وطبعا شخص هذه صفاته لا بد أن يكون قد أجرم فى التقصير برد خطاب عمه.. وأخيرا أثبت له أن جمال عبدالناصر عبارة عن كتلة من الهموم والآلام، وقد كان ولا يزال معاهدا نفسه أن لا يشرك أحدا معه فى هذه الهموم، وأن جوابه هذا كان سيولد حوادث سيئة العواقب..
ولكنى تداركت نفسى. على العموم يا حسن أنا مش عارف ألاقيها منين والا منين.. هنا فى عملى كل عيبى إنى دغرى لا أعرف الملق ولا الكلمات الحلوة ولا التمسح بالأذيال.
يعاده الجميع – تلامذة العهد القديم – ويحزننى يا حسن أن أقول إن هذه السياسة نجحت نجاحا باهرا، فهم يصهرون نفوس الشبان – وكلهم شبان لم تصقلهم الأيام – ويحزننى يا حسن أن أقول إن هذا الجيل الجديد قد أفسده الجيل القديم؛ فأصبح منافقا متملقا..
ويحزننى يا حسن أن أقول إننا نسير إلى الهاوية – الرياء – النفاق الملق – تفشى فى الأصاغر.. نتيجة لمعاملة الكبار..
أما أنا فقد صمدت ولازلت.. ولذلك تجدنى فى عداء مستحكم مستمر مع هؤلاء الكبار.. أما اذا فكرت فى المستقبل فلا يمكن أن أقول شيئا غير (لا حول ولا قوة الا بالله).
جمال عبدالناصر - جبل الأولياء
3- من الكتيبة الخامسة بطنطا
مسألة الزواج مؤجلة
عزيزى حسن
أهديك سلامى الزائد.. وأرجو أن تكون بخير.. أرسلت لك جواب من مدة ولكن لم يصلنى أى رد حتى الآن.
وأنا لازلت بطنطا وربما نبقى بها مدة طويلة، إذا لم تقم الحرب بين مصر وإيطاليا، وإلا فإلى الحدود.
لقد سبق أن كلمتك فى موضوع الليثى؛ حتى يمكن أن يدخل مجانا، وقد قدمنا له طلب بمدرسة المحلة الكبرى.. فأرجو إن كنت تعرف أى شخص يعرف ناظر المدرسة فتكلمه خصوصا وأنه منقول من الوزارة، واسمه عبدالقادر عبدالعظيم غالى.
أما مسألة الزواج فأظن أنه ليس من المناسب الكلام فيها الآن.. (إيه رأيك؟) بسبب الحرب والحياة غير المستقرة التى نحن فيها.
هل محمد عارف سافر إلى منقباد ؟ وفى أى أورطه هو؟ سلامى للجميع.
الكتيبة الخامسة طنطا
جمال عبدالناصر
4- بعد حادث ٤ فبراير 1942
هذا الامتحان ليس له فائدة، ولكن له مضار
لو أحس الإنجليز بقدرتنا على التضحية.. لانسحبوا كالعاهرات
عزيزى حسن
أهديك سلامى وأشواقى.. وصلنى جوابك، والحقيقة إن ما به جعلنى أغلى غليانا مرا، وكنت على وشك الانفجار من الغيظ، ولكن ما العمل بعد أن وقعت الواقعة، وقبلناها مستسلمين خاضعين خانعين. والحقيقة إنى أعتقد أن الإنجليز كانوا يلعبون بورقة واحدة فى يدهم بغرض التهديد فقط، ولكن لو كانوا أحسوا أن بعض المصريين ينوون التضحية بدمائهم ويقابلوا القوة بالقوة؛ لانسحبوا كأى امرأة من العاهرات.. وطبعا هذا حالهم أو تلك عادتهم.
أما نحن.. أما الجيش فقد كان لهذا الحادث تأثير... على الروح والإحساس فيه.. فبعد أن كان معظم الضباط لا يتكلمون إلا عن النساء واللهو أصبحوا يتكلمون عن التضحية والاستعداد لبذل النفوس فى سبيل الكرامة، وأصبحت تراهم وكلهم ندم لأنهم لم يتدخلوا – مع ضعفهم الظاهر – يردوا للبلاد كرامتها ويغسلوها بالدماء.. ولكن إن غدا لقريب. حاول البعض بعد الحادث أن يعملوا شيئا لغرض الانتقام، ولكن كان الوقت قد فات.. أما القلوب فكلها نار وأسى. عموما فإن هذه الحركة أو هذه الطعنة ردت الروح إلى بعض الأجساد، وعرفتهم أن هناك كرامة يجب أن يستعدوا للدفاع عنها.. وكان هذا درسا، ولكنه كان درسا قاسيا.
أما الترقى فليس له أى أساس، وكل ما حصل كان نجاحا فى امتحان للترقى، وهذا الامتحان ليس له فائدة، ولكن له مضار، وهى عدم ترقية من لا ينجح فيه، أما الناجحون فيرقون فى دورهم.
سنكون بمصر يوم 5 / 3 إن شاء الله وسلامى للجميع.
جمال عبدالناصر
العلمين
16 / 2 / 42
5- من منقباد
مسألة نقلى لم يبت فيها إلى الآن
أوصيك على شقيقى عز
عزيزى حسن
أهديك سلامى وأرجو أن تكون بخير.. أرسلت لك جواب من زمان ولكن لم يصلنى الرد إلى الآن.. عايز أعرف السبب. أعرفك إن وقتى مشغول جدا فى هذه الأيام حتى إنى لم أرسل لك ولا لعبدالرؤوف من مدة طويلة..
مسألة نقلى لم يبت فيها إلى الآن، وإن كان (الباشا) قد عرفنى إنها ستتم قريبا..
أرجو أن تسأل عن عز العرب وتزوده بنصائحك فهو (كسوف) تماما.. وقد عرفنى الوالد إنه ذهب إلى المدرسة، ولكنى لا أعرف نصيبه من الصحة، وعز لم يرسل لى ولا جواب، وهو غير مهتم جدا.
لم ترسل لى أى معلومات كما اتفقنا على المحطة عندما تركتك. وقد كنت فكرت فى أن آخذ أجازة هذا الأسبوع ولكن أجلتها لشهر رمضان.. وأظن إن هذا أحسن.
عندى موضوع.. وأظنك تعرف له حل.. وهو رغبتى فى ادخال الليثى مجانا؛ فإنه أخذ مجموع أكثر من 70٪، وطبعا هذا يقلل المصاريف على أنا على الخصوص، لأن الوالد يظهر مش ناوى يدفع المصاريف أو جزء منها.. لأنه بالرغم من اتفاقى معه على دفع نصف المصاريف وأنا الباقى ابتداء من أول أغسطس.. فإنه لم يكتف بعدم الدفع، بل أرسل لى فى طلب فلوس. أرجو أن تهتم بمسألة ليثى وتجاوبنى بصراحة.. هل هذا فى مقدورك حتى أعرفك بمجرد ارسال الطلب..
سلامى للعائلة وأحمد أفندى عارف.. وعرفه إنى باقى فى منقباد حتى ييجى انشاء الله (اذا لم أنقل) وتقبل سلامى وأشواقى.
أخوك
جمال عبدالناصر
رد حسن النشار فى 27 سبتمبر 1941
لا تثور على أهلك حتى بعد أن تخلوا عنك
أخى المحبوب جمال
أهنئك أولا بهذا الشهر العظيم ونرجو الله أن نكون فى العام القادم سويا وأنت على أحسن حال.. أكتب اليك وأنا فى شدة الجوع وفى شدة التعب لأننى أخرج من الامتحان اليوم فقط، وإننى أعلم أنه يهمك أن تعرف بعض الشىء من هذا الامتحان.. إننى يا جمال استعملت كل الوسائل حتى أصل إلى النجاح، ولكن الله وحده هو الذى يدبر ونحن نفكر فيما لا يجدى فيه التفكير.. فى الأسبوع القادم سوف يتقرر مصيرى حيث يتوقف على الليسانس كل شىء فى مستقبل حياتى.. وبمشيئة الله سوف تعلم هذه النتيجة فى الخطاب المقبل.
كتبت لك رسالة صغيرة قبيل دخولى الامتحان ووعدتك على أن أكتب اليك بمجرد انتهائى منه. أعود ثانية لأكرر لك أنك مخطئ فى الكتابة إلى عمك بهذا الأسلوب الذى ذكرته فى خطابك لى.. أنت يا جمال وحيد فى هذه الدنيا ليس هناك من يهتم بك، ولكن لا يكون ذلك سببا فى أن تثور على أهلك الذين تخلوا عنك فيما مضى فى أيام كنت أحوج فيها إلى مساعدة انسان.. لا تثور عليهم بل كن كريما كما هى عادتك وكما هى أخلاقك، وانس الماضى بالنسبة اليهم وبالنسبة إلى إساءاتهم إليك؛ فهم على كل حال ومهما كان الأمر أهلك ودمك وعشيرتك.. تحمل كل شىء من أجلهم حتى إذا أساءوا اليك، اذا لم يكن من أجل أنهم أهلك فلأن عندهم أخوتك الصغار الذين ليس لهم غيرك يحنو عليهم ويبر بهم.. أنت رجل والرجال دائما يعفون ويتحملون بدون تململ. إننى أعلم تماما لأننى أقرب الناس اليك ما قاسيته يا جمال على يدى كل أسرتك كما تقول أنت، ولكن كما قلت لك العفو عند المقدرة..
أنت تعيش فى عالم غير هذا العالم الذى يعيش فيه شبان اليوم وضباط هذا العصر، فلا تكن مثلهم اذا أساء اليهم انسان أساءوا إليه.. لا يصدق انسان أن هذه الحياة التى تحياها، حياة التصوف وحياة الزهد، موجودة الآن بين أحد الشبان.. فاتركهم يفكروا ما شاء لهم التفكير المضلل، ولا يكن ذلك أنك تسايرهم فى شهواتهم وفى انحطاطهم.
حقا يا جمال أن عيبك هو أنك رجل ولكن عيب مطلوب فى هذه الأيام، ويجب أن يسود وكان يجب أن يكون الجيش هو مجاله، ولكن للأسف ليس الأمر كذلك..
أنت يا جمال لم تخلق للجيش بل خلقت لأن تكون حرا أنت رئيس نفسك، ولا تأتمر الا لضميرك ولعقلك. وكانت فيك المميزات لأن تنجح فى الحياة على هذه الوتيرة.. وفى الواقع أنك أشبعت وحققت أو كدت أن تحقق شيئا مما ترجوه. ليس فتحى رضوان ولا حمادة الناحل بأحسن منك، بل أنت تمتاز عليهم بالرجولة الصادقة.. إنهما وأمثالهما الآن يا جمال قد نجحوا فى الحياة ولا يقل دخل الواحد منهم عن 40 جنيها شهريا؛ فأشبعوا رغبتهم وعاشوا أحرارا. هذه الحياة كانت أوجب لك منهم، ولكن هكذا مشيئة الله وارادته..
ولا مُعقب على هذه الارادة وهذه المشيئة.. فيجب اذن أن نواجه الأمر ونتدبر المستقبل بالحذر والحكمة والعقل.
لم يكن لك دخل فى التحاقك بالحربية، بل كانت الظروف وحدها هى التى أجبرتك على ذلك، أو هى العاطفة التى تملكتك لتندفع وراء النظام فوجدت الفوضى.. فلا سبيل إلى الاصلاح بمفردك، بل الأيام والظروف سوف تصلح كل شىء.. وتتحقق تلك الآمال التى يرجوها أمثالك.
قلت أما وقد أصبحنا أمام الأمر الواقع فيجب أن نتدبر المستقبل بالحذر والعقل.. وخاصة ما تشكوه من أخلاق الرؤساء ومسايرة الشبان لهم.. ليس هذا يا جمال فى الجيش فقط بل فى كل مصلحة فيها رئيس ومرؤوس.. ما عليك يا جمال اذن الا أن ترضيهم لا بالخضوع واذلال نفسك، بل يكون ارضاءك لهم بالبُعد عنهم الا ما استدعى واجب العمل الاتصال بهم.. وكن وحيدا بعيدا عن كل انسان.. انما تقرّب ممن هم تحت امرتك ولا تضايقهم كما يفعل (الآخرون)؛ لأنك غير هؤلاء (الآخرين) من سمو فى الأخلاق وعلو فى النفس، لا عجرفة ولا غرور.. كل ذلك حتى تستطيع أن تقضى هذه الأيام على أى حال، فتمر بسلام وهدوء لا يشعر بوجودك أحد؛ حتى يقضى الله بعد ذلك أمرا كان مقضيا.. لا تصطدم بأحد وكن معقولا فى عملك كما هى عادتك.
أنت يا جمال ما زلت فى مقتبل شبابك فاصبر على ما يسوءك.. فاليوم اساءة وغدا يعوضك الله على هذا الصبر.
وأخيرا يا جمال أتمنى أن تهدأ ثورتك وتطيب نفسك إلى الخير كما هو أمرك دائما.. ونرجو الله أن يوفقك فى كل خطواتك. علمت من مصدر خاص بنجاح شقيقى سعد فى التوجيهية وإن شاء الله سيلتحق بالآداب.. ولم أعلم شيئا عن نتيجة عز والليثى وشوقى. حصل فى القاهرة غارة شديدة ضربت فيها العباسية والظاهر والسكاكينى ضربا شديدا.. والله يحفظكم ويحفظنا شر المصائب والشدائد والله على كل شىء قدير. لم أر عبدالرؤوف منذ مدة طويلة، ولن أذهب اليه الا بعد ظهور النتيجة وهى بعد أيام..
أنت يا جمال فى السودان وحيد وأنا فى مصر وحيد، ولو أن هذا قياس مع الفارق الا أننى أيضا لا أجد هنا صديقا أستطيع أن أسرّ اليه بسر أو أئتمنه على أمر خاص، فلا أجد من هو محببا إلى نفسى أو أجد فيه ذرة من معانى الصداقة، والله وحده مصلح الأحوال.. وأخيرا سلام الأسرة جميعا وشوقنا لرؤيتك والسلام عليكم ورحمة الله.
أخوك المخلص إلى الأبد
27 سبتمبر سنة 1941
حسن النشار