نكشف المستور في «حرب البنسلين» بين «الصحة» ومافيا احتكار الأدوية (مستندات)
الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017 01:00 صكتب هناء قنديل وأشرف أمين
من يدير ملف الدواء فى مصر؟ وكيف يجرؤ على تهديد حياة البشر؟! وما سر غياب الآليات الحكومية القادرة على منع تكرار أزمات الأدوية؟ أسئلة كثيرة قفزت إلى الأذهان مع تفاقم أزمة البنسلين فى مصر خلال الفترة الماضية، بعد أن تعمد أحد تجار الأدوية ممن فقدوا ضمائرهم «تعطيش» السوق بوقف استيراد العقار بغرض رفع سعره وتحقيق مكاسب كبيرة من ورائه، وهى القضية التى كشفت عنها الرقابة الإدارية وقدمتها لجهات التحقيق.
ولأن «صوت الأمة» أول من انفرد بنشر تفاصيل «حرب البنسلين»، التى جرت على مدار الفترة الماضية، ولما يمثله الدواء فى كثير من الأوقات فيكون أهم من الغذاء، فإن هذا الملف يستحق البحث، والدراسة، ومناقشة أبعاده بحياد، وموضوعية؛ لوضع الحقائق أمام الرأى العام، خاصة بعد أن استطاعت «صوت الأمة»، أن تحصل على صورة من «مُلحق» للعقد المُبرم بين أكديما إنترناشيونال، وتكنوفارما بتاريخ 26 نوفمبر 2013، مُذيل بتوقيع رئيس مجلس إدارة تكنوفارما، مدحت شعراوى، يُفيد بأنه إذا سمح الشكل القانونى لشركة أكديما إنترناشيونال للتجارة باستيراد مُستحضرات تامة الصُنع، فإنه على الفور سوف تقوم «تكنوفارما» بإعادة المُستحضرات محل العقد لشركة أكديما إنترناشيونال للتجارة مرة أخرى لتُصبح ملكية المُستحضرات وإخطارات التسجيل وحق الاستيراد لشركة أكديما إنترناشيونال.
رئيس المركز المصرى للحق فى الدواء، محمود فؤاد، يؤكد أن صناعة الدواء ذات تاريخ عريق فى مصر، موضحا أنها بدأت منذ ثلاثينيات القرن الماضى، على يد طلعت حرب، الذى أنشأ شركة مصر للمستحضرات الطبية. وأضاف فؤاد لـ«صوت الأمة»، أنه مع بداية خمسينيات القرن العشرين، توسعت مصر فى إنشاء شركات الأدوية، حتى وصل عددها إلى 9 شركات إنتاج، وكان الهدف حينها، ليس تأمين احتياجات مصر وحدها، وإنما امتد إلى توفير الدواء للقارة الإفريقية بأكملها.
وتابع: «بمرور الوقت أصبحت هذه الصناعة العمود الفقرى للاقتصاد الوطنى، وتصاعدت نسبة مبيعات إنتاج هذه الشركات على مدار الفترة التالية للإنشاء لتصل فى عام 1998 إلى استحواذها على 77 % من السوق. وشدد «فؤاد»، على ضرورة أن يستمر دور قطاع الأعمال فى صناعة الدواء؛ باعتبارها صناعة إستراتيجية ذات بعد اجتماعى يمس الأمن القومى لمصر، مضيفا: «حتى الدول التى تسمح بالاقتصاد الحر، لا توافق على منح الأفراد حصة أعلى من حصتها فى بعض الصناعات؛ وفى مقدمتها الأدوية. ودعا فؤاد إلى أن تعمل الدولة على تأمين صناعة الدواء بكل الوسائل الممكنة؛ حتى تتفادى الأزمات فى ظل كون الدواء من الاحتياجات التى تؤثر فى القرار السياسى للدول.
وقال: «رغم أن مصر تمتلك 146 شركة دواء، فإنها لا تسيطر إلا على 39 % فقط من الإنتاج بالسوق المصرية، بينما تهيمن 22 شركة أجنبية على 61 % من الإنتاج، وهو ما يمثل خطورة كبيرة على المجتمع»، مشيرًا إلى أن قطاع الأعمال يمتلك 11 شركة، 8 منها تعمل فى الإنتاج، و3 تعمل فى التسويق، لكن مع قانون الخصصة سنة 2001، تم تخسير هذه الشركات، بوقف تطويرها؛ ما أدى إلى بيعها لشركات خاصة.
وألقى رئيس المركز المصرى للحق فى الدواء، الضوء على جانب آخر من هذه الأزمة، وهو أن شركات قطاع الأعمال تنتج أدوية الفقراء، التى لا يتجاوز سعرها 30 جنيها، ويتجاوز عددها 1800 منتج، وذلك رغم ارتفاع الدولار. وأضاف: «يتم إنتاج أدوية بسعر 180 قرشا، ويوجد 378 صنفا أسعارها بين 120 قرشا، و16 جنيها، والأصناف ذاتها موجودة بالشركات الخاصة، بأسعار تتراوح بين 11 جنيها و265 جنيها»، لافتا إلى أن هناك أنواعا من الأدوية، لا يجب ترك إنتاجها للشركات الخاصة، ومنها البنسلن، والأنسولين، والأدوية التى يحتاجها المريض بشكل يومى، مثل: علاجات الضغط، والقلب. وكشف فؤاد عن أن الشركة المصرية للأدوية حققت خسائر تجاوزت 650 مليون جنيه؛ طبقا لآخر ميزانية لها، رغم أنها دائنة للحكومة بـ1.2 مليار جنيه؛ بسبب توقف وزارة الصحة عن سداد مستحقات الشركة. ودعا رئيس المركز المصرى للحق فى الدواء، إلى ضرورة أن تتوافر الإرادة لدى الحكومة، لاستعادة زمام السيطرة على هذه السوق، التى تصل نفقات مصر فيها إلى 78 مليار جنيه.
قبل الاسترسال فى كشف المستور فى أزمة «حرب البنسلين»، يجب أن نضعها موجزة أمام الرأى العام، وبالتواريخ كالتالى.. خلال العام 2017:
6 سبتمبر: الصحة تعلن طرح 860 ألف حقنة من الأصناف المختلفة لعقار البنسلين فى الصيدليات.
18 سبتمبر: رئيس إدارة الصيدلة تعلن توافر البنسلين بعد إنهاء إجراءات استيراده من الخارج.
2 أكتوبر: نقابة الصيادلة تؤكد وجود نقص كبير فى رصيد البنسلين بالصيدليات.
8 أكتوبر: الصحة توفر 100 ألف عبوة بنسلين بصيدليات الشكاوى.
23 أكتوبر: الصحة تضخ 198 ألف حقنة بنسلين بالأسواق.
15 نوفمبر: أزمة نقص البنسلين تتصاعد فى المحافظات.
23 نوفمبر: الصحة توفر 100 ألف عبوة بنسلين فى صيدليات شركة المتحدة والمصرية للأدوية.
4 ديسمبر: رئيس إدارة الصيدلة تعلن طرح 100 ألف حقنة بنسلين بفروع الشركة المصرية والشركة المتحدة.
6 ديسمبر: مركز المعلومات بمجلس الوزراء ينفى ما تردد عن نقص شديد فى عقار البنسلين بالسوق المحلية.
7 ديسمبر: الصحة تؤكد أن مدحت شعراوى هوّ المتسبب فى أزمة نقص البنسلين.
14 ديسمبر: وزير الصحة يعلن انفراج أزمة نقص البنسلين بعد ضخ 400 ألف فيال.
16 ديسمبر: الصحة تضخ 200 ألف حقنة بنسلين بالسوق لمواجهة الأزمة.
17 ديسمبر: رئيس الرقابة الإدارية يتوعد بضبط الشبكة المسئولة عن أزمة البنسلين، كما أعلنت الرقابة الإدارية ضبط المتورط فى أزمة نقص البنسلين
18 ديسمبر: الصحة تعلن ضخ 100 ألف فيال يوميا.. وزيادة كوتة الصيدليات لـ 10 حقن.
وبعد هذا السرد المؤرخ، لا بد أن نوضح أن بيانات وزارة الصحة تؤكد أن مصر تستهلك 8 ملايين عبوة من مستحضر البنسلين طويل المفعول سنويا، وهو ما يعنى أن الأزمة الأخيرة مدبرة، وتقف وراءها مافيا احتكار الدواء؛ التى ترغب فى تحقيق مكاسب فلكية، متصورة أن حالة الارتباك الاقتصادى التى كانت سائدة خلال الأشهر الماضية، ما زالت موجودة، ويمكن استغلالها.
كان هذا إيجاز لما أكده رئيس المركز المصرى للحق فى الدواء، محمد فؤاد، الذى قال إن الواقعة الأخيرة كشفت فساد سوق الدواء، وعجز وزارة الصحة. وقال: «الدولة تنتج 8.3 مليون عبوة بنسلين بحسب إحصاءات العام الماضى، وذلك عن طريق 6 شركات ثلاثة منها تابعة لقطاع الأعمال، وتحديدا شركة أكديما القابضة»، لافتا إلى أن هذا الإنتاج وزع منه 200 ألف عبوة لشركة المهن، وحصلت شركة النيل على 300 ألف عبوة، أما باقى الكمية فتظل فى حوزة أكديما».
ولفت إلى أن شركة أكديما إنترناشيونال، هى إحدى الشركات المنوط بها استيراد البنسلين، مضيفا: «لكن فى ظروف غامضة، اجتمع مجلس إدارة الشركة، وتنازل عن هذا الحق لصالح شركة تكنوفارم، وأعلن وقتها أن الغرض من هذه الشركة هو التحايل على ارتفاع أسعار الدولار».
وتابع: «فوجئنا بأن الشركة المتنازل عنها، باسم مدحت شعرواى رئيس شركة أكديما إنترناشونال وباتفاق مع مجلس الإدارة بالكالم وفقا للمحضر المحرر فى 3/ 10/ 2013 وذلك للتحايل على رخصة استيراد الادوية، وهذه المعلومة كانت لدى وزارة الصحة منذ أكثر من 3 أشهر لأن استيراد أى أدوية لا يتم دون موافقة الوزارة».
وقال: « فوضى سوق الدواء، التى سمحت بها وزارة الصحة؛ لحساب كيانات بعينها، هى السر وراء الأزمة، لأن هذه الجهات ترفض أن ينتظم العمل بشكل يقلل من أرباحها، ويمنعها من الاحتكار».
وأضاف: «الغريب أننا نستورد 12 مليون حقنة بنسلين من الصين، رغم أن شركتنا تنتجه وتصدره للملكة العربية السعودية، كما أن مصر تستورد موادا خاما، وأدوية كاملة التصنيع سنويا 2.6 مليار دولار، لذا فنحن بحاجة إلى وضع سياسة دوائية تساعد المنتج المصرى، ولا بد من إنشاء هيئة عليا لسياسات الدواء، تكون مستقلة ولها شخصية اعتبارية تتبع رئيس الجمهورية، وذات استقلال مالى.
رئيس المركز المصرى للحق فى الدواء، وجه اتهاما لسلاسل الصيدليات التى تبيع الأدوية المهربة والمزيفة ومجهولة المصدر، بأنها مسئولة عن جانب كبير من الأزمة الحالية، مشيرًا إلى أن الرقابة الإدارية، ومباحث التموين، والتفتيش الدوائى، حررت فى 2016 أكثر من 300 محضرا بسبب ألاعيب مافيا الدواء، فى ظل غياب الردع القانونى الكافى.
فى غضون ذلك قال الدكتور على عوف، رئيس شعبة الأدوية بالغرفة التجارية، إن زيادة أسعار الدواء التى جاءت بقرارات وزارة الصحة مرتين على التوالى، بدعوى الحفاظ على صناعة الدواء وتقليل حجم الخسائر، لم تتضمن زيادة أسعار البنسلين، وبقى سعره بين 7 و9 جنيهات؛ الأمر الذى سبب خسارة كبيرة للشركات والمصنعين، وأدى لوجود سوق سوداء نتيجة قلة أو توقف بعض الشركات الـ6 التى تُصنعه محليًا. وأضاف «عوف» لـ «صوت الأمة»: «جزء كبير من الأزمة سببه عدم رفع أسعار البنسلين بعد ارتفاع الجنيه أمام الدولار، الأمر الذى دفع لتوقف الشركات الوطنية التى كانت تنتج البنسلين طويل المفعول، لأن أسعارها كانت لا تتعدى 5 أو 7 جنيهات، كما أن هامش الربح لها بسيط مما نتج عنه توقف الشركات الوطنية عن تصنيعه وإنتاجه، علاوة على سيطرة البنسلين المستورد على السوق الذى كان يسيطر على أكثر من 50% من احتياجات السوق، ما دفع المرضى للبحث عن حقنة بأكثر من عشرة أضعاف سعرها، والوقوع فى فخ العقاقير المغشوشة».
وأشار «عوف» إلى أن مسألة عدم رفع أسعار البنسلين تتحمل جزءًا منها الشركات التى لم تدرجه ضمن أصناف الدواء الـ 15% زيادة نظرًا لأن هامش ربحه سيكون بسيطًا، ولكن فى نفس التوقيت الأمر لا يعفى مسئولية وزارة الصحة فى مراقبتها على إدراج الأصناف الحيوية ضمن الزيادة.
بدوره قال محمود المليجى، المتحدث باسم العاملين بقطاع الدواء، إن شركة مصر للمستحضرات كانت تنتج البنسلين طويل المفعول ولكنها توقفت بسبب عدم توافر المادة الخام فى الأساس، والتى ترجع لتعويم الجنيه المصرى أمام الدولار، فى الوقت الذى لم يتم تحريك الأسعار، حيث كانت تنتج الشركة البنسلين بـ 95 قرشا وقت تسعير الدولار بـ 3 جنيهات، ومع تجاوز الدولار نحو 18 جنيها لا تستطيع الشركة الإنتاج لأنها ستحقق خسائر.
وبسؤاله عن عدم إدراج الشركة ذاتها «البنسلين» ضمن الأصناف الـ15% المطلوب زيادة أسعارها، أوضح أن الوزارة صرحت بأنه لا يجوز رفع أسعار جميع المنتجات فى توقيت واحد، وكان وقتها لدينا مخزون من البنسلين فى الشركة المصرية، كما نستورد جزءا كبيرا من احتياجات السوق الدوائية، ووقتها أيضًا لم تكن هناك بوادر أزمة حقيقية بين الشركات المستوردة. وتابع المليجى: « كنا نستطع تغطية كل احتياجات مستشفيات القطاع العام والتأمين الصحى الذى يمثل الجزء الأكبر فى استخدام البنسلين طويل المفعول من نسبة الأطفال التى تعانى من الحمى الروماتزمية، التى تنتشر فى سن المدارس، وكانت لدينا أرصدة لدرجة أننا ننتجه بأسعار 4 جنيهات ونصف الجنيه، فى حين أن المستورد كانت أسعار تصل إلى 4 أضعاف أسعار المُنتج المحلى».
من جانبه أكد مصدر بشركة الحصان، التى تمتلك 40% من أسهم أكديما إنترناشيونال، أن أزمة البنسلين ووقف الاستيراد بالشركة يعود لأسباب كثيرة منها سوء الادارة التى تمارس من قبل الدكتورة ألفت غراب رئيس شركة أكديما القابضة.
وأضاف: «اعترضنا أيضًا فى عدة جلسات لمجلس إدارة أكديما إنترناشيونال على وقف نشاط الاستيراد، وضرورة تفادى أى أزمة من خلال حل الخلافات بين الشركات وسداد المديونيات، والاعتراضات كررناها أكثر من مرة على عدم تسوية الحسابات بين شركة أكديما إنترناشيونال وشركة تكنوفارما والمورد الأجنبى، والتى هى ثابتة بالميزانيات والمستندات، حيث لم يتم سدادها بالجدولة والتوازى مع استمرار الاستيراد، ولكن دون جدوى، حيث تقدر مديونية المورد الأجنبى بنحو 4 ملايين دولار، وهى مديونيات مستحقة بالتبعية عن توريدات تمت بالفعل لشركة أكديما إنترناشيونال وشركة فاكسيرا وكلاهما تابع لوزارة الصحة».
ويتابع: «وعندما تفاقمت الأزمة خلال الأيام الماضية وطالبنا بصور محاضر مجلس الإدارة التى أشرنا فيها إلى ضرورة استمرار الاستيراد، برفض الإدارة وامتناعها السلبى فى عرض تلك المحاضر لنا، فحررنا محضرا فى قسم شرطة العجوزة بالواقعة وأثبتنا فيه أن مجلس إدارة أكديما إنترناشيونال يمتنع عن ضم الوكالات أو ضم شركة تكنوفارما أو تسديد المديونية، بتعليمات من أُلفت غريب، رئيس الشركة العربية للصناعات والمستلزمات الدوائية». كما أن هناك 6 شركات تابعة لقطاع الأعمال تعمل فى توفير احتياج السوق الدوائى بمصر من البنسلين وهى عاملة فى تصنيعه محليًا بعد استيراد المادة الخام وهى؛ شركة النيل وشركة مصر والنصر وسيد التابعة للشركة القابضة للأدوية، بالإضافة لشركة تصنيع أخرى وهى شركة المهن الطبية التى تتبع شركة أكديما، فضلًا عن وجود شركتين أخريين تتبعان نفس الشركة قائمتين على الاستيراد من الخارج وهما؛ أكديما إنترناشونال وأكتوبر فارما التابعتين للشركة العربية للصناعات الدوائية والمستلزمات الدوائية.
نقلاً عن النسخة الورقية