ترامب أخرج ما كان خفيًّا تحت المنضدة، منضدة المساندة الأمريكية لإسرائيل والتواطؤ الرسمى العربى التاريخى معهما
ترامب بصفعته وإجرامه الجديد نفذ ما سبق ووعد به أسلافه من حكام أمريكا قبل 22 عاماً (عام 1995)
الآن وقد هدأت- نسبيًا- ردود الفعل الرسمية العربية والعالمية على قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يوم الأربعاء (6/12/2017) المتمثل بالاعتراف الأمريكى الرسمى والقاطع بالقدس عاصمة لإسرائيل، بعد أن هدأت عواصف الشجب، والإدانة، التى يتقنها عادة حكامنا العرب ونخبتنا من الإعلاميين والساسة، الذين تسببوا- جميعًا كل بقدره- بتخاذلهم وسلامهم الوهمى واتفاقاتهم البائسة وإعلامهم المدجن وتطبيعهم المجانى مع إسرائيل، وليس فحسب ترامب ودولته؛ فى أن تصل الأمور بشأن القدس إلى هذه النهاية، الآن نسأل: وماذا بعد؟ ماذا بعد هذه الصفعة المدوية على وجه الجميع، خاصة أنصار السلام البائس والتطبيع؟ والذين صدعوا رءوسنا خلال السنوات الماضية بهكذا (سلام)!
دعونا نسجل الإجابة فى النقاط التالية:
أولاً: رغم خطورة ما فعله ترامب على مسار الصراع العربى الصهيونى فإنه- فى تقديرنا- لم يفعل جديدًا، من خلال اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، لأنه وبكل بساطة، قد أخرج ما كان خفيًّا تحت المنضدة، منضدة المساندة الأمريكية لإسرائيل والتواطؤ الرسمى العربى التاريخى معهما– إلى ما فوقها؛ فعلى مستوى أول: ثمة مقدمات طويلة من التنازلات العربية فى قصة الصراع، مهدت لهذا القرار ولغيره مما هو قادم، تلك التنازلات تمثلت فى اتفاقيات سلام بائسة تنتقص من الحقوق الثابتة لفلسطين؛ (أشهرها كامب ديفيد 1978 – مدريد 1991 – وادى عربة 1994 – أوسلو 1993 وغيرها) وثمة اتفاقيات سياسية واقتصادية واسعة النطاق تمت سرًّا خلال نصف القرن الماضى بين الكيان الصهيونى وأغلب الحكومات الإسلامية العربية، وبخاصة الخليجية منها (تحديدًا تركيا وقطر – الإمارات – السعودية – البحرين.. إلخ) وثمة تفاهمات سرية جرت للقبول بالتنازل عن القدس التاريخية واعتبارها عاصمة لإسرائيل مقابل قرية أبوديس فى أطراف القدس عاصمة لما كان يسميه أصحاب خيار أوسلو (القدس الشرقية!)، أن ما فعله ترامب هو أنه أخرج كل هذه (المخلفات) و(القذارة السياسية) من تحت المنضدة إلى ما فوقها.. فلماذا غضبوا كل هذا الغضب، إلى الحد الذى جعلته صحفهم عنواناً للصراع والاحتجاج طيلة أسبوع كامل، واستنكرته جامعهتم العربية التى كانت بالأمس تدين المقاومة اللبنانية وتصفها بالإرهاب؟! هؤلاء أصلاً هم أول من باع ومهد لبيع الباقى من فلسطين! فى ظنى لا يحق لهم أن يغضبوا، لأنهم كانوا- بخيانتهم طويلة المدى- السبب الرئيسى فى قرار ترامب!
■ ■ ■
ثانياً: وعلى مستوى ثان: أن ترامب بصفعته وإجرامه الجديد، نفذ ما سبق ووعد به أسلافه من حكام أمريكا قبل 22 عامًا (عام 1995) حين صدر القرار الأمريكى بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب (وهى أيضاً أرض عربية ولا ندرى لماذا لم تغضب لها أيضاً من قبل) إلى القدس، وللتذكر فإن هذا القرار تؤكد نصوصه الصادرة عام 1995 على أن لكل بلد الحق فى تحديد العاصمة التى يختارها، وأن إسرائيل حددت القدس.
ويشير القانون (القرار الأمريكى) إلى أن مدينة القدس هى مقر رئيس إسرائيل والبرلمان والمحكمة العليا وموقع العديد من الوزارات الحكومية والمؤسسات الاجتماعية والثقافية. كما نص القرار والذى اتخذ وقتها- عام 1995- رقم 1322 على أنه ينبغى الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، وينبغى إنشاء سفارة الولايات المتحدة فى إسرائيل فى موعد أقصاه 31 مايو 1999، ويهدف القانون إلى تخصيص ما لا يزيد على 50% من ميزانية وزارة الخارجية الأمريكية المخصصة لـ «اقتناء وصيانة المبانى فى الخارج» للسنة المالية 1999 للسفارة الأمريكية فى القدس).
■ هذا والقانون (القرار) الأمريكى المعروف باسم «سفارة القدس»، والذى أقره الكونجرس فى 23 أكتوبر 1995؛ يقضى بالشروع فورًا فى تمويل عملية نقل السفارة الأمريكية فى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس فى موعد أقصاه 31 مايو 1999، ولكنه تضمن أيضًا بندًا يسمح للرئيس الأمريكى بتأجيل تنفيذ هذا القانون لمدة 6 أشهر، ما دام أن الرئيس يبلغ الكونجرس- بشكل مسبق- أن تأجيل هذه الخطوة ضرورة لحماية الأمن القومى والمصالح الأمريكية، وهى الثغرة التى استغلها الرؤساء الأمريكيون الواحد تلو الآخر على مدى العقود تجنبًا للتصعيد المحتمل لأزمة الشرق الأوسط، وهو ما لم يفعله ترامب!
■ وتؤكد مجلة «التايم» الأمريكية، فى تقرير لها صدر الأسبوع الماضى، أن الأسباب وراء عدم دخول هذا القانون حيز التنفيذ الآن لا تختلف كثيرًا عما كانت عليه فى 1995، حيث أكدت إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون أنه على الرغم من توافقها مع الحكومة الإسرائيلية على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس من حيث المبدأ، فإنهم يفضلون استقرار عملية السلام قبل تفجير الأزمة وتعقيدها بقرار نقل السفارة.
■ لقد استمر الحديث عن هذا القانون (القرار) سنوات تجاوزت العشرين، فلماذا لم يفعل حكام العرب وخاصة حكام الخليج، الذين هم الأكثر تبعية وصداقة وتحالفًا مع واشنطن؛ شيئاً لإلغائه وهم أن أرادوا ذلك لفعلوا على الأقل حين كان بإمكانهم اقتراح مقايضته بصفقات السلاح والاقتصاد.
■ ■ ■
ثالثاً: ما العمل إذن؟.. هذا السؤال على بساطته صعب الإجابة عليه، إلا أننا من الممكن إعطاء بعض الإشارات العامة للإجابة والتى تأتى فى مقدمتها، أن ترامب، ومن معه، لا يفهمون تلك اللغة الاحتجاجية التى صدرت خلال الأيام الماضية سواء فى الأمم المتحدة أو جامعة الدول العربية أو الإعلام العربى، الرجل، قلنا عندما جاء إلى الحكم، وفى مقال سابق؛ بأنه بمثابة (بلطجى البيت الأبيض)، والبلطجى لا يفهم سوى لغة القوة، أما (التنديد) و(الشجب) وغيرها من وسائل التعبير، التى لا يتقن الإعلام والساسة العرب، سواها؛ فإنها تزيده عنادًا، وتصلبًا خاصة مع وجود (لوبى يهودى) قوى يغذى مدرسة المسيحية الصهيونية، والتى أتى منها الرجل، والتى تؤمن بأن القدس، وفلسطين كلها ينبغى أن تكون ملكاً لإسرائيل حتى يأتى المسيح ليحكم العالم ألفى عام سعيدة! هكذا يؤمن ترامب وفريق المسيحية الصهيونية فى الولايات المتحدة؛ وهكذا تتم ترجمة إيمانه إلى سياسات وقرارات صادمة.
■ الرجل- كبلطجى- أتى من مدرسة المسيحية الصهيونية الأمريكية تلك (وربما نكتب عنها لاحقاً دراسة موسعة للنشر فى هذا المكان)؛ لن يردعه، فى قراره هذا الذى أجهض به أحلام فريق أوسلو وكامب ديفيد، وما بنوه من أوهام خلال ربع القرن، الأخير؛ إلا القوة، والتى نعنى بها وبوضوح تام؛ ضرب المصالح الاقتصادية والعسكرية الأمريكية فى المنطقة (ولمن لا يعلم لأمريكا 9 قواعد عسكرية فى المنطقة العربية وليس قاعدة واحدة فى قطر كما يشاع!)؛ والقوة أيضًا تعنى إعادة الاعتبار لسلاح الانتفاضة الثالثة المطلوبة الآن وفوراً ولسلاح المقاومة فى الجنوب اللبنانى والسورى، وعبر سيناء (!) مع حصار بشرى خانق – إن أمكن – لسفارات واشنطن فى العواصم المركزية فى المنطقة ودفع الثمن من أرواح وتضحيات مقابل هذا الحصار، فى مواجهة الحكومات العربية المتواطئة مع واشنطن، والمتحالفة مع الكيان الصهيونى.. ذلك هو الرد الوحيد القادر على ألا يحول (وعد ترامب) إلى (وعد بلفور) جديد، تُبنى عليه سياسات ومواقف دولية، تضيّع ما بقى من الأرض، والمقدسات والحقوق فى فلسطين.. وهو رد برسم محور المقاومة وليس محور الخليج (الأمريكى) والجامعة العربية وأصحاب مذهب التسوية والسلام الزائف واتفاقات البؤس من كامب ديفيد إلى أوسلو، هؤلاء لا ينبغى مخاطبتهم أصلا، لأنه لا يُنتظر منهم شىء بل العكس هو الصحيح.
■ ترى هل نقدر على ذلك الرد؟! وهل نمتلك استراتيجية حقيقية للمقاومة طويلة النفس، متعددة الوسائل؟ أم مجرد ردات فعل بائسة، قصيرة النفس والفعل كما جرى؟! ذلك هو التحدى!