الأخلاق بضاعة أتلفها الهوى

الإثنين، 18 ديسمبر 2017 11:38 م
الأخلاق بضاعة أتلفها الهوى
منال العيسوى

لم يكن يعرف المؤرخ والكاتب المصرى جمال حمدان حين كتب عن ملامح الشخصية المصرية التى باتت أشبة بالأثريات الكل ينقب عنها أن أحمد مكى سيجسدها فى أغنية " وقفة ناصية زمان" التى أعادت لأذهاننا جميعا أصلنا .

وقفه ناصية زمان كما عشتها منذ 30 عاما حين نحت خراط البنات جسدى النحيل، وبات أبناء الجيران شهود عيان على الجسد الناهد، شاهدين على ضحكة تفتح أبواب الجنة وسط مشاعر بالأمان ، فربما لم يكن أبناء شارعنا وسط حى شعبى بمنطقة رجب القاضى بالمحلة الكبرى يختلفون كثيرا عن أحياء مصرية كثيرة ، تراقب رجالها نساؤها، وتنتشى السيدات فيها طمعا فى ستر بناتها وتزوجيها لأحد أبناء هذا الحى.

لم تكن الزيجات تتم للأغراب فالجميع يعرف بعضه، يعرف كيف يعيش وكيف يأكل وكيف تربى، وكم من أزمات تشاركها الجميع وحلت، كل من نساء الحاره يعرفن من تزوجت ومن أنجبت ومن حرمها الحظ من الخلفة، لتكون ابناء وبنات الحاره ابناؤها، ربما لم تحملها برحمها، لكنها كانت أول من ضمتها لصدرها عقب ولادتها، ربما أنهكت أمها من آلام المخاض وغطت فى نوم عميق لتحتضن طفلتها جارتها بنفس حنانها، ربما منعها مرضها من القدره على أرضاعها طفلها الرضيع، فتطوعت أحدى الجيران لأرضاع طفلها بدلا منها، ربما ماتت الأم وتركت صغارها لجيران لم يحالفهم الحظ فى الأنجاب ليربوهم نعم التربية وكأنهم من جسدهم.

من منا لم يرى أو يعاصر مشهد من هذه المشاهد، من منا لم يشترى أبهى الفساتين أو البدل لحضور فرح أبن أو بنت جيرانهم، من منا لم يقم بفرش شقة ابنه جيرانهم ، أو دهانها أو تركيب الكهرباء لها، من منا لم تدخل أمه جمعية مع الجيران من أجل تجهيز احدى بناتها، من من لم يحلم بأبن أو أبنه الجيران عروسا له، العلاقات الحميمية ليست فقط مسكنان يجاور كل منهما الآخر، العلاقات الحميمية حياة وتفاصيل تملؤها أدق المواقف التى كانت فى النهاية هى روح الأسرة المصرية.

فى بلدتى المحلة الكبرى، كنا صغارا نلهو ونلعب، كنا ننام فى بيوتنا مطمئنين آمنين، نجتمع جمعيا يوم الخبيز فوق سطح أحد المنازل حين تجتمع نساء الحارة لعجين الدقيق وخبزه "ايد على أيد تكيد وتهد الحديد"، هنا مربط الفرس وأصل الحكاية، من قال الخيرة فى الجماعة ، لم يقولها عفوية ، ولكن أى جماعة يقصد، أنها أسر تربت على الخوف من الله وأن كانوا لا يدخلون الجامع كثيرا، الحب الذى ليس مفروضا أن ينتهى بالزواج انه الحب النقى الذى يسعد قلب المحب حتى لو تزوجت حبيبته من أخر ابن نفس الحارة فالجميع أخوه يجمعهم الحب وسط بيوت كثيرة .

أنه بالتأكيد يقصد بيته والبيت اللى جنب بيته ، حتى سابع جار، التفاصيل كثيرة ، ولا تنتهى مشاعر كان يحكمها الحياء والحب والخوف والأمان، مفردات أختفت وسط كثير من الفجاجة والانتهازية والندالة والغدر.

فالجيل الذى تربى على صوت أم كلثوم كل يوم خميس، وكعك العيد وصيجان الفران، وعاشورا وخزين الحطب والبصل، وزينة رمضان من ورق الكتب، وأعطينا العادة رب يخليك، وصلاه العيد جماعة ولمة الفطار وأفلام أسماعيل ياسين، وماما نجوى وبقلظ وعروستى وبابا ماجد وعالم الحيوان ،وزينهم السماحى، هذا الجيل الذى تشبع من القيم التى كانت تحاصره فى كل لمحه بصر بالتأكيد ألف مره يختلف عن الجيل الذى تربى على أفلام السبكى واللحم الرخيص وتأثير الأفلام الهابطة التى تحولت فيها الحارة المصرية ينهشون جسد ابنه الحارة فى حلاوة روح،أو دكان شحاته التى طمع الأخ فى حبيبة أخيه وقتله بدم بارد بعد أن سرق أرضه وعرضه.

وقفة ناصية زمان والحرافيش والنخوة والرجولة، والست الشقيانه التى تحميها عيون الحارة ورجالها، وابن الحته التى لا يجروء على معاكسة بنت الجيران، والولد اللى ممكن يجرى وراى حرامى مشوار عشان يرجع المسروق.

"أنا مالى" حين تتحول القيم لأنانية ومصلحتى ومصلحتك، حين تتحول إحنا لأنا لابد أن نسقط ، نعم نسقط ،فحين يصبح المال هو القيمة، والانتهازية هى الهدف لابد فعلا أن نسقط

علاقات العمل لا تقم على المهنية والمعايير ، فى زمن يتخلى فيه المرء عن صديقه من أجل منصب وظيفى، فى زمن قد يوشى الصديق بصديقه فى أقرب فرصه للوصوليه على حساب المبدأ، أى مبدأ نسعى للتمسك به، إن كان التميز بلا معايير سوى الخسة والندالة فمن منا متميز.

هل أنت متميز حين ترمق امرأة تشقى على أبناؤها بنظره تخدش حياؤها، هل أنت متميز حين تهدر صاحب حق حقه خوفا من رب عملك ، هل أنت متميز حين تبيع أخلاقك مقابل حفنه من الأموال.

من باع باع ، ومن سقط سقط ، ومن تربى كبر على ماتربى عليه، ويبقى الله شاهدا على عباده اللذين تاهوا وسط متاهة الحياة التى حولتهم لعرائس ماريونت، لا لشىء سوى أنهم فارغون من الداخل ، وليس لديهم ما له قيمه فهم باعوا باعوا متطوعين بلا ثمن، أنكروا الأخلاق حتى صياح الديك، وخانوا متمسكين ببروتس، وقلدوا الأحدب ونسوا فرانكشتين.

الأمر الأصعب فى هذا الزمن الردىء هو أن من يتمسكون بأخلاقهم التى تربوا عليها وسط الدفء والأمان حين يقررون البيع لن يجدوا من يشترى بضاعتهم الراكده فالأخلاق بضاعة أتلفها الهوى" هوى من يسيطرون على مقاليد الأحداث ، من يملكون الحق فى زمن الباطل ، الهوى اسمعها بصوت السقوط من أعلى فالهوى ليس فقط هوى السيد أحمد عبد الجواد حين يرد على صبيه الذى سأله عن مصير البضاعة التى أخذتها أحدى نساء الهوى بلا مقابل فرد عليه أكتبها بضاعة أتلفها الهوى.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق