حسين عثمان يكتب: تغريدة مكاوي الأخيرة
الثلاثاء، 05 ديسمبر 2017 12:00 م
وسط دوامة الشأن العام المتسارعة بوقائع لحظية تخنق الأنفاس وتثقل الكواهل، وأنت تفكر في المستقبل ملء الحاضر، يحط عليك خبر لا يأتيك إلا بوقع صدمة تأخذك من الدنيا بكل ما ومن فيها، وتضعك في قلب الصمت، تحاول أن تبكي فتتحجر الدموع في عينيك، تجاهد أن تصرخ فتعجز حتى عن مجرد الهمس، يصيبك ذلك الإنهاك المصاحب للهزيمة، ولا تهتم حتى أنك مهزوم، وليس أقسى من خبر غياب الأحبة، ولم يكن مكاوي سعيد إلا من الأحبة، حتى وإن لم أسعد بصحبته، فالعلاقة بين المبدع والمتلقي تآلف أرواح في المقام الأول، ولم يكن الرجل إلا مبدعاً حقيقياً، ولم أكن إلا من متلقييه المحبين.
أذكر أنني طلبت صداقته على صفحته على الفيسبوك، ولكثرة معجبيه لم يكن هناك مكان شاغر، فطلبت منه في رسالة ودودة على الخاص، أن يفسح لي مكاناً بعد أن عرفته بنفسي، فرد على الفور بكل ترحاب، وتفضل فاستأذنني في بعض الوقت، حتى يستبعد بعض المتواجدين على صفحته متطفلين غير متفاعلين، وكان الحظ قد أسعدني بتحيته عن بعد أكثر من مرة، سمحت بها لقاءات الصدفة في وسط البلد، المكان الأثير لأمثاله من المبدعين وأمثالي من المريدين، ولم أجده في كل مرة إلا البشوش المبتسم المرحب الودود، لا يسري في روحك حين تراه، إلا ذلك الإحساس النادر الآن، إن الدنيا لسه بكل خير.
ارتباط مكاوي سعيد بوسط البلد يعود إلى مطلع الثمانينيات، عقب تخرجه من كلية التجارة بسنوات قليلة، حيث كان وقتها دائم المشاركة في ندوات منتظمة تعقد في مقاهي وسط البلد الشهيرة، علي بابا وأسترا وسوق الحميدية، وفيها وجد الفرص الذهبية لعرض محاولاته القصصية الأولى على كبار الأدباء والمبدعين، وقد لاقت استحسان الكبار، مما دفعه بحماس نحو مواصلة المشوار، وكان في مقدمة هؤلاء الأديب الكبير يحيى الطاهر عبد الله، والذي تحمس بشدة لشخص مكاوي وإبداعه، حتى أنه زكى العديد من قصصه وقتها للنشر بالمجلات العربية، وقد تأثر مكاوي بيحيى إلى حد هجرة الأدب والأدباء، والثقافة والمثقفين، ولفترة طويلة من الزمن عقب رحيله.
أربعة عقود كانت كفيلة بأن يؤرخ مكاوي سعيد لوسط البلد، فهو لم يفعل خلالها إلا قراءة الوجوه والأماكن ولم يجدها في مجملها إلا بقيمة المقتنيات، فكان مؤلفه الشهير (مقتنيات وسط البلد) الصادر عن دار الشروق عام 2010، كتابان في كتاب واحد، أحدهما يحكي عن البشر، والآخر يحكي عن المكان، الأول تقرأ فيه عن مجموعة شخصيات من ذوي الوجوه المألوفة في جلسات المثقفين أو على أطرافها، بعض هذه الشخصيات كان موهوباً وفضل الصعلكة على الموهبة، وبعضهم تكسرت طموحاته بيده أو بيد غيره فانطوى على نفسه أو أصابه الجنون أو مات أو ابتعد، وبعضهم آثر السكينة وظل يغرف من حكمة الحياة الصافية.
والثاني يحكي فيه مكاوي عن مقاهٍ ومطاعم وبارات ومنتديات ثقافية نشطت في وسط البلد في منتصف السبعينيات وأوائل الثمانينيات، أماكن منها ما يزال قائماً يحتفظ ببريقه، ومنها ما انسحب تماماً من الصورة بعد أن أزاحته محلات الأحذية أو الوجبات السريعة، ومنها ما تدهور حاله، وإن ظل محتفظاً باسمه ومكانه، هناك يرصد الحكاء البارع تاريخ هذه الأماكن، والحكايات التي دارت وتدور فيها وحولها، فتقرأ عن جروبي وريش والنادي اليوناني وأسترا وعلي بابا وقهوة الحرية وستلا وإستوريل والكثير غيرها، هكذا قدم لنا الناشر تحفة مكاوي سعيد (مقتنيات وسط البلد)، قبل أن يبخل علينا بإعادة طبعه حتى أنك لا تجده الآن إلا صدفة!!.
ولإنه من جيل السبعينيات، كان لابد وأن يسجل مكاوي سعيد ملحمة انزلاق هذا الجيل من الحلم إلى الكابوس، وسقوطه من أفق الثورة التي انطوى عليها، إلى حفر الضرورة التي انتهى إليها، ماضياً في طريقه المحتوم إلى الكارثة الفردية والجمعية للهزيمة التي دفعت بطليعة هذا الجيل إلى النهاية المأساوية التي انقلب فيها كل شيء رأساً على عقب، تقرأ روايته الأشهر (تغريدة البجعة)، فتجد البطل حين يسترجع حياته لا يجد فيها سوى السقوط، فقد صالح حيث لا مجال للمصالحة، وباع حلمه القديم بدنانير النفط فما ربحت تجارته، وجاءه السهم من ألف خلف، وفقد كل من كان يمكن أن يصاحبهم في طريق الخلاص.
هكذا صدر الناقد الأدبي د. جابر عصفور الرواية التي أخذت مكاوي سعيد إلى سباق جائزة البوكر العربية، وفيها رأى البطل في أيامه الأخيرة كالبجعة في أيامها الأخيرة، حين تستشرف الموت، فتتجه إلى شاطئ المحيط، وتنطلق في رقصتها الأخيرة، وتغرد تغريدتها الوحيدة الشجية ثم تموت.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. كيف حال المبدعين معك وفي ملكوتك يا الله؟!.. مثل مكاوي يأخذ الله بأيديهم برفق، ولهذا أعتقد أنه غادر وسط البلد مودعاً في هدوء، وإن لم يمنحنا الخالق فرصة وداعه، مكاوي لم يكن في حياتنا إلا عدة مرادفات للبهجة، ومع ذلك لم ينس فعلمنا أن البهجة لابد وأن تحزم يوماً حقائبها.
أعود إلى رواية مكاوي الأخيرة، أن تحبك جيهان، وأتأمل آخر صفحاتها (شكر وتقدير)، والتي شكر فيها بعض قرائه ممن تطلعوا لقراءة رواية جديدة له، ثم شكر أصدقاءه وأهله الذين تحملوا ارتباك مزاجه في فترات الإبداع، ووجه شكراً خاصاً جداً لبعض أصدقائه من الفنانين الذين عاونوه في فك رموز بعض المعارف الفنية التي تطرقت إليها الرواية، كما شكر بعضاً من قرائه السابقين بالاسم ممن صاروا يقيمون عنده في منزلة الصداقة والمحبة، وأخيراً شكر الدار المصرية اللبنانية ناشر الرواية، وأجدني أهمس بأنها مثل تغريدة البجعة، لم تكن إلا تغريدة مكاوي الأخيرة، رحل مكاوي سعيد بهدوء صادم، ولكن مثله يبقى الحاضر وإن غاب.