يحيى حقى: الريحانى.. هذا الوافد الذى سخر بنا

الإثنين، 20 نوفمبر 2017 10:52 ص
يحيى حقى: الريحانى.. هذا الوافد الذى سخر بنا
يحيى حقى
"نقلاً عن العدد الورقى"

أود قبل كل شىء، أن أفرغ من الاعتراف بحقيقة لا يجادل فيها إلا أحمق أو مريض، وهى أن الرِّيحَانى كان ممثلًا هزليًا عظيمًا تجلّت فيه تلك الموهبة الخاصة، التى يسميها أهل المسرح «موهبة الحضور »، فلا يكاد صاحب هذه الموهبة، يظهر على المسرح، وقبل أن ينطق بحرف أو يأتى بإشارة، حتى يستبدّ بالنظّارة، ويجذب إليه قلوبهم ووجوههم وعيونهم وآذانهم، فتنبسط أساريرهم، وتطيب نفوسهم، ويزول عنهم الهمُّ والغمُّ، ويتعالى الضحك والقهقهة، بل قد يضحكون لقول لا يسمعونه وسط الضجّة، وقد يسأل أحدهم جاره بعد ذلك عن النكتة، التى فاتته وضحك لها، لينطق هذا الممثل بما شاء له من السخافات، وليأتِ بحركات مبالَغ فيها لا يستلزمها دوره، بل يكرر هذا ليلة بعد ليلة، مسرحية إثر أخرى؛ فهيهات له أن يصرف النُّظَّارَ - أيًّا كانوا- من الضحك، بل لعلهم ضحكوا، وهم يشترون تذاكرهم، هذا نوع من العشق والوَلَه يعلو عن كل منطق متزمّت أو تحليل ممرور.

 يكفى أن هذا الرجل يسعد الناس، والسعادة نادرة، فماذا تريد أكثر من ذلك؟! والشعوب كلها تتشابه فى الخضوع لهذا السحر، تشابهها فى الحاجة إلى الضحك، والترويح عن النفس، فقد شاهدت هذا الجو المرح فى مسرح الممثل التركى «ناشد »، ومسرح الممثل الإيطالى «مسكو»، كما لمسته فى مسرح الرِّيحَانى، وله الفخر، وكذلك فى مبدأ مسرح الكسّار.
 
لكن هناك فرْقًا شاسعًا بين القول إن الرِّيحَانى ممثّلٌ عظيم -وهو ما لا نجادل فيه- وبين القول إن فنه خالد لأنه فن مصرى خالص صادق، قد انبعث من قلب مصر، ودل عليها، وترجم عنها وأرّخ لها، وأن الرِّيحَانى هو مصر، ومصر هى الرِّيحَانى، أو كما قالوا «لون الرِّيحَانى».
 
ولا أريد أن أتحدّث عن منشأ الرِّيحَانى، وعشيرته التى ينتمى إليها أصله، وقدرتها على الاندماج فى مصر، أو قدرة ثرى مصر على استيعابها؛ فقد أصدر شعب مصر السخىُّ الكريمُ حُكْمَه، فلا نقض له ولا استئناف- ارتضى أن يحتضن الرِّيحَانى، وأن ينزله عنده منزلة الأبناء؛ شأن النبيل المضياف، الذى يفتح باب بيته ورزقه على الله.
 
ولكن هذا لا يمنعنى من أن أرى فى ازدواج الرِّيحَانى بين الأصل والمصير، مفتاح ألغاز حياته، وتفسير شخصيته، وأجزم- وليس فى يدى دليل سوى شعورى- بأن الرِّيحَانى عاش طيلة حياته، يشعر بفارق مكتوم بينه وبين المصريين، وهذا سر وحدته الملحوظة فى حياته العامة والخاصة.
 
أما إذا قال أنصاره، إنه كان إنسانًا فوق الأوطان، وفوارق الشعوب، فهذه مسألة أخرى. فأصدق وصف للريحانى إذن أنه كان من أدنى طبقات المهاجرين إلى الشعب المصرى، وأسهلهم اختلاطًا به، وأكثرهم فهم لعاداته وعجائب طبعه. وإن أردت دليلا، فإنى أنَبِّهك إلى أن أول إعلان أذكره عن فرقة الرِّيحَانى من تلك الإعلانات الطويلة، التى تلصق على الجدران، يُتَوِّجُها اسم الفرقة مكتوبًا على هيئة قوس باللون الأحمر: «فرقة الرِّيحَانى، فرانكوآراب »، آى والله هكذا آراب!. وخُذْ بالك من كلمة فرانكو!. وهذه دعوة صريحة لجمهور الليفانتيين لحضور هذه المسرحية، ومعهم أيضًا أنصاف المتعلمين المترددين بين الشرق والغرب؛ لا علموا عِلْمَ هذا، ولا عِلْمَ ذاك.
 
وسنرى أن جمهور الليفانتيين ظل مخْلصًا للريحانى إلى نهاية أيامه، ولعلى لا أخطئ إذا زعمت أن فرقة الرِّيحَانى ولدت فى العهد، الذى كانت أغنيته الشائعة على لسان الشعب «البيه والهانم عاملين أبونيه، قص الشعر ده لزمته إيه»، وهى كافية فى الدلالة على حركة التفرنُج، التى كانت بعض مظاهر ذلك العهد.
وكان يُقال إن مصر تتمتَّع حينئذٍ برخاء كبير، وزاد الطلب على القطن وارتفعت أسعاره، وجاء العمدة المصرى بقطنه إلى البورصة، وتلقّفه السماسرة، ليخطفوا قطنه ويسوِّقوه إلى ما وراء البحار، فيُغزل ويُنسج، أو يُنتفع به فى أمور كثيرة، هى من أسرار غلبة الغرب على الشرق، ثم يُعاد بعضه ويُباع لنا بأغلى الأسعار، وماذا نال العمدة المصرى لقاء ذلك؟ ورقًا مطبوعًا، يُقال إنه نقد قانونى، يُعطى له عن علم ويقين بأن هذا العمدة، ليس له من الخبرة أو التجربة ما يمكنه من صرف هذا النقد فى أوجه النفع، أو حتى من ادِّخَاره ليوم أسود. وأىُّ فرق بين استلاب القطن فى تلك الأيام، وبين استلاب البترول فى عصرنا هذا؟.
 
وكان لا مفرَّ من أن يبعثر العمدة الفلاح مالَهُ فى اللهو والعبث، هذا العمدة هو موضع سخرية سماسرة القطن وأشباههم فى النهار؛ فلماذا لا يكون هذا العمدة موضع لهو وتسلية بالليل، وأمام مَنْ؟. أمام جمعٍ أغلبه من هؤلاء السماسرة أنفسهم وأشياعهم، والمخدوعين وراءهم. وهكذا وُلِدَتْ شخصية «كشكش بك، عمدة كفر البلاص». هل كان كِشْكِشْ بك موضع رثاء أو عطف؟. كلا؟. كان كالمهرج الذى يصفع على قفاه فى مهازل أولاد بعجر، ويخرج النظارة، وهم موقنون بأن كشكش بك، الذى نال من التهزُّؤ والصَّفْع على القفا ما نال، لا يزال يرى نفسه سعيدًا بلهوه وعبثه بين فريق الراقصات العاريات ممّن لا يعرفن من العربية إلا «هات»، وهو لا يرطن إلا بكلمة «خُذِى »، يكاد ينطق وجهه بأنه صرف عليهن كل ماله، ولم ينل منهن شيئًا، هذا هو كشكش بك، عمدة فى قفطان، له لحية طويلة، كل سحره فى صوت أجش، وشبق عينيه، وتلعيب حواجبه، وهو دائخ وسط شلة الراقصات.
 
وكُتِبَ لهذه المسرحيات الاستعراضية الرخيصة- وهذا من مفارق الحياة- أن تكون من غير قصد ازدهارًا لموهبة مصرية صميمة، موسيقى سيد درويش، كان تجديده أن يجعل اللحن تصويريًّا، فهو يريد أن يكون فى نغم السقّائين صدى نداءاتهم، وفى نغم سائقى العربات كذلك وقعُ سياطهم، وهكذا.. فكانت هذه المسرحيات وما تتضمّنه من استعراض لمختلف طوائف الشعب مادَّةً طيِّبَةً، يبرز فيها فنه الجديد، وبفضل ألحان سيد درويش وحدها- لا بفضل تلك المسرحيات- دار اسم كِشْكِشْ بك على كل لسان، ودخل كل دار.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق