د. فتحي العفيفي يكتب: قاهرة الإنفتاح في وثيقة الإنغلاق الجامعة
السبت، 18 نوفمبر 2017 06:57 م
في نوفمبر 2017 اعتمدت جامعة القاهرة "وثيقة التنوير" بوصفها من أعرق الجامعات العربية والإسلامية.. وعليها دور مجتمعي تريد أن تضطلع به في خضم الأزمات الراهنة والمرحلة المفصلية، والمنعطف الخطر الذي تمر به مصر والمنطقة بأسرها، وهي مركزاً من مراكز العقلانية والإستنارة، وتأسست بعض كلياتها المختلفة منذ عهد محمد علي، كالمهندسخانة، والمدرسة الطبية عام 1827م، ومرت بمراحل الجامعة المصرية 1908م، وجامعة فؤاد الأول 1952م، ثم انطلقت وملأت الدنيا إشعاعاً ومعرفة في كافة التخصصات.
في البداية.. وجب التنويه إلى أن "العقلانية" كمذهب وتيار فكري، شئ بديع ورائع، وهي جوهر كل تقدم، وأساس كل تحضر، لكنها في الوقت نفسه مراوغة، مخادعة، وحمالة أوجه، وأحياناً كثيرة مجنونة، وخرفة.. وتأتي بنتائج عكس كل ما يرتجى منها... فبأسم العقلانية خرجت الفرق والمذاهب، والحركات الهدامة عن إجماع الأمة، واعتزلتها، وباسم العقلانية ذهب المتطرفون إلى الإنتقائية، والتأويل الخطر للنصوص والأحاديث، وباسم العقلانية اجتهد الغلاة، وانحرفوا بالفتوى، وقروا، ودبروا، وقتلوا "وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً"، وباسم العقلانية ورغبتها الملحة في اجتثاث الماضي، أيقظ دعاتها المارد بدلاً من أن يهزموه.. نعم العقلاني يفكر ولا يكفر، ومن يكفر لا يفكر، ولكن العقلانية كشعلة الإستنارة –تماماً بتمام- يمكن أن تنير الظلام، ويمكن أن تحرق الأنام...!!! ومن ثم وجب أيضاً التعليق على هذه الوثيقة الجامعة لتواجه أول اختبار في تقبل العقل النقدي الذي تسعى هي إلى تأسيسه على النحو التالي:
أولاً: غلبة الطابع الإنشائي الشكلاني البراني على مصطلحات ديباجة وبنود الوثيقة، بطريقة قشرية كلامية "تعكر ولا تصطاد" وتمحورها حول فكرة واحدة أساسية وجوهرية لا تتغير مؤداها: "أن التنوير ممارسة عقلانية تقترن بالجرأة على استخدام التفكير النقدي، وتأسيس تيار عقلاني عربي مقاوم للإرهاب والتطرف" وكأنها: (1) قد تأسست على هدف واحد محدد هو محاربة التطرف والفكر الإرهابي، وما هكذا أبداً يكون التنوير... (2) أنها لم تأخذ في الإعتبار كل التراث المصري والعربي والإسلامي (المشروعات – الأفراد) التي يضج بها الفكر العربي المعاصر، وتدعي حق ليس لها أن تدعيه "التأسيس" لتيار عقلاني ... (3) لم تشر من قريب أو بعيد إلى من قتلوا في سبيل عقلانيتهم من المؤسسين، ولا من تم تكفيرهم، أو تهجيرهم.
ثانياً: لي "الوثيقة على نفس الطي"، تكرار المتكرر.. وإعادة إنتاج ما أنتج، وسبقها إليه العديد من خزانات التفكير العربية، وقطعوا فيها أشواطاً بعيدة المدى والآفاق يتضاءل أمامها مثل هذا المشروع المقترح، ولا تطال قامتها مثل هذه البداية الضعيفة الخجولة المستأنسة والتي لا تخرج عن كونها تعليمات، تنبيهات، إرشادات كتلك التي ربينا عليها ونحن أطفالاً، وكنا نجدها خلف الكراسات التي نستخدمها في كتابة درس القراءة الأول، والتي تطورت فيما بعد في عصر الجودة والإعتماد ونجدها مضمنة في "رسالة الجامعة"، و"أهداف الجامعة"، عن "الديمقراطية"، و"الهوية"، و"المواطنة"، و"بناء الشخصية"، و"البعد عن الحفظ" و"الأخذ بأسباب العصر"، و"تنمية المهارات والقدرات"، و"الإبتكار في أساليب التعليم والإمتحانات".
ثالثاً: عدم التركيز فيما كتب على نحو ما كتب.. أمرٌ فيه استسهال، وتبسيط مخل، واستعجال.. ولم تدخل الجامعة في حوار مجتمعي على تنوع التخصصات واختلافها، ولم تستطلع رأي شقيقاتها من الجامعات الأخرى، ولا الهيئات الثقافية الفاعلة، ولا المؤسسات الدينية.. لم يتم إنضاج الفكرة بالقدر المطلوب، ولا الإعداد لها بالحيثيات الواجبة، وهي التي تنمي روح الفريق في البحث العلمي، وتعلم الناس التعاون والتشارك، وهذا ما يعيق إمكانية الاستفادة منها.. وأن تقسيم الجامعة إلى أجيال ثلاث دون إبراز التميز النوعي والفوارق الجوهرية في كل مرحلة عن الأخرى في البناء الهرمي الهيراركي وأن في المراحل الثلاث تم تكرار مسألة "نقل المعارف وتطوير البحث العلمي، والأخذ بأسباب التقدم من متطلبات عصر التنوير والحداثة" إدعاء لجديد لا وجود له على الإطلاق.. هذه هي رسالة الجامعة ودورها منذ قرن من الزمان....!!!
رابعاً: ... ممارسة الإنغلاق بداعي الإنفتاح.. وهذا أمر متحقق في كل بنود الوثيقة، ولا يسمح بالإختلاف من حيث مطالبتها بذلك.. ففضلاً عن روح الوصاية على العقل المصري التي تنضح بها الوثيقة.. قد اقتصر البيان التأسيسي على شريحة بعينها من الناس دون العناية بمراعاة التخصصات العلمية المختلفة الفاعلة والرئيسة، وعلى لون واحد من المعرفة وهو "العقلانية في مواجهة الإرهاب" وانصراف الجامعة بالمطلق إلى هذا الجانب، وتيار فكري واحد دون باقي التيارات، بما يحيلها إلى وثيقة منغلقة من حيث إدعاءها الإنفتاح.
خامساً: ... تأكيد ما هو مؤكد يبعث على التشكيك في الثوابت والمرتكزات من جديد.. وهو ليس بذلك الشك الديكارتي الموصل إلى اليقين.. وإنما هو من ذلك النوع الباذر للفرقة والإنقسام والمولد للتشتت والتيه، على عكس ما هدفت إليه الوثيقة التي لم تراعي البناء على كل ما سبق وتعمدت إلى الإنكار، وكأنه لم يكن هناك شيئاً قبلها.. وتملكتها الشوفينية الضيقة المحدودة بحدود "الجامعة .. ومكافحة الإرهاب".. كل بنود الوثيقة – تقريباً – فيها وبها نزوع مفرط إلى الذاتية، والأنانية، وتأكيد لاكتشاف ما هو مكتشف، وتأسيس ما هو مؤسس، وادعاء بناء للنسق المبني منذ عقود، وتعريف ما هو معرف، وتكوين وما هو مكون.. إلى غير ذلك من البناء الهش المهلهل، أشعر بالخجل كأكاديمي مصري حيال مثل هذا المشروع الذي يبسط المبسط، ويجزئ المجزأ، ويختصر المختصر، فيصبح ما تبقى فقاقيع في الهواء لا تحوي أي مضمون.. لماذا طمست الوثيقة أي إشارة ممكنة إلى رموز التنوير، رفاعة الطهطاوي (1801-1827م)، محمد عبده (1849-1905م)، أحمد لطفي السيد (1872-1963م)، ومصطفى عبدالرازق (1885-1947م)، السيد يسن (1919-2016م) وغيرهم، ثم البعد العربي حيث المشروعات الرصينة المعتبرة في التنوير محمد أركون (1928-2010م)، عبدالله العروي (1933- ) محمد عابد الجابري (1936-2010م)....!!!
سادساً:... الخلط الواضح بين ما هو "تنويري" وما هو "تعليمي"، وحصر مشكلة الإرهاب والتطرف في سوء التعليم وتدني برامجه.. وقدم المناهج التي تصنع عقولاً جامدة قائمة على الحفظ والتلقين، ومولده للإرهاب... وهذا كله فضلاً عن كونه كلام قديم لا يقدم جديداً.. نسي معه منشئوه أنهم قد تربوا على هذه المناهج وتعلموا بموجبها ومع ذلك أصبحوا "تنويريون" وإلا من أين إذاً جاءوا بمصابيح الهداية هذه؟.. وأن "سيد قطب" لم يصبح إرهابياً إلا عندما ترك هذه المناهج، وذهب إلى بلاد الأنوار ونهل من علومهم ومناهجهم "العقلانية"، "الإرهاب" ظاهرة أوسع من مجرد تعليم خاطئ.. الوثيقة وضعت المجتمع بين ثنائية لا أساس لها، ومزدوجين لا يستويان دليلاً مقنعاً على التأخر، ووحده التعليم لا يقيم أعمدة أساسية وجوهرية لمن يروم التقدم.. التعليم فاعل من الفواعل، مؤسس من المؤسسات، وهو المرتكز، لكن ليس الفاعل الوحيد كما ذهبت إلى ذلك الوثيقة التي تحدثت عن ما تفهم هي فيه.. وكل ما قيل عن المواطنة والتعايش وغير ذلك لا يتأتي بالتعليم وحده، المنتديات الثقافية، المجتمع المدني، دور العبادة، مؤسسات الإستنارة المختلفة.
سابعاً: .... غاب عن الوثيقة بالمطلق مصطلح "النهضة" و"النهوض" و"الإستنهاض" وهذا ما كان يجب أن يكون من دعاة الإستنارة.. لا تنوير بدون نهضة.. فهناك عصر كامل يقع ما بين قرنين (14 ، 16) وقوامه ثلاثمائة عام هو عصر النهضة المؤسس لعصر التنوير (1650-1800م)... هرب التنويريون من المصطلح تحت زعم خفي غير معلن.. أنه مشروع رفعته جماعة محظورة قانوناً وهي الإخوان المسلمين عامي 2012/2013م "فحظروا النظرية والمصطلح"، وهذه "ظلامية" و"ردة".. ظلامية عندما يكون لدى التنويري عقدة نفسية انغلاقية لا انفتاحية، ظلامية بداخله تملكته، وأملت عليه تصرفاته، فكيف سينير الطريق للآخرين، و"ردة" فكرية لجهة التسليم بأن هذا المصطلح يخص جماعة في مصر وأتباعها في تونس (حركة النهضة).. ولا يدركون أنه "مصطلح إنساني" رفيع القيمة والشأن، ومنحه إياهم والتسليم بذلك بمثابة منحهم شرف لا يدعوه، وصك من صكوك الإمتلاك وبراءة الإختراع لا يستحقوه.. لا دخل لهم بالنهضة هي مذهب ونظرية تنويرية بامتياز هي الجوهر والعصب والنخاع.. كيف يستقيم العود من دون اللحاء.. ويبقى العود ما بقي اللحاء!!!.. كيف ينهض مشروع التنوير بلا نهضة؟.. كيف إذاً تستقيم الوثيقة وتبدأ عملها وهي أسيرة الإنغلاق والخوف لا تروم الصعود.. وإحداث هبة مجتمعية التي هي جوهر التنوير وأس العقلانية.
ثامناً: ... تعيد الوثيقة "الجديدة" إنتاج القديم .. وتستدعي أصل الخلاف، وجذر المعارك المفتعلة.. وتستحضر الماضي كمتاريس في وجه المستقبل بفعل وتأثير الضجة المثارة عندما تقول: "تكوين خطاب ثقافي وديني جديد يعتمد على التأويلات العقلانية المتعددة، والقراءة العلمية للنصوص الدينية بوصفها البديل عن التفسير الواحد المغلق ووهم امتلاك الحقيقة المطلقة" "بند رقم 2" وإذا لم يكن بالوثيقة سوى هذا البند من ملاحظات، لكان وحده كافياً، وكفيلاً بأن يهوي بها إلى هوة سحيقة.. من حيث أن مهمته الأساسية هي تجسير الفجوة ورأب الصدع، ولم الشمل، كان مستهجناً ومستغرباً أن تكون مهمة الوثيقة النضال ضد الوحدة الوطنية... والتماسك الديني، فهذه دعوة أولاً إلى التفسير من خارج النسق والسياق تضرب بقوة في المرجعيات الدينية (أفراد – ومؤسسات).. ولم يهلك الأمة إلا التفسير من خارج النسق.. وهذه ممارسة عملية لما يعرف بــ"لاهوت التنوير" عندما يدعي التنويري حقه في تحرير الإسلام وأهله من الإستبداد الكهنوتي، وهو يعلم أنه "لا كهنوت في الإسلام".. لم تأتي الضربة من داخل هذا التفسير الواحد المغلق والمدعي عليهم بامتلاك الحقيقة المطلقة.. الضربة جاءت من عقر دار جامعة القاهرة ذاتها (منشأ الوثيقة) من "دار العلوم" "حسن البنا (1906-1949م)، وسيد قطب (1906-1966م)، وعبد الصبور شاهين صاحب أشهر قضية تكفير لـ "نصر حامد أبو زيد 1992م"، وأيمن الظواهري زعيم القاعدة (طب بشري القاهرة، 1970م).. وهذا الجدل .. هو أيضاً عودة إلى نقطة الصفر، واستدعاء لصراع يقتل في سبيله العقلاني "فرج فوده" أو يكفر ويهجر "نصر حامد أو زيد" هو الصراع بين سلطة "النص" أم "سلطة العقل"، وإضاعة لنصف قرن وزيادة من الكفاح ضد "سلطة النص" وبالكاد تجاوزناها... وراح في سبيلها آلاف وملايين من الشهداء، ويصبح من دروب العبث تصميم الوثيقة وإصرارها على البحث عن مفهوم جديد للنص.. وهذا كله إدعاء معرفي لا وجود له.. وقدرة لا تمتلكها جامعة الوثيقة بأكملها... هي تستدعي الفتنة ولا تعرف كيف ستطفئها، فالعقلاني يستدعي حول أفكاره ألف أصولي، في عملية استزراع واستيلاد جديدة للعنف والتطرف، نزع أقنعة التقديس، لا تعني بالضرورة الضرب مباشرة في النص.
تاسعاً: .. غاب عن الوثيقة بالمطلق .. أي إشارة من قريب أو بعيد إلى البعد الحضاري الكوني من حيث: (التفاعل، الحوار ، الصدام) تأثيره على التنوير المنشود .... وهي بذلك تسلك ذات المسلك المعوج في التفكير والكتابة "بالتقيه" وتحيل الجامعة إلى... "مساجداً ضراراً"، مهمتها المباهاة، خشية الصدام، ولم تعترف وتقر بالتنوع الثقافي فهي منغلقة على الذات (مجتمع – وجامعة) ولا تشير أبداً إلى التعدد، والإختلاف، والحضارات الأخرى، ومقارنة الأديان بتكاملها، والأنساق الفكرية العالمية وطرق التعامل معها، والعولمة واشتراطاتها، وكيفية التعاطي مع قوانينها، وانتقال البشرية من منطق "القوة للحق" إلى "الحق للقوة"، ولا العقل الإمبريالي وطغيانه الذي تقول عنه الدولة المصرية دائماً أن المخطط بعيد المدى، والعقل الإستراتيجي، ولا إلى "التدبير في التنوير".. ولا كيفية مواجهة الغارة على القوميات والأديان، هي وثيقة إنغلاقية بامتياز عندما لا تريد أن تذهب إلى العالم وتصر على أن تعيش في جزيرة منعزلة، لم تنبس ببنت شفه عن التحديات الخارجية المحركة لكل ما نحن فيه.
عاشراً: .. التنوير ليس مأزوماً بفعل مشكلة الخطاب الديني فحسب، وإنما هو مأزوم بالتفكير على هذا النحو الأحادي المظهري.. الاستعراضي.. بالتسارع نحو إبراء الذمة.. بالهرولة باتجاه تصدر الصورة والمشهد.. بالإيحاء أننا نفعل ولا نفعل.. بالمشاريع ، والتجمعات التي لا تتجاوز الأوراق التي كتبت عليها... بصراع المؤسسات وإدعاء العقلانية والحداثة بتجاهل المرجعيات في قضية تخصهم بالأساس والجوهر بمحاولات الإقصاء، والسطو على مهمات الغير، بتجاوز التخصصية وامتهان العلمية الحقة، بالمزاحمة على إطلاقية الحقيقة، والنخبوية الزائفة، بتزييف الوعي واستلاب العقول.. بالفهلوة الموجعة عندما تأتي من الكبار.. بالضحك والسخرية حد البكاء المرير على أحوال الناس، باختطاف الوجع واقتناص الألم والاستثمار فيه.. بعدم الرشد والتبصر بالتنوير الحقيقي.. هو عملية معقدة .. التنوير يبدأ بالعمل ولا ينتهي بالأمل.. وأول الأعمال في ذلك الطريق الطويل.. تحرير العقل من سلطة التوجيه على نحو ما جاء بهذه الوثيقة الجامعة القاهرة للإنفتاح.....!!!
* د. فتحي العفيفي أستاذ بجامعة الزقازيق