المتنبى فى مرآة المحمدى
الأحد، 12 نوفمبر 2017 03:00 م
العارف بلهجات العرب الحالية سيقطع أن لهجة عرب مصر هى أقرب اللهجات إلى الجذر الفصيح، وذلك الاقتراب أغرى كثيرين لأهداف شتى أن يتزعموا الدعوة لأن تحل العامية المصرية فى عقول ووجدان المصريين محل الفصحى.
وكان أخطر ما كشف عنه الشاعر الأستاذ طارق هاشم وجود إنجيل تمت ترجمته إلى العامية المصرية.
قال هاشم فى كشفه الذى نشره بمجلة «الحضارة» قبل عام: فى النصف الثانى من عشرينيات القرن الماضى صدر عن مطبعة النيل المسيحية، الكائنة فى 37 شارع المناخ فى مصر كتاب يستحق الوقوف أمامه وتأمل القضية الخطيرة التى طرحها، ألا وهى إمكانية تحويل أحد الكتب المقدسة من اللغة العربية إلى اللهجة المصرية أو «العامية المصرية» وهذا ما حدث مع كتاب «الخبر الطيب بتاع يسوع المسيح».
وأضاف هاشم فى تقديمه للكتاب: وأود أن أشير إلى أن الكتاب قد صدر فى نفس العام الذى صدر فيه كتاب «فى الشعر الجاهلى» أى فى العام 1926، إلا أنه لم يكن محل اهتمام أى من الباحثين، وربما أشارت إليه الصحافة دون تناوله بالدراسة الوافية، كما لم يدلنا أحد على من كان وراء النشر أو إصدار هذا الكتاب أو الدعوة إليه، فالكتاب الذى طبع فى مطبعة النيل المسيحية لم يشر إلى اسم معين قام بإعداد هذه الترجمة أو الإشارة إلى صاحبها.
يتصدر الغلاف فى الأعلى جملة «الخبر الطيب بتاع يسوع المسيح» وبعدها بمسافة ليست قصيرة كتب «الإنجيل باللغة المصرية»، وقبل هذه الجملة كتبت ببنط أقل بنسبة كبيرة «القسم الخامس»، وهو ما يعنى أن هناك أقساما أربعة سبقت هذا الجزء، بعدها تأتى جملة «أعمال الرسل» تفصلها عن السابقة مسافة ظاهرة وذلك فى بنط أكبر وأوضح، ثم يقل البنط ثانية لتظهر جملة «الطبعة الأولانية» ودون تحتها التاريخ «1926»، وفى أسفل الصفحة كتبت عبارة «انطبع فى مطبعة النيل المسيحية بشارع المناخ 37 بمصر»، لتبدأ حكاية الإنجيل باللغة المصرية الذى لم يُذكر اسم صاحبه على الغلاف، تُرى مَن كان صاحب هذه الفكرة؟
يواصل هاشم: «بالرجوع إلى تلك الفترة، يتبين لنا أن الذى كان وراء هذه الفكرة أو المحاولة مهندس مدنى إنجليزى يهتم بأعمال الرى، هو السير «ويليام ويلكوكس» والذى كان من رعاة الكتابة باللهجة العامية أو المصرية».
مقدمة طارق هاشم رغم جودتها إلا أنها لم تتوقف عند صاحب المشروع «ويليام ويلكوكس» ذلك المحتل الغاصب الذى كان لا يمقت شيئًا مقته للعربية، وسواء أكان هو صاحب المشروع أم غيره، فقد جاءت الترجمة آية من آيات الركاكة، واقرأ معى: «بطرس و يوحنا كانوا طالعين ويا بعض للهيكل وقت الصلاة الساعة تلاتة، وكان فيه راجل شايلينه مولود أعرج، كانوا يحطوه كل يوم عند باب الهيكل اللى اسمه الجميل علشان يطلب حسنة من اللى يدخلوا الهيكل، دا لما شاف بطرس ويوحنا رايحين يدخلوا الهيكل طلب منهم حسنة، وبص له بطرس ويوحنا قوى وقالوا له بص لنا وبص فيهم وهو منتظر إنه ياخد منهم حاجة، وقال له بطرس أنا ما عنديش لا فضة ولا دهب ولكن اللى عندى اديه لك. باسم يسوع المسيح الناصرى امشى، ومسكه بإيده اليمين وقومه وحالا اتشدت رجليه وكعابه، ونط ووقف وابتدا يمشى ودخل وياهم الهيكل وهو يمشى وينط وسبح الله، وشافوه كل الناس وهو ماشى ويسبح الله».
ولكن بعيدًا عن نيات المحتلين، ظل حلم الاستعانة بالعامية لتقريب الفصحى إلى ذهن المصرى المعاصر يراود بعضًا من أخلص مدرسى الفصحى ودارسيها بل ومحبيها، ومن هؤلاء الأستاذ الدكتور محمد النويهى رحمه الله صاحب كتاب «الشعر الجاهلى منهج فى دراسته وتقويمه» الذى قام من خلاله بشرح الشعر القديم بالعامية المصرية فهو عندما يفسر قول الأعشى: «تمشى الهوينا كما يمشى الوجى الوحل» يقول: «نحن محتاجون إلى تذكر شخشخة ورجرجة تحية كاريوكا لكى نفهم هذا الكلام».
وعندما يتعرض لقول الأعشى: «صدت هريرة عنا ما تكلمنا / جهلًا بأم خليد حبل من تصل».
يقول: «لا بد من استحضار التعابير الشعبية التالية»: «ما حناش قد المقام؟ عبرونا يا خلايق! الله الله! البنت مش معبرانا يا جدعان و.....».
وقد أحسن الأستاذ الدكتور محمود الربيعى عندما تصدى لتلك المحاولة فى كتابة «من أوراقى النقدية» فكشف تهافتها وأظهر ركاكتها.
والآن نحن أمام محاولة جديدة يحمل أمانتها صديقنا الشاعر الكاتب الأستاذ مؤمن المحمدى.
المحمدى صاحب جماهيرية كاسحة على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، وقد رأى مشكورًا استغلال جماهيريته فى طرح شاعره المفضل، شاعر العربية الأكبر والأعظم، أبو الطيب المتنبى على عموم الجماهير.
المحمدى دارس العربية يحبها ويتذوقها، ثم هو يكتبها عندما يريد كأعذب ما تكون الكتابة، ثم هو عارف بالمتنبى، يكاد يحفظ ديوانه لا يتفلت منه شىء، فليس عن عجز عن الفصحى لجأ المحمدى للعامية وليس عن استهتار بالمتنبى بدأ شرح ديوانه بالدارجة، ولكنه ذلك الحلم البعيد المنال فى الهبوط بالنخبة إلى حيث تراب الشارع.
إن كان مشروع «ويلكوكس» عنصريًا ركيكًا، وإن كان مشروع النويهى استعراضيًا لا يقوم سوى على سرد ذكريات صاحبه الخاصة، بل الخاصة جدًا، فإن مشروع المحمدى لا يمكن وصفه سوى بالمثير، يشرح المحمدى بيت المتنبى: «يَتَرَشَّفْنَ مِنْ فَمِى رَشَفَاتٍ / هُنَّ فِيهِ أَحْلَى مِنَ التَّوْحِيدِ» فيقول: «بدأنا التجديف أهو، البيت دا فيه تجاوزين، اللى بيتضايق ما يقراش.
يترشفن = يشربن، بس مش بالظبط يشرب، عارف إنت شفطة الشاى، سسسب، أهى دى رشفة.
هو بـ يقول: النسوان دى بـ ياخدوا شفطة من بقى، لا شفطات، يعنى لا مؤاخذة، زى الفرنش كيسس، أو البوسة المشبك.
الشطر التانى، هن «عايدة على البوسات دى، الشفطات دى، فهن فى فمى، البوسات دى فى بقى أحلى من التوحيد، أحلى من كلمة لا إله إلا الله، حاجة مقدسة يعنى، طبعا البيت دا من الحاجات اللى عملت مشاكل لـ المتنبى، واعتبروها تجاوزا وتجديفا، وناس ردت وناس ردت ع الرد، ودا هاجم ودا دافع، ودا وقف جون، بس فـ الآخر، هو دا المعنى إن البوسات دى حاجة حلوة أوى أوى يعنى».
انتهى تفسير المحمدى لبيت المتنبى، وهو للإنصاف قد شرّح البيت أوفى تشريح، حتى إنه أشار لما فيه من جرأة على المعنى المقدس، وبعضهم لكى يرفع الحرج عن المتنبى قال إن «التوحيد» الوارد فى البيت هو نوع من التمر العراقى، ولكن جرأة المتنبى فى غير موضوع من شعره تشير إلى خطأ تأويلهم.
هل سيمضى المحمدى فى التفسير حتى يفرغ من الديوان الضخم المُرِهِق؟
هل ستربح الفصحى شيئًا؟
هل سيغادر المتنبى جدران المكتبات اللامعة الباردة إلى حيث تراب الشوارع؟
الإجابة ستحملها الأيام القادمة، أما عنى فتكفينى متعة النظر إلى المتنبى فى مرآة المحمدى، وكأنى بالمتنبى يصيح: «الموت ليس من عاداتى».