حياة الشيمى تكتب عن: بروتوكولات نجيب سرور

الأحد، 22 أكتوبر 2017 02:00 م
حياة الشيمى تكتب عن: بروتوكولات نجيب سرور
نجيب سرور

سمعت عنه الكثير وكأنى أسمع سيرة أبوزيد الهلالى أو إحدى الشخصيات الأسطورية فى الملاحم الإغريقية القديمة.. وتمر السنوات وحواديت البطل التراجيدى تتزايد حتى التقيته على باب أتيليه القاهرة وجدت رجلا وسيما يفسح لى الطريق لأمر، كان فى الأربعينات من عمره يتصرف بذوق ورقة، دلفت داخل القاعة الشهيرة التى يلتقى بها المثقفون والفنانون وكان زوجى فى انتظارى

ظل نجيب سرور يتابعنى بنظراته بفضول من يريد أن يتعرف على هذا الوجه الجديد، فجاء خلفى وصافح زوجى الذى سارع بتقديمى إليه حياة زوجتى، جلس معنا وتابع أحاديثنا ثم أراد حلمى أن يشركه فى الحديث فقال له على فكرة حياة طالبة عندكم فى معهد فنون مسرحية فأجابه سريعا «المهم ما تكونش زيك» والتفت إلى قائلا «عاجبك الشعر الغامض اللى بيكتبه حلمى سالم وجماعته؟ دول ماشيين ورا واحد اسمه أدونيس بوظ دماغهم وبوظ الشعر، ده شغل صهاينة عايزين يقضوا على لغتنا وفننا وهويتنا ويدخلونا فى حارة سد». هكذا كان لقائى الأول بصديقى وأستاذى نجيب سرور، الشاعر والمخرج والمؤلف المسرحى. والممثل والناقد الذى لم أر أحدا فى صدقه وصراحته كفنان وإنسان ومناضل سلاحه الكلمة. كان لقاء عاصفا بحق ولكنه ليس مفاجئا لى فقد كان كما وصفوه تماماً، يملأ المكان ضجيجا ومرحا ومشاغبات مع الحاضرين ولم ينج منه أحد سواى، فقد كان نجيب سرور رحمه الله يعامل المرأة برقة ودماثة. وظل بهذه الحيوية التى لم تنطفئ إلا فى أوقات مرضه الأخير، وكان كلما قابلنى ناقشنى فى العداء لإسرائيل كان مؤرقا بالقضية الفلسطينية وكارها لكل ما له صلة بهذا الكيان الصهيونى. 
لم تسمح لى الظروف بمشاهدة كل أعماله لذلك تلقيت بسعادة دعوته لحضور آخر مسرحية «أوكازيون» التى لعب بطولتها من إخراج د.ليلى أبوسيف وعرضت فى وكالة الغورى وكالعادة تعرضت هذه المسرحية لحرب ككل أعمال نجيب سرور، وتوفى بعدها بوقت قصير بعد رحلة طويلة مع المرض والقهر والحرمان والمقاومة، حرب لم تتوقف حتى رحيله. ورغم الحياة القاسية التى عاشها نجيب سرور منذ ولادته -فى 1 يونيو 1932 فى قريته الصغيرة والفقيرة أخطاب- والتى عبر عنها فى كل مسرحياته وقصائده العامية والفصحى، وكانت القرية ترسل أبنـاءها إلى المدارس الحكومية المجانية المكتظة بالتلاميذ يتعلمون فيها بشروط بائسة ومعاناة يومية للوصول للمدارس البعيدة عن القرية خاصة فى المرحلة الثانوية حيث يتلقون القليل من العلم والمعرفة ولا يبرع فيها إلا فتى موهوب مثل سرور مولع بالتعلم حاد الذكاء ومرهف الإحساس ونافذ البصيرة، يتلقى بشغف شتى العلوم وفنون الشعر والأدب والنقد خلال الدراسة الثانوية وهى مواد كافية لخلق شاعر وفنـان ثائر تحدى الظلم وهو يراه بعينيه منذ طفولته. حيث عاش حياة البؤس والحرمان والاضطهاد من بقايا ملاك الأراضى للفلاحين الغلابة مما خلق منه إنساناً متمرداً على كل أشكال السلطة. فكتب نجيب سرور قصيدته «الحذاء» عام 1956 وهى قصة تعرض والده للإهانة والضرب أمامه من عمدة القرية الذى أسماه سرور «الرب» وكان ظالما قاسياً يتحكم فى أقوات الفلاحين وفى حياتهم، وصف ذلك بكلماته فى هذه القصيدة: 
أنا ابن الشقاء
ربيب (الزريبــة) والمصطبــة 
وفى قـريتى كلهم أشـــقياء 
وفى قـريتى (عمدة) كالإله 
يحيط بأعناقنــا كالقــدر 
بأرزاقنـــا 
بما تحتنــا من حقول حبــالى 
يـلدن الحيــاة 
وذاك المســاء 
أتانـا الخفيـر ونـادى أبى 
بأمر الإلـه! ولبى أبى 
فامتلأ قلبه بالمرارة والرفض لكل هذه الطبقة بسلوكهم غير الإنسانى تجاه الفلاحين الفقراء والمعدمين. وأدرك سرور أهمية الكلمة لذلك ترك دراسة الحقوق والتحق بالمعهد العالى للفنون المسرحية حيث حصل على الدبلوم عام 1956. وامتد نضاله بالكلمة من الشعر إلى المسرح حيث المجال أكثر رحابة لتوصيل رسالته، وبدأ رحلة كفاح من أجل كشف الحقيقة وتقديم الواقع بلا رتوش وتعريته فى محاولة دائمة لتحقيق العدالة المنشودة والبحث عن طريق للحرية. وسافر إلى موسكو فى بعثة لدراسة الإخراج وواجهته المشكلات ولم ينه دراسته وأصبح معارضا سياسيا فى الخارج وسحبت منه البعثة. ورغم أنه كان منتمياً للفكر التقدمى ولكنه اصطدم هناك أيضا بالحزب الشيوعى السوفيتى الحاكم وهرب إلى المجر، وهاله ما كان يحدث فى مصر والأردن من بطش للمثقفين الشرفاء الذين امتلأت بهم سجون البلدين فكتب البيانات وألقى الخطب الحماسية وهاجم النظامين فكسب ثقة ومحبة يساريين من بلدان الشرق الأوسط فأحاطوا به وساعدوه لحل مشكلته الدراسية فسافر إلى المغرب وحصل على منحة حزبية أممية، وهناك كتب نجيب سرور دراسات نقدية ومقالات ورسائل وقصائد نـشر بعضها فى مجلات لبنانية. وعاد سرور إلى مصر وكان قد اضطر لترك زوجته ساشا وولديه شهدى وفريد فى موسكو وافترق عنهم لسنوات.. سنوات جديدة من الضياع والحرمان فرقته عن أسرته. وعمل مدرساً «بالقطعة» فى المعهد العالى للفنون المسرحية ربما ليسهل طرده إذا نشأت بينه وبين الإدارة خلافات وهناك تعرف على زوجته الثانية سميرة محسن فزادت محنته الإنسانية ومعاناته التى لازمته بقية حياته. وعانى نجيب سرور كثيرا من التضييق عليه فى الكتابة ولكنه رغم ذلك لم يتعرض لأى ملاحقة أمنية ولم يحل نزيلا بالسجون التى كتب عنها: 
«يا حارس السجن ليه خايف من المسجون، هى الحيطان اللى بينا قش يا ملعون، ولا السلاسل ورق ولا السجين شمشون». 
فقد أصبح من أعلام المسرح العربى المعاصر وشارك فى الحياة الثقافية ساعدته فى ذلك مواهبه المتعددة، ورغم ذلك تعرض لما هو أسوأ فقد اتُهم نجيب سرور الملقب بـ «شاعر العقل» بالجنون وحل ضيفا أكثر من مرة على مستشفيات العلاج النفسى والعصبى وكانت إحدى هذه المرات بمستشفى العباسية حيث أخضعوه للعلاج المكثف ولجلسات كهرباء وصفها سرور بأنها كانت جلسات تعذيب وعمل غسيل مخ له. ورغم ذلك لم يتوقف عن الكتابة بل إن أكثر أعماله الشعرية والمسرحية شهرة كتبها وهو نزيل هذه المستشفيات والعديد من مقالاته النقدية كتبت فى نفس المكان ويمكننا القول أن لا شىء ولا أحد استطاع أن يمنع نجيب سرور عن الكتابة فاستمر إنتاجه تحت وطأة كل الظروف. 
كان من أكثر الناس حساسية ورقة قد يؤثر فيه رؤية عاشقين فيسرح بخياله بعيداً وكأنه يتذكر ويبدأ فى إلقاء قصيدة رومانسية، أذكر فى إحدى الأمسيات أننا كنا نجلس فى صالون الأتيليه وفجأة فى لحظة «روقان» قرر سرور أن يلقى قصيدة «كلمات فى الحب» يقول فيها: 
آمنت بالحب.. من فيه يبارينى 
والحب كالأرض أهواها فتنفينى 
إنى أصلى ومحراب الهوى وطنى 
فليلحد الغير ماغير الهوى دينى 
وكانت مشاهدة نجيب سرور وهو يلقى شعره ممتعة، فقد كان يلقى قصائده كانه يمثل على خشبة المسرح بموهبته الفذة التى لا تقل عن موهبته كشاعر. أخبرنا عنه الشاعر الكبير الراحل صلاح عبدالصبور أنه أول من كتب الشعر الحديث ومع ذلك لا أحد يذكر ذلك. وكان نجيب يتردد على مقهى ريش حيث يجلس المثقفون والسياسيون ورغم الصداقة التى ربطته بمعظمهم إلا أنه اختلف معهم وعنهم فقد كان أكثر نقاء وعفوية وألف عنهم قصيدته الشهيرة «بروتوكولات حكماء ريش» وعرفه سرور: (مقهى ريش أحد ملتقيات المثقفين والأدعياء بالقاهرة). 
وتزايدت أزمات نجيب سرور حتى بعد حضور أسرته من موسكو لم تشف جراحه ولعل لحظات تحققه القليلة كانت كتاباته التى لم تتوقف فكتب العديد من المسرحيات الشعرية من بينها «يا بهية وخبرينى» أخرجها كرم مطاوع، و«ياسين وبهية»، و«آه يا ليل يا قمر»، و« قولوا لعين الشمس»، و«منين أجيب ناس»، و«أفكار جنونية فى دفتر هملت»، وله أيضا مسرحيات نثرية منها مسرحيات « ألو يا مصر»، و«ميرامار» مأخوذة عن رواية نجيب محفوظ قام هو بإخراجها، و«الكلمات المتقاطعة» وقدم مسرحية «الحكم قبل المداولة»، و«البيرق الأبيض»، و«ملك الشحاتين» المأخوذة عن «أوبرا الثلاث بنسات» لبريخت، و«الشحاذ» وكتب وأخرج مسرحية «الذباب الأزرق» فى أعقاب مذبحة أيلول وتم إيقافها، وفى هذه الفترة تقريبا أبدع معلقته الشهيرة (ك.. اميات). كما كتب كثيرا من الدراسات مثل دراسته عن ثلاثية نجيب محفوظ التى نشر فصولا منها فى المجلة اللبنانية (الثقافة الوطنية) عام 1958. وكتب نجيب سرور رباعيات وقصائد هجائية باللهجة العامية المصرية احتجاجاً على الأوضاع بعد نكسة 1967 وعلى تخاذل المثقفين العرب ونفاقهم للأنظمة الموجودة ورفضه للتغيرات المجتمعية التى حدثت من حوله. فتم فصله من عمله كمدرس بالمعهد وواجه مأساة التشرد ولكنه لم يخضع ولم يستسلم وظل ينتج ويبدع حتى النهاية فكتب ديوان «الطوفان الكبير»، وديوان «فارس آخر زمن» عام 1978 ولم ينشرا حتى صدرت أعماله الكاملة. 
ورحل الفارس الجسور فى 24 أكتوبر عام 1978 بعد حياة حافلة بتجارب إنسانية ثرية وعطاء غزير لم ينضب وفى مجموعته الشعرية « لزوم ما يلزم» رثى نجيب سرور نفسه: 
أنا لست أُحسب بين فرسان الزمان 
إن عد فرسان الزمان
لكن قلبى كان دوماً قلب فارس
كره المنافق والجبان
مقدار ما عشق الحقيقة 
قولوا «لدولسين» الجميلة: 
أَخْطَابَ «قريتى الحبيبة»
هو لم يمت بطلاً ولكن مات كالفرسان بحثاً عن بطولة 
لم يلق فى طول الطريق سوى اللصوص، 
حتى الذين ينددون كما الضمائر باللصوص 
فرسان هذا العصر هم بعض اللصوص. 

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق