عذاب فيللينى مدمر كطوفان.. عابر كدخان سيجارة
الأحد، 08 أكتوبر 2017 08:00 ص
ضربة البداية التى نفذها كانت أكثر من رائعة لقد ضمنت له التقدم بهدف مباغت يربك حسابات المنافس.
نحن أمام حفل لحزب عربى حاكم، الحفل مخصص لمقاومة أعداء الأمة وسحقهم بقنانى مسكر « العرق» وبالخطب الرنانة وبأوراق بحثية تشبه إلى حد كبير اختراعات عقيد ليبيا فى كتابه الأخضر الشهير.
طبعًا ثمة نساء فى الحفل سيبرز دورهن بعد قليل، الحفل يقوده الرجل المسئول الذى يستولى على كل أوكسجين القاعة وينفث ثانى أوكسيد الكربون، وعلى الحضور جميعًا استنشاق ثانى أوكسيده!
حضور المسئول يرعب الجميع حتى أنهم يخافون من تحريك أصابع أقدامهم بداخل أحذيتهم.
كل الحاضرين وعلى رأسهم بطل الرواية «مطاع» الذى سيصبح مطيعًا يتحرقون لنسيان اللحظة بالقفز فى قلب لحظة سكر فاجر، ولكن من يجرؤ على طلب الإذن ببدء حفلة الشراب؟!
طلب الحضور من مطيع بوصفه المعالج النفسى الشهير والكبير أن يطلب الإذن، فطلبه، فسمح المسئول فشرب الجميع حتى وصلوا إلى ما بعد السكر، هنا يبرز دور نساء الحفل، فكل واحدة سحبت واحدًا إلى مخدعها، الأمر ليس أمر فاحشة مجانية، إنهم الآن يتخلصون من رعبهم بالسكر والمضاجعة، إنهم يسعون وراء إثبات بقائهم على قيد الحياة ولو فى حالة سكر بين ومضاجعة فاحشة.
«الطويلة» يعرف أن قص القصة يحتاج لتحديد مكانها وزمانها، المكان هو سوريا حتى ولم يذكر الروائى ذلك صراحة فى سرده، هناك قرائن تحدد المكان، بداية من الاستشهاد بصوت صباح فخرى ونهاية بالذكر العابر لسجن «المزة» ومذبحة حماة، أما الزمان فهو عصرنا هذا الذى يبدأ من أفلام فيللينى وينتهى بمؤخرة كيم كاردشيان.
لقد حيرنى «الطويلة» وهو ينسب روايته إلى حذاء فيللينى، واشتدت حيرتى عندما رأيته يكاد يسرف فى ذكر فللينى نفسه والاستشهاد بمشاهد من أفلامه، لم يكسر دائرة حيرتى ما جاء فى سرد «الطويلة» حول أن البطل معرف باسم فيللينى بين أهل مدينته.
الأصل عندى أن «الطويلة» عربى الثقافة وعروبى الانتماء، وقد أجاد عرض ثقافته العربية على مدار صفحات الرواية، فهو يشير إلى مقولة منسوبة إلى عائشة بنت طلحة: «إن الخيل لا تشرب إلا بالصفير»، ويضع المقولة فى موضعها الحق فى بناء الرواية دون إقحام أو استعراض، ثم هو قارئ جيد جدًا لمظفر النواب، حتى أنه يشير إلى النهد الذى كرأس القط، وهى صورة من صور مظفر الفاتنة، فلماذا فيللينى بتغريبه وبغربته عن بناء روائى عربى؟!
عودة إلى زمن الرواية أرى أن «الطويلة» قد أفلح عندما جعل بطله يتقلب بين أزمنته هو الخاصة التى تبدأ من لحظة أن أجبر على التخلى عن اسمه، لقد كان اسمه مطاعًا فأصبح مطيعًا!
ما الذى جعل من مطاع مطيعًا؟
إنها مجرد غلطة!
وبداية القصة أن ضابطًا شك فى سلوك زوجته فأرسل خلفها مخبره السرى الذى عاد ليقول له: إنها تصعد إلى بناية بها طبيب نفسى، المشكلة أن البناية بها أكثر من طبيب نفسى، ولكن لأن بعضهم كُتب عليه الشقاء فقد وقع مطاع تحديدًا بين أنيابهم، رغم أنه لم يلمس يد زوجة الضابط بل لم يكن يعرف بوجودها على ظهر الأرض.
تم القبض على مطاع، وراح الضابط ينكل به حتى جعله مسخًا تحت مختلف أنواع التعذيب، وأمره بالتخلى عن اسمه، وقد فعلها مطاع ليصبح المطيع فى كل شىء ولأى شىء.
لو لم يكن بالرواية سوى حرارة تلك الصفحات الخاصة بتعذيب مطيع لكانت رواية طيبة.
حفلات التعذيب هى النواة الصلبة للرواية، وفى سردها سيبرز وعى الروائى وحيد الطويلة، هو يعرف يقينًا ما التعذيب وما هى آثاره وهو يعرف أنه يؤذن فى مالطة، فتلك البقعة من العالم المسماة بالوطن العربى هى بقعة التعذيب بامتياز، لا يلحق بها سوى ما كان يعرف بجمهوريات الموز فى أمريكا اللاتينية.
قضية التعذيب هى فى حقيقتها مدمرة كأنها الطوفان ولكنها عند الجموع العربية عابرة كدخان سيجارة، مَنْ الذى يهتم بالتعذيب فى الوطن العربى؟!
إنهم أربعة نفر، حقوقى ممول يريد تسديد خانات المصاريف بزعم مقاومة التعذيب أو إعادة تأهيل المعذَبين، أو حقوقى غير ممول يريد نصف الحقيقة لأن الحقيقة الكاملة ستنسف مشروعه، ثم شخص المعُذَب، وهو أحرص الأربعة على عدم مواجهة تعذيبه لأنه إن واجهه سيكون أمامه خيار من ثلاثة، إما الانتقام أو الانتحار أو الجنون، ولأن كل خيار أسوأ من أخيه فهو سيختار خيارًا رابعًا، سيختار السقوط فى هاوية النسيان.
رابع الأربعة هو شخص المعِذِب وهو أحسنهم حالًا لأنه سيدافع عن وجهة نظره دفاع القطة عن بنيها، غير هؤلاء لا يهتم أحد بالتعذيب، بل لا يريد أحد فتح جرح هذا العار القومى الذى يلطخ الجميع.
هنا يبرع «الطويلة» فى تقمص شخصية القائم بالتعذيب ويقدم فصلًا يناطح ما كتبه شيوخ الرواية عن طواغيت التعذيب، طاغية التعذيب لا يرى ولو لثانية أنه يعذب الناس، إنه يحميهم، يحميه حتى من أحلامهم ويحرسهم من كوابيسهم، يحميهم حتى أنه يقتلهم ليخلصهم من عبء الأحلام والأشواق والأمانى، ذلك الطاغية الجبار أذل زوجته عشرين عامًا لم يأتها ولو مرة من حيث أمره الله، الزوجة كانت فرسًا عربية أصيلة فأصبحت بغلة أو كلبة، إنه لم يمتهن أنوثتها أو جسدها لقد مسخ روحها.
الاثنان، مطيع والزوجة، عذبهما الرجل نفسه، وجع مطيع مختلف لأنه لا يعرف له اسمًا ولا هيئة، فقط يعرف صوته، وقد عاش دهورًا على أمل أن يعرف شخص الذى عذبه، فقط مجرد معرفة.
جبار السموات والأرض القاصم لظهر كل طاغية سيجعل الضابط يخرج إلى المعاش، تخيل معى ضابطًا ينازع الله ملكه قد فقد السلطة!
مع فقده للسلطة فقد كل شىء، لقد فقد آلته الجهنمية التى عذب بها زوجته لسنوات، أصبح مجرد رجل يعيش مع قطعة جلد ميتة، هو الآن مع زوجته فى عيادة المعالج النفسى مطيع الذى كان فيما سلف مطاعًا، لقد جاءت به زوجته لتتشفى فيه، لتفضحه، لتبحث عن طريقة جهنمية لقتله، ستفكر فى إغواء المعالج لكى يخلصها منه، ولكن المعالج وقد ضاع فى الإغواء عمره كله، فمن أول لفظ لفظه صاحب الجلدة الميتة عرفه، إنه الضابط الذى عذبه، فلا صوت يشبه صوته ولا نبرة كنبرته.
ليت «الطويلة» واصل تلك المواجهة، لا أعرف سببًا لكى يقطعها ويعود لماضى المعالج ويسود صفحات قطعت جمال السرد بقص قصة المعالج وأبيه مع جارتهما، أرى تلك الصفحات مثل حاجز أعاق التدفق الفاتن.
المعالج الآن على المحك، بيده أن ينتقم أو يعفو، إن انتقم أصبح جلادًا وإن عفا وسما عادت له إنسانيته واسترد الاسم والعنوان والهيئة التى خلقها الله عليها.
فى تلك الصفحات من الرواية يعود «الطويلة» لتألقه حاشدًا كل أسلحته الثقافية والمعرفية ليدلل على صحة الخيار الثانى، ألا تسمح لجلادك بأن يمسخ روحك فتصبح جلادا مثله.
ختامًا لم يصل «الطويلة» بعد، ومن الأفضل له ولنا أن يواصل السعى وراء حلم حفر الاسم فى سجلات الروائيين الجادين.