أمريكا تدفع المليارات لتحقق أكبر استفادة ممكنة من «الوجبة السريعة» إلى «القنبلة الذرية»
الأحد، 24 سبتمبر 2017 06:55 مد. غادة العبسى تكتب من آيوا:
الحكاية دومًا تبدأ بنهرٍ، هذا ما جال بخاطرى عندما أبصرتُ نهر آيوا للمرة الأولى، فى الظلام، وبعد وصولى فى ساعةٍ متأخرة إلى الفندق حيث يقيم ٣٤ كاتبا وكاتبة من جميع أنحاء العالم، تم اختيارهم هذا العام لمنحة برنامج الكتابة العالمى من قِبل المكتب التعليمى والثقافى بوزارة الخارجية الأمريكية بالعاصمة واشنطن، وذلك لمدة اثنى عشر أسبوعًا فى المدينة التى تحمل اسم نهرها (آيوا)..
- إذا احتجتِ إلى سباك فى ولاية آيوا من الأفضل أن تحسن معاملته فلربما كان حاصلاً على الدكتوراة
- ردود الفعل حول حجابى تبدأ بالمفاجأة المختلطة بالدهشة والترقب وتنتهى بابتسامة خفيفة
- فى بلاد العم سام كل شىء ممكن.. تستطيع الترقى من بواب إلى طبيب شهير
حالة غامضة، مشبعة بالقلق تناسب امرأة لا تعرف الكثير عن هذا البلد، ولكنها لا تتسق مع روح الدعابة، التى تركتها على أعتاب القاهرة منذ أكثر من ثمانى عشرة ساعة، وهى تردد أغنية محمد فوزى الشهيرة: آيوالله آيوالله!
امرأة لا تحب الخروج من البيت كثيرًا، وترتبك فى الزحام، امرأة اعتادت أن تقف على خشبة المسرح، لكى تغنى، ولكن دون أن تنظر فى عيون من يشاهدونها، ويستمعون إليها، تهرب إلى «الكالوس» حتى دون أن تنتظر تشجيعًا أو تصفيقًا، هكذا اعتادت أن تفعل عندما تكتب أيضًا!
ولكنها فى غمار الاستعداد للسفر، تقرّر فجأة أن تترك كل شىء عالقىا وتُحضر رواية (حادث النصف متر) للأديب المصرى صبرى موسى لتعيد قراءتها من جديد!
فعلتُ ذلك لأستعين على الأدب بالأدب، وكنوعٍ من التبرّك وأخذ الفأل الحسن من وراء هذا العمل، الذى ربما كتبه صبرى موسى فى أثناء رحلته إلى آيوا عام 1982 –وهو نفس العام الذى ولدت فيه-عندما تم اختياره من مصر للبرنامج ذاته، صبرى موسى تميمة حظ بالنسبة لى، لأن أول جائزة أحصل عليها كانت باسمه، عندما فازت مجموعتى القصصية «أولاد الحور» بالمسابقة المركزية لهيئة قصور الثقافة عام 20١٤!
أبحث بين سطوره عن رائحة البلد، الذى سوف أذهب إليه، ثم توقفتُ عند هذا المقطع: «تبيّن لى أن البنت يمكنها أن تلعب اللعبة مع رجل، ثم تتزوج رجلًا آخر، وأن الوكر يمكنه أن يصبح مسجدًا، وأن لا شىء حقيقى وثابت ودائم، وأن كل شىء يتغيّر بطريقة منظمة دون أن يدرى أحد».
يحذرنى صديقى قبل السفر بعدة أسابيع: لا أتمنى أن يغيروا فيكِ شيئًا هناك!
أقول له: بل أتمنى من كل قلبى لو أن هذه الفتاة تغيرت فعلًا!
هى الآن فى آخر بلاد المسلمين، ولم تكن تتوقع عند مغادرتها مطار القاهرة، وتوديعها لأسرتها، أنها ستتعلم وتفتقد كل هذه الأشياء فى الوقت نفسه! فى الرحلة الطويلة، تركت نفسها لتساؤلات كثيرة: من أين لى فى هذا البلد بسائق أوبر كأحمد، الذى نعتبره الآن فردًا من أسرتنا، يؤكد علىّ أكثر من مرة موعد إقلاع الطائرة وحتمية مجيئه قبل أربع ساعات على الأقل، وأين أجد أصدقاء يدعموننى فى الشدة قبل الفرح وآذان كثيرة تستمع إلىّ وعيون تقرأنى وتقرأ لى؟ أين أجد النعناع البلدى والرياحين والفلفل الحامى والقمح نضع بذوره أنا وأمى معًا فى إصص ونخضب أيدينا بالطمى الأسمر ضاحكتين؟
حاولتُ الهروب بالنظر من نافذة الطائرة، ألعب لعبتى المفضلة القديمة مع السحاب عن كثب، أرسم خيالات ضخمة أكبر بكثير من أحلامى، كلما مررنا فوق بلد تخيّلت سكانها من شكل سمائها وسحاباتها، رأيتُ أشياءً عجيبة، أبطال التاريخ القدامى: رجال كسالى منتفخون يشربون ويضحكون، رأيتهم جاثمين، أبصرتُ تروسًا ضخمة وحشودًا كبيرة من العمّال، مقاصل، حدائق، كلها من الضباب!
أرى الكوخ الأبيض حاضرًا بين الغيمات، والذى طالما زارنى فى أحلامى، واستحضرتُ صورة (ميدورى) المتخيّلة، حيث أراها دومًا فى هذا الكوخ بصحبة طفلة جميلة.
(مَن هى ميدورى؟ سأخبركم)!
أفكّر أننى عندما أصل آيوا سوف أجد لاريب زميلة من اليابان، لا تكف عن الابتسام، ولا تترك الهاتف المحمول من يدها، تتلعثم بإنجليزية متكسرة، حيث أغلب الحروف عصيّة على النطق، مثل أركان الحكاية القديمة العصية على التصديق والنسيان، التى يجب أن تُسرد قبل الوصول إلى لندن، ومنها إلى أرض الأحلام!
وكيف ننسى؟
«إن ثمار سود زاهية نبتت على شجرة الحزن، التى تظلل روحى، ثمار ثقيلة ناضجة، تتدلى داخل قلبى هى التى تجعلنى لا أستطيع».
حادث النصف متر ثانية!
منذ عام تقريبًا، التقطتُ كتابًا آخر لأول مرة بحرصٍ شديد، خشية أن يتفسّخ بين أصابعى، أتعامل مع الكتب القديمة بإجلالٍ واحترام، كأننى أمام جدى أو جدتى، الكنز المتنقّل من الحكايات والأسرار، التى لا يعرفها سوى الأجداد والجدّات، أو كالعملات، التى لا رواج لها، ولا يعرف أحد قيمتها، قطعة «أنتيك» موضوعة بقلة اهتمام بعيدًا عن الأنظار..خبايا الكتب القديمة، بسنواتها العديدة المنهكة، وبصمات أصابع مئات القّراء، حملت دموعهم ولحظات شديدة الخصوصية من البوح. ألصقتُ الغلاف ببقية الكتاب، والذى بدا متماسكًا مع ذلك، أقرأ العنوان فى تعجّب وانبهار، أنا التى لا تُفلح أبدًا فى التقليل من شأن الكتب، التى تود شراءها للتقليل من أسعارها، لا أستطيع أن أخفى سعادتى بكتابٍ أبحث عنه، أو كتاب نادر أوقعته الصدفة فى يدى، وتلك الكلمة تقريبًا لا تتغيّر عند سؤال البائع عن ثمنه، أقولها حتى دون أن أسمع إجابته: «فقط؟»..
بالتأكيد لم تكن مصادفة، فلقد نادتنى «أجراس نجازاكى»، وأراد مؤلف الكتاب بنفسه «بول نجائى»، أحد ضحايا القنبلة الذرية أن يقص على امرأة من دول العالم الثالث حكايته العجيبة. ولا بد لى من أن أعترف! قبل هذا الكتاب، كنتُ أحسب أن الموت بالقنبلة الذرية موتٌ نظيف رحيم لا دماء فيه، تتحول المادة البشرية إلى بخار فى ثوانٍ، وينتهى كل شىء، قبل أجراس نجازاكى، لم يكن هذا المعنى واضحًا فى ذهنى، ومع ذلك كان هذا الموت السريع أهون من حياة- من وجهة نظرى- بعد التعرض لجرعات كبيرة من الغبار الذرى، واللعب فى التكوين البشرى الجينى.. ولكنى اكتشفتُ أنهم ينزفون أعضاءهم! تخرج من أفواههم كتلًا حيّة قبل مفارقتهم للحياة، اللحم البشرى الذى تصوّرتُه يتلاشى إلى بخار فحسب، ينضج ويحترق، تغوص فيه الأيدى كثمار الخوخ، التى أسرف الزمن فى إنضاجها، وأوشكت على أن تفسد، كما يقول بول، أستغرب من ألفاظه الشاعرية فى وصف شىء بشع كهذا..
أحاول استيعاب قذارة هذا العالم، وقتها قطعتُ قراءتى لأبحث عن فيديوهات التُقطت قبل إلقاء القنبلة النووية على نجازاكى، أجد الضباط والقادة والطيارين يوقّعون على جسم القنبلة، يكتبون أشياء بالتأكيد هى أثمن بكثير فى أنظارهم من حياة كل من ماتوا..
إن تلك الكلمات القليلة هى التى قتلت كل هؤلاء الضحايا.. اخترقت أجسادهم وأحرقتها تمامًا مثلما فعل الغبار الذرى.. أظن أن الولايات المتحدة كانت موفقة جدًا فى فهم الحقائق الكونية، تدفع المليارات لتحقق أكبر استفادة ممكنة فى أقل وقت ممكن، بدايةً من منظومة (الوجبة السريعة) وحتى (القنبلة الذرية)، فى الأولى تستطيع أن تقتل البشر ببطء بعد الاستفادة منهم، وفى الثانية بإمكانك قتل بشر لا استفادة منهم على الإطلاق!
أراد بول أن يقول لى شيئًا مهمًا فى البداية، أعترفب أننى لم أفهمه وقتها، ولكن بعد مرور بعض الوقت فهمتُ رسالته، تحدّث عن أبيه (نجائى) الطفل العابث، الذى طُرد من مدرسته وكل المدارس الأخرى فى مرحلته الابتدائية، وكيف أنه ألقى بصنم فى النهر يحترمه اليابانيون ويعبدونه، كان نجائى شجاعًا جدًا كنبىّ، قال الطفل للجمع المستاء والمتربص به أمام النهر:
- انظروا إليه إنه يبتسم فى الماء، لا بد أن غطاسه أعجبه كثيرًا!
كنتُ فى حاجةٍ إلى عملٍ كهذا، أن ألقى بصنم لطالما وقّرتُه توقيرًا اسمه الانتظار.. وشردتُ فى تلك الصورة المريحة إلى حد كبير:
ماذا لو أقلعتُ عن الانتظار؟ ماذا لو قذفتُ به فى النهر مثل ذلك الصنم؟
وبعد سنوات طويلةٍ عمل فيها نجائى مزارعا مع أبيه فى الحقل حتى بلغ عشرين عامًا، هاجر بعدها ولم يعرف أحد أخباره إلا بعد أربع سنوات، لم يكن أحدٌ فى القرية ينتظر وصوله، توقع جميعهم عودة نفس الطفل العابث الفاشل بلا عمل أو مأوى، عاد الطبيب نجائى عندما أقلع الجميع عن انتظاره، محققًا نجاحًا فريدًا من نوعه غير نمطى، فكيف ينجح حارس لدى طبيب مشهور فى دراسة كل كتب الطب لديه، واجتياز الامتحان فيها دفعة واحدة؟! ليترقى من خفير إلى مساعد طبيب، ثم إلى طبيب؟
تمنيتُ لو أننى قابلتُ طبيبًا مثل نجائى، يشخّص الآثار الجانبية للخيبات المتلاحقة، يعزف لى على آلة الشيمازين، ويأخذنى فى جولةٍ لمراقبة الدببة فى قريته، يقول إن علاجى فى النسيان وعدم الاكتراث، يقول أيضاً إننى فى حاجة إلى الخروج من قوقعة التذكارات الحزينة، صارحنى نجائى بأننى بنيتُ أسوارًا عالية تحول دون تحقيق أحلامى، وأنها مرهونةٌ بالتخلّى، وبالاستعداد الدائم لفقدانها بقدر الرغبة فى الحصول عليها، ثم يدفعنى بقوة لأجد نفسى فى قاع النهر بجوار الصنم المبتسم، يصيح نجائى من بعيد ويلّوح:
- اسبحى..حرّكى ذراعيكِ..قاومى الغرق، وكونى مستعدة لحدوثه..
ولكن عمر الطبيب نجائى، ثلاث صفحات فقط، كنتُ قد بدأت خلالها طقوس التخلّى، التى نصحنى بها، شرع بعدها ابنه بول فى سرد قصته، التى هى ذاتها قصة بلاده.. لم تكن ألاعيب الذرة جديدة على بول، حاول جاهدًا أن يقول كم كان الإشعاع قريبًا منه بفضل أبحاثه وتجاربه كطبيب للأشعة فى كلية الطب، وكيف تسببت فى إصابته بسرطان الدم قبل أن تدمر الذرة مدينته (أوراكامى) تمامًا..
حكى بول عن حياته البسيطة مع أسرته، عن ميدورى زوجته، التى لم يشترِ لها كيمونو جديدًا فى أى مناسبة، التى باتت تصنع له بيديها قمصانه ومعاطفه، ميدورى زوجته، التى اضطرت إلى حمله لمقر الكلية عندما عجز عن المشى يوم وردية عمله، كتب عن حلوى المارو بورو اللذيذة، والتى قدّمتها له (ملكة الحوريات) مع فنجان من الشاى الأخضر فى مدينة تاييرا، واضطر إلى تخبئة بقيتها فى مظروف الخيزران الخاص به ليطعمها لولديه اللذين لم يتذوقا تلك الحلوى الشهية من قبل..
لم أكن أقرأ السطور فحسب، ولكننى بتُّ أتأمل حى أوراكامى بكلمات بول، صبيحة يوم الانفجار، الذى تغيّر بعده كل شىء، تستطيع أن تشاهد جبل كوبيرا فى يومٍ صيفىّ بديع، أشعة الشمس تتلألأ فوق حقول البطاطا الوردية المصفوفة، فى الوقت نفسه امتلأت كاتدرائية نجازاكى بحشد من الكاثوليك اليابانيين بملابسهم البيضاء، كان حى أوراكامى هو حى الكاثوليك الوحيد آنذاك فى اليابان، ولَكم عانى هؤلاء من اضطهاد، فلم يكن غريبًا أن يعمّد بول نفسه ويعتنق المسيحية بعد قراءة نظرية من نظريات عالم الفيزياء باسكال..
فى ذلك اليوم لم يكن بوسع أوراكامى، أن تكون أجمل من ذلك، ولا أن يكون أهلها أكثر حماسًا ورغبةً فى الانتصار، فى معركةٍ لا منطق فيها على الإطلاق!
ماذا لو لم تدخل اليابان تلك الحرب؟
ماذا لو تفرّغ الامبراطور العالِم هيروهيتو لأبحاثه المهمة وقضى حياته على خليج ساجامى، يجمع الأحياء البحرية، ليحصل على جائزة نوبل فى العلوم؟!
ربما لم تتحول زهور الأولياندر والميرت والكانا الحُمر فى ذاك الصيف البعيد إلى رماد، ولم تتحول ميدورى، زوجة بول نجائى، إلى بعض العظام المتفحمة الراقدة بجوار مسبحتها وصليبها، كانت ستموت هادئة بعد خمسين عامًا أو أكثر فى فراشها مبتسمة..
لها ابتسامة تشبه زميلتى اليابانية، التى سوف أقابلها فى آيوا! ربما كانت جدتها الكبرى!
ربما انحدرت أيضًا الزميلة الإسرائيلية، التى سأصافحها فوق أرض الأحلام، من جدّ أصاب والدى بدانة دبابة فى حرب ٧٣..
تتردد فى أذنى كلمات صبرى موسى فى حادث النصف متر مجددًا:
«وسرّنى جدًا أن أكون متحضرًا وعصريًّا إلى هذا الحد!»
تذكرتُ كل ضحايا الحروب الدامية عندما فقدتُ ابنتى، التى حملتُ بها، وبتُّ أبحث عن ذلك السم، الذى سرى فى دمى وقتلها، هل هو الكذب، الذى نتنفسه كل ساعة فلم تحتمله؟ أم هو ببساطة هذا الموت المقدس الرهيب، الخوف، الذى لا يمكنك أن تتقاسمه مع أحد، كما قال عبدالحكيم قاسم؟ اكتشفتُ أنه لا سبيل إلى الهروب من كل هذا سوى بالمضى إلى أعلى، أبصرتُ ذلك الكوخ الأبيض، الذى طالما تمنيتُه فى أحلامى، ورأيتُ ميدورى تحتضن ابنتى، وكلاهما يلوح لى من أعلى، من مكانٍ آخر، فكرتُ أنها سوف ترعاها من أجلى حتى أصل إليها، ستعتنى ميدورى بكل شىء، بالأثاث البسيط وزجاج النوافذ وأحواض الزهور، وحتى طلاء الكوخ الأبيض، قبل أن يصيبه التشقق.. سوف تعمل على تقوية قبضتها الصغيرة، وتتسابق معها فى قذف الحجارة فى الماء، ثم تقص عليها حكاية صنم نجائى، تقرأ لها كل مساء وتعلّمها ما فاتها هنا فى العالم البعيد، تعلّمها كيف تحب الموت: بصفته البطل الوحيد الذى يواجه منظومة القتل ببسالة، الموت المقدس الرهيب، الذى يترك الأجساد لتحيا حتى تهرم الأرواح، ويلازم ابتسامهم على وجوههم للمرة الأخيرة مطمئنين لصديق الرحلة الأبدية..
أرجوك عزيزى القارئ لا ترتعب مما سوف أقوله لأننى وجدتُ هذا الكوخ الأبيض، كما اعتدتُ أن أراه فى رؤياى المتكررة كائنًا فى أحد شوارع آيوا الهادئة..
كنتُ مثل بلقيس عندما قالت عن عرشها: كأنه هو!
أطير فوق أوروبا الآن، فكّرتُ فى اثنين سلك كلاهما طريقًا واحدًا فى البداية ثم أخذ القدر أحدهما بعيدًا ليسير نحو مصيرٍ مختلف تمامًا..ولد الاثنان فى شهر نيسان للعام ذاته، على أرض أوروبية، بميول فنيّة وحساسية مفرطة تجاه الطبيعة، أحدهما تربى على خشبة المسرح والآخر أراد أن يصير رسّامًا، ماذا لو جمعهما الفقر فى أى شارع من شوارع أوروبا وصارا صديقين؟ شارلى شابلن وأدولف هتلر! ربما لو كانت حياة شارلى أكثر سهولة وأقل شقاءً لما أصبح أعظم فنانى عصره، أما هتلر فلا أحد يمكنه تصوّر مصيره لو قبلته أكاديمية الفنون فى فيينا! لو لم يكتشف الممتحنون هذا الشىء الخطير فى لوحاته قائلين: لوحاتك بها فقط القليل من الرءوس!
أشاهد رسوم أدولف هتلر قليلة الرءوس وأفكّر فى طريقةٍ ما لتغيير ماضى الإنسان الأسود، فلا أجد، حتى لو حدثت معجزة، وأصبح لدىّ القدرة على العودة إلى الوراء، فأصير كائنًا بحريًا نادرًا ينتزع شغف هيروهيتو مدى الحياة، ويبعده عن الحكم والسياسة، أو أتحوّل إلى ريشة ألوان سحرية ترسم العديد من الرءوس فى لوحات أدولف هتلر يوم امتحان الأكاديمية..
أو أن طاقة من نوعٍ جديد نتجت عن تخصيب اليورانيوم، تدفع البشر للرقص بدلا من الموت!
من السخرية أنه بعد وصولى إلى الولايات المتحدة بأيام، سوف تعج الصحف بخبر نجاح اختبار كوريا الشمالية لقنبلة هيدروجينية، وعن سؤال ترامب عن إمكانية مهاجمة الولايات المتحدة لكوريا الشمالية قال: سنرى!
سوف تتناقل الصحف أخبار مضحكة عن الزعيم المخبول كيم جونج أون، الذى يُشاع عنه ويدرّس للأطفال فى المناهج الدراسية الثورية، أنه تمكن من قيادة السيارة لأول مرة فى عمر ثلاث سنوات! وأنه كان يكتب كتابًا كاملًا يوميًا طوال فترة دراسته الجامعية بحصيلة 1500 كتاب فى ثلاث سنوات!
الكلام إلك يا جارة!
ألف وخمسمائة كتاب!
ثم وضعنى مطار هيثرو بالعاصمة لندن فى مأزق حقيقىّ، كانت هناك رائحة مقززة لم أستطع تحديد مصدرها.. هل تنبعث من المقاعد أم من أكوام بقايا الطعام المتراكم والتى لا سبيل لعمال آسيا وإفريقيا التخلص منها أولا بأول؟ أم هو الشح فى استخدام المياه بوجهٍ عام؟ ولكننى شعرتُ كأنها تفوح من الأشخاص، من كل الجنسيات المختلفة، والتى تلاقت جميعها فى مكانٍ بائس وحزين مثل مطار هيثرو! لا أدرى ولكنها بطريقة ما كانت رائحة بشرية، رائحة محبطة قادمة من شعوب متحضرة، أدركت معنى العالم الحقيقىّ بزيفه، رائحة منتنة تفوح من ضمائرهم ومعتقداتهم، التى شوهتها الأنظمة الكبرى، تشكل مجرد قطعة بازل صغيرة فى اللعبة المنظمة، الكل على سفر، فى ترحالٍ مزمن.. هنا محلات هارودز الشهيرة، تقف باستفزاز على مرأى الجميع تشبه المحال الكبرى ذات (البراندز العالمية) فى مدينتى، المسافرون يجيئون ويذهبون أمامها، القليل منهم فقط، قرروا الدخول وأقدموا على الشراء فى شجاعة، ربما فقط لكى يخبروا أصدقاءهم: لقد تسوقنا فى هارودز!
الرائحة التى أصابتنى بالاختناق تتصاعد، وتزداد قوة كلما نظرت فى عيونهم المجهدة الخائفة، خاصةً وهم يحتضنون أطفالهم النائمين بخوف مثلنا تماما..
العالم الآخر ليس ذلك الذى يظهر لنا فى مباريات كرة القدم: نظيف وجميل ومتأنق وسعيد، الكل ملتحف علم بلاده، والصبايا الجميلات يتعرين فى تحدٍّ أمام الكاميرات، الصبايا اللاتى رأيتهن مهمومات، خرائط الأرق تحتل وجوههن الملونة، صغيرات وحيدات على الأغلب يقرأن فى صمت!
هل تريد أن ترى العالم الحقيقى؟ أن تشم رائحته؟ اذهب إلى مطار هيثرو!
البشر هناك متشابهون ويشبهوننا!
بوصولك إلى مطار شيكاغو أوهير، سوف تبدأ الشعور بالضياع والضآلة، (لماذا كلاهما بالضاد؟ لغة الضاد ليس لها دخل بالطبع)، كان علىّ أن أتبع العلامات فحسب وأتأكد من رقم البوابة التى يجب التوجه إليها لأن الغلطة بفورة! فلربما أضعتُ رحلتى فعلا فى التنقّل من بوابة إلى أخرى، لأننا لا نتحدث هنا عن مطار عادى، بل عن واحد من أكبر المطارات فى العالم. قبل ذلك وبعده نقاط تفتيش أخرى، المزيد من التحقق والفحص والتمحيص!
أنتِ فى أرض الأحلام يا فتاة!
نقف فى طوابير الانتظار الطويلة..نحن المغضوب عليهم، لأننا لسنا مواطنين أمريكيين!
احمل جواز سفرك والفيزا وقِف هنا أمام الكاميرا وضع بصماتك فوق هذه الآلة! نعم، مشتبه بك! الكل هنا مشتبه بهم!
ارفع ذراعيك لأعلى واخلع نعليك..تأدّب يا هذا!
أنتِ..اتركى نفسك للآلة الذكية، سوف تمسحك من أعلى إلى أسفل! أبتسمُ لها، يخيّل إلىّ أنها تفتش أيضًا عن نوايا القتل مثلما تفتش عن السلاح أو البارود، أبتسم كأننى أنظر فى المرآة بذراعىّ المرفوعتين وقدمىّ الحافيتين، كأننى أحمل لافتة فى ميدان، أبتسم كأننى حرة أتأهب للطيران!
شعرتُ بالحنق لاحقًا فقط، عندما شاهدتُ فيديو لشاب استطاع تهريب صديقه القزم فى حقيبة السفر من الولايات المتحدة إلى فرنسا!
بعد الكثير من الصعود والهبوط والإسراع فى المشى، بل والجرى أيضًا، بعد الكثير من السلالم والأنفاق، جلستُ فى طائرة صغيرة لا تحمل أكثر من عشرين شخصًا فى الأغلب، وشعرتُ فعلًا بالراحة والاسترخاء فى هذا الحيّز الضيق!
تفضلى، يمكنك اختيار المكان الذى تفضلينه!
رفاهية متأخرة فى الساعة الأخيرة من رحلة الثمانى عشرة ساعة، الكابتن يُحيّى ركاب الطائرة، ويريد اقتناص ضحكة من قلوبنا المنهكة:
هل أنتم متأكدون تمامًًا من وجهتكم؟
أنتم ذاهبون إلى آيوا؟ أليس كذلك؟
إلى مطار سيدار رابيدز؟
لا أحد يريد الذهاب إلى مطار سيدار رابيدز أبدًا!
نضحك..نضحك كثيرا ربما لأول مرة فى تلك الرحلة الطويلة! على نكتة من المؤكد أن الكابتن قالها من قبل مئات المرّات!
الإنهاك أقوى من القلق، كانت تلك ميزة كبرى، لأننى غفوتُ أثناء النظر إلى الأضواء فى الأسفل، وقبل أن يبدأ عقلى فى تخيّل أشياء بشعة كالسقوط فى فوهة مظلمة مجهولة، عندما تختفى الأضواء تدريجيًا!
ثم أضحى مطار سيدار رابيذز هذا أجمل المطارات وأحبها إلى قلبى بمجرد دخولى إليه!
صغير، هادئ، تشعر كأنك فى غرفة معيشة واسعة، ثمة دفء يتسلل من زواياه برغم برودة الغربة التى بدأت لتوها..
على طريقة الأفلام الهندية والعربية معًا، أجد من يربت على كتفى من الخلف، ويسألنى فى ثقة؟:
-بتدورى على حد؟
هل أعادتنى هذه الطائرة الصغيرة الحمقاء إلى القاهرة مجددًا؟
هل وشت بى تلك الآلة الكاشفة؟ قالت لهم هذه الفتاة تنتوى قتل
أحدهم؟!
أُصاب بالذهول، وألتفت لأجد مصدر الصوت، فإذا بصديقى الذى لم يلمح حتى أنه قادمٌ لاستقبالى فى مطار سيدار رابيدز، حيث لا أحد يذهب إلى هناك أبدا كما قال الكابتن!
آيوالله..آيوالله..وحشونا الحبايب!
فى اليوم التالى أدركتُ أنهم أعطونى غرفة مطلة على النهر! تماما كما حدث فى بغداد منذ ثلاث سنوات! ولكن شتان! كان ذلك دجلة الخير، وكانت تلك مدينة المنصور التى شغفتها حبا! أهل آيوا أنفسهم اخترعوا نكات تخص نهرهم النحيل الذى يبدو كأنما زحفت عليه الغابات المشجرة الكثيفة والخضرة البديعة! عندما أخبرتُ عمدة مدينة آيوا فى حديث قصير بيننا لدى صديقة أمريكية أن عنوان كتابى القادم: قصة مدينتيّ الأدب: بغداد وآيوا، تعجّب جدا وقال لى: ثمة فارق كبير بين مدينتا وبين أى مدينة هنا فى الولايات المتحدة! فكيف ستجدين نقاط تلاقٍ بين آيوا وبغداد؟
ولا مجال لسرد ما قلتُه حينها عزيزى القارئ، لأننى أدخره لكتابى الأول فى أدب الرحلات!
آيوا مدينة وقرية فى الوقت نفسه!
مدينة جامعية كبرى، بها أفضل وأهم جامعة لتدريس الكتابة فى العالم، لا أقول كلية.. الغالبية الكبرى من المقيمين بآيوا حاصلون على مؤهلات عليا، أو من الطلبة الدارسين، أو الأساتذة الجامعيين، قالت صديقتى الأمريكية التى انتقلت للعيش فى آيوا منذ سنوات قليلة: إذا احتجتِ إلى سباك هنا فى آيوا من الأفضل أن تحسنى معاملته فلربما كان حاصلا على الدكتوراه!
ودعونا نتوقف هنا قليلا.. ماذا يعنى أن يتم تدريس الكتابة؟!
«كانوا يشعرون بوجوده خلفهم يسمعون أنفاسه اللاهثة وراء أصابعهم، التى تنسج بسرعة فائقة، يعرفون هذا الشغف للتعلم، يحسونه بقلوبهم الصغيرة، أجمل شىء فى النّساج أنه لا يشعر بعظمة ما يصنع، والأمر لا يتعلق بالاعتياد فحسب ولكنه الصبر، شىء ما يولد مع كل هذا الصبر على اكتمال البساط، ينتزع الكِبر من قلوب المتعجلين، فلا يغرّن النساجَ عمله المتقن وعقده الدقيقة ولا ينظر خلفه أبدا كالمستغرق فى الصلاة، يبتسم من انبهار المحملقين فيما ينسج، ويصمت، ولا يُسمع منه سوى هذا الدق، الذى يأسر الأفئدة..
هنا (اللُّقا)، حيث يلتقى خيط (السَّداة) بخيط (اللُّحمة)، و(نَفَسٌ) فيما بينهما..كل عقدة حياة!»
مقطع من روايتى الثالثة ليلة يلدا (لم تنشر بعد)
حدّثنا وعلّمنا سيدنا ومولانا نجيب محفوظ من أمر الكتابة، ووعينا الدرس بأنها موهبة ومقدرة واستعداد فطرى بالأساس وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، ولكن لا شكّ فهى الفعل المشبّع بالعمل وبذل الجهد، الكتابة بالأساس تستلزم الاستمرارية والصبر على اكتمال عملٍ وراء عمل، كصانعى السجاد اليدويّ، ومنمنمات الأزمنة العامرة العاطرة، كالنحاتين والرسامين، وصائغى المجوهرات! وما يلقاها إلا الذين صبروا!
الكتابة الحقّة ليست أغنية (سنجل) تنزل تكسّر الدنيا أو ثرثرة مهرجان شعبى، ولا موضة (أوف شولدر) تُغرِق الشوارع، واسأل روحك عمّن كتبوا من قبل ومن بعد على هذا المنوال، أقصد بمفهوم الرواية الواحدة أو بمفهوم اكتب اللى بياكل مع الناس أو اكتب ع الموضة:
هل ترك أحدهم علامة فى وجدانك؟
هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟
ذات يوم عندما سمعنى صديقى خافيير وهو من المكسيك وأحد المشاركين بالبرنامج، أتحدّث عن إعجابى الشديد بخوان رولفو، وأسفى أنه لم يكتب سوى رواية واحدة ومجموعة قصصية واحدة، فاجأنى بأنه أحد أعمامه، وأن هذا الأديب العتيد قد كتب ست وتسعين نسخة من روايته بيدرو بارامو قبل أن تخرج النسخة الأخيرة التى قرأها الناس إلى النور! 96 نسخة كل منها تختلف كليًّا عن الأخرى، لأنه لم يكن واثقا أبدا إذا كان ما يكتب يُعدّ صالحا للنشر أم لا!
إذا هو الاستمرار، المقدرة على البقاء ومكافحة الفناء عن طريق الكتابة!
ما الذى بوسع جامعة لتدريس الكتابة فعله؟
لن تعلّمك الجامعة كيف تكتب ولكنها ستعلمك أشياء بمقدروك أن تصبح كاتبا محترفا لو عملت بها، كاتبا يمكن لأدبه أن يستمر!
وبالمناسبة، وجود أربعة وثلاثين كاتبا وكاتبة جزء من منهج الطلبة التعليمى فى الجامعة، نحن محور دراستهم واهتمامهم، بحديثنا عن أعمالنا وكيف نكتبها وما هى محفزات الكتابة لدينا، هناك محاور حددها البرنامج سلفا، لنتحدث فى إطارها ونكتب عنها تفصيليا، هناك أيضا ورشة ترجمة تشمل جوانب من أعمالنا الأدبية والشعرية..
قال توبياس وولف الكاتب الأمريكى المعروف فى لقاء مفتوح مع الجمهور بمسرح مبنى الفنون بجامعة آيوا: الأدب هو أن تتخيل روحك فى حياة الآخرين!
هل الكتابة تشبه الجنس؟
أتذكّر تعليقات جدتى رحمها الله على اقتراحات تعليم الثقافة الجنسية فى المدارس، وكيف استقبلت الخبر بالتهكم وبوابل لا يُصدّق من الشتائم المحظورة المفعمة بالجنس!
- مش محتاجة علام يا ولاد!
العباقرة كتبوا فى السجون والمعتقلات، وفى ظل الأنظمة الأكثر استبدادا وفى أثناء وأعقاب الحروب التى غيرت خرائط ومحت بلادا وأضافت دولا، فى الجوع والمرض وقبل الموت وبعده على لسان آخرين يعانون الفقد، خرجت أعظم الأعمال الأدبية على الإطلاق، ولذلك يستفزنى هذا السؤال للغاية:
ما هى طقوس الكتابة لديكِ؟
أى طقوس وأى رفاهة تتحدثون عنها؟
كتبتُ فى كلمتى لكلية كارﭬر للطب تحت عنوان: (أن تتحول إلى بومة) كيف أنشد هوميروس لأول مرة قصيدة وهو جائع وأعمى فى بلد غريب! وكيف أخبرتنا لوحة المجاعة الشهيرة بجزيرة سهيل بأسوان أن إمحوتب العظيم مخفف آلام المصريين وأول مهندس فى التاريخ استطاع إخراج المصريين من تلك المأساة بعد رؤيا جاءته فى المنام بمعبد الإله خنوم.. كان من أشهر الحالمين فى التاريخ: المجاعة دفعته إلى الحلم!
إذا ما الذى ينقصنا ككُتاب مصريين لكى نصنع أدبا يبقى، فى مجتمع بكل هذا الثراء التاريخى والحضارى؟
فى الوقت الذى تتوسل فيه جامعة تدريس الكتابة أسبابا وآليات وعلوما تحفّز الطلبة على الكتابة فى مجتمع حديث يبدو مرفها، من أبرز مشكلاته الأرق والصداع!
أخشى أن هذا النهر النحيل الذى نتهكم عليه يحقق الآن أهمية وشهرة عالمية فى عالم الأدب أكثر بكثير من النيل ودجلة الخير! لأن هناك أكثر من مجرد نظام يقدّر الفنون ويهتم بأصحابها ويؤمّن لهم حياة كريمة، بل هناك تربية أجيال من المهتمين بالشأن الثقافى والعلمى، يبدأون حياتهم العملية مبكرا جدا فى الوقت الذى يأخذ أقرانهم فى بلادنا مصروفهم من آبائهم، ويتأففون من فكرة العمل خارج نطاق التخصص!
جميع مَن قابلتُ تقريبا فى آيوا ممَن يقومون بخدمات فى الفنادق أو المقاهى أو محلات الأطعمة وغيرها من الطلبة الدارسين، ومنهم عدد لا بأس به يدرس الكتابة أو الترجمة!
فى الوقت نفسه آيوا هى القرية التى تشبه المحميات الطبيعية، حيث الرنة المتجولة فى الغابات بقرونها الطويلة المعقوفة، تأكل الزهور والحشائش، وحيث عائلات من الثعالب والسناجب والأرانب!
بها أجود مزارع الذرة الحلوة فى العالم، بها بيوت قروية الطابع تسكنها فئران الحقل والحشرات والناموس..
بها الشجر.. مختلفٌ ألوانه وأحجامه وأشكاله، وأنواع بديعة من الزهور الكبيرة حجما!
الوفرة والضخامة سمتان أمريكيتان حتى فيما يختص بالطبيعة!
عبّاد الشمس وحنك السبع وزهورٌ خضر مستديرة، الصغرى منها تبقى صامدة منتصبة فوق فروعها، أما الكبرى الضخمة فيبدو حملها ثقيلا على الأفرع فتبرك كالناقات، تعفّر وجهها فى التراب تعبا وربما صلاة أخيرة! محزن جدا أن ترى زهورا كتلك فى حدائق الكنائس وبعض البيوت، لأنها أجمل من يسعها شيء، يضيق بها العالم الشحيح، هى الممتلئة بالبركة والنعمة، تضيق بها حتى تلك الأرض الشاسعة!
تحدثت إحدى الكاتبات الأمريكيات عن مفهوم البدانة الأمريكية، عن كونها بدينة ولا تشعر بترحيب فى بلدها رغم أنها بجسدها الممتلئ تبدو أكثر تناغما من الفتيات الـskinny- مع كل شيء هنا، مع الوجبات السريعة القاتلة المشبعة بالكوليسترول، ومع الفكر السياسى الأمريكى الذى يبتلع العالم.
كانت مصادفة لطيفة أن نشاهد كسوفا كليا للشمس فى الأسبوع الأول من مجيئنا، ارتدينا النظارات الخاصة، ونظرنا إلى القرص الذهبى وهو فى طريقه إلى العتمة الباهرة! كان الأمريكيون أنفسهم يتساءلون فى سخرية إن كان هذا مجرد ظرف طبيعيّ أم أنها علامة كسوف وشيك للولايات المتحدة فى ظلّ رئاسة ترامب!
كانت صورة الرئيس الأمريكى تتصدر الصحف فى صباح اليوم التالى وهو ينظر فى تحدٍّ إلى الكسوف دون نظارة واقية!
ولكن ليس كل شيء يبدو على حقيقته من مجرد النظر إليه، هناك أشياء لا تظهر أبدا فإن بوسعنا أن نسمع كل خطوات الأقدام نهارا وحتى غروب الشمس فى شوارع آيوا وأصوات تقليب صفحات الكتب والمراجع وملايين الـ clicks الناقرة عبر الماوس فى مكتبات المدينة العامرة (أقولها بأسى لأننى أجتر منظر مكتباتنا المهجورة المسكونة بالأتربة)، إذا كان بوسعنا أن نستمع إلى الأفكار والهواجس ومخاوف دفع أقساط العام الدراسى لأصبحت تلك المدينة التى تبدو هادئة فى غاية الصخب).
أستطيع أن أرى أشياء كثيرة خلف كل هذا الابتسام المجانيّ، أولا فأنا أبدو للعيان مسلمة من خلال رابطة الرأس، ردود الأفعال متشابهة جدا حيال هذا الأمر، المفاجأة المختلطة بالدهشة والترقب ثم تتبعها ابتسامة خفيفة كلما تيسر الأمر، أحيانا عيونهم تتساءل: ماذا تفعلين هنا؟، وأحيانا يقدمون على السؤال خاصةً فى المقاهى والمطاعم، النظرة المرتابة تتغير تماما عندما أخبرهم أننى كاتبة وحاصلة على منحة، هنا أصير (صاحبة بيت) كما نقول.. فى الوقت نفسه سمعتُ أحدهم يسأل إحدى المذيعات فى حفل ترحيب أقامته لنا المدينة، وقد كانت قبل دقائق تتحدث إليّ فى اهتمام وتأثّرت جدا بسبب ما قلتُه لها، حتى أنها طلبت منى أن أسجل معها حديثا للراديو فى برنامجها الإذاعى الموسيقى، ولما عرّفتنى به ثم مضيتُ كان يقول لها متعجبا: ما الذى سوف تفعلينه بها؟!
كانت من أكثر الأشياء التى أصابتنى بالذهول عندما تلقيتُ دعوة على العشاء من قِبَل بروفيسور تدرس التاريخ بجامعة آيوا، فرنسية جزائرية أمريكية، تتحدث العامية بطلاقة، تحتفظ بعدد كبير جدا من كنكات القهوة حتى أنها علّقت بعضها فى النجف! وجدتُ لديها آلةَ عود، وأحجام مختلفة من (المنخل) والذى تضعه كديكور، كتبت عن ناصر كتابا استغرق عشر سنوات ليكتمل وعاشت فى مصر فترة طويلة، وأخبرتنى وهى ترتدى الشال الفلاحى:
-أنا من المنصورة! كنت أقولهم كده وما يصدقوش، يقولوا لأ انتى مش مصرية! ليه كده؟
الشعور بالفخر كلمة قليلة عندما تكون مصريا وتتحدث بلغة القرآن هنا، كلما غنيتُ لهم شعروا برغبة فى البكاء! أغلبهم قال الشىء نفسه:
-أنا لا أفهم شيئا ولكنى حقا أوشك أن أبكى.
إنه سحر لغتنا الرنانة البديعة التى لا مثيل لها، والتى وقع فى غرامها أحد أصدقائنا من مقدونيا، وطلب منى أن أكتب له الأبجدية العربية ليعكف على تعلّمها!
فى محاضرة ممتعة قدّمها مترجم أمريكى تركى، حيث قرأ باللغتين مقاطع من رواية ترجمها من التركية إلى الإنجليزية، سألنا: بمَ تشعر وأنت تستمع إلى جرس الكلمات التركية؟ أجبتُه وأنا أردد الكلمة التى كررها مرتين: يا ﭬاش يا ﭬاش، قلت: ببطء ببطء أليس كذلك؟ قال نعم أنتِ على حق، قلت له اللفظة تركية بالأساس ولكننا نقلبها إلى واو فنقول يا واش يا واش، أستطيع أن أجيبك الآن على سؤالك، كلما سمعتُك تقرأ حرف v شعرتُ بالتعالى وأنا أتذكّر كيف قلب التُّرك الواو العربية إلى v فيقولون يا ﭬالد بدلا من يا ولد!
أليس عجيبا أن الفنان المصرى الذى كنا نحسبه يغنى لأساطين الدولة العثمانية منشدا فى سلطنة (أمان أمان يالالالي) بكل تلك الجرأة والشجاعة؟ لأن كلمة أمان تعنى بعدا أو كرها، كلمة استنكارية لن تسمعها إلا فى الموشحات المصرية القديمة!
لاحظتُ أن أساليب المقاومة التى تمارسها الشعوب فى وجوه أعدائهم متشابهة أيضا، إلا أن المقاومة بالفنون سمة عربية شديدة الخصوصية لها تاريخ عريق فى بلادى ولمستُها بشدة فى بغداد كذلك، فحتى عربة الفلافل البسيطة يزخرفها المواطن العراقى الفنان بأبسط ما لديه من خامات فى أيام الحصار والموت، هناك مقاومة أيضا فى الولايات المتحدة، المقاومة هنا من نوع مختلف، مقاومة احتمالية المرض بالمواظبة على الرياضة لأنه لا يوجد متسع من الوقت لكى يمرض أحدهم هنا، حتى وإن كان لديه تأمين صحى يحترم إنسانيته واحتمالية مرضه بالطبع! مقاومة لقوى الطبيعة التى لا يقوى – حتى الأمريكيين أنفسهم- على منعها، سوف تجد غالبية البيوت من الخشب وليست من الأسمنت بسيطة من الداخل لا تحوى الكثير من الأثاث أو التحف إلا فيما ندر، أثاث فندقى، وكأن هؤلاء فى حالة استعداد دائم إلى الترحال، منطق مجتمع الرعاة، التنقل من بيت إلى بيت حسب الظروف البيئية، لا يبدو أن المواطن الأمريكى يتمسك بشىء فعلا، مالوش عزيز (كما نقول)، ولكن تعاملهم الفائق مع الكوارث الطبيعية وهذا المران المستمر مع مقالب الطبيعة أكسبهم قدرة هائلة على التعافى وإعادة البناء من جديد، أراقب هذا الآن باهتمام فى أعقاب إعصارين مدمرين: هارفى بولاية تكساس وإرما بفلوريدا، ربما ليس فقط لأن لديهم خبرة كبيرة فى إدارة الأزمات فحسب، ولكن ربما لأن كل منهم يستند إلى نظام تأمينى يقدم تعويضات كبيرة تؤهله لكى يبدأ من جديد وفى أسرع وقت!
قبل أن آتى إلى آيوا، كنتُ محملة بمشاعر الحزن تجاه ما يحدث فى وطنى، وما آلت إليه ظروف المعيشة الصعبة، ولكنى عندما خالطتُ الناس هنا من جنسيات عديدة، حمدتُ الله من باب (من شاف بلاوى الناس..)، وليس فقط من باب (أحسن من سوريا والعراق)، من فنزويلا جاءت صديقتنا (إنزا) والتى أخبرتنى بأنها تكتب عن مرضى السرطان بشكل خاص، هالنى ما قالت رغم أننى طبيبة وأتعامل مع مرضى السرطان بشكل مستمر، وذلك لأنهم يتخلصون من حياتهم بمجرد اكتشافهم حقيقة مرضهم، الدولة لا تقدم لهم علاجات، تتركهم يموتون فى صمت، تقول لقد انتحر الكثيرون من أهل بلادى، وأخشى أن نلاقى المصير نفسه أنا أو أى فرد فى أسرتي!
عن أهل غزة حدثتنى صديقتى الحبيبة الشاعرة فاتنة الغرة من فلسطين، والتى حصلت على منحة كمواطنة بلجيكية تعتز وتؤكد على كونها فلسطينية، كيف هى صعبة ومستحيلة الحياة فى غزة، حصار لا مفر منه ولا أفق!
حكايات أمريكا اللاتينية مفعمة بالمعاناة، وأزمات الهوية والكوارث الطبيعية فى شرق آسيا، معاناة المرأة فى الهند وباكستان، ومأساة القارة السمراء والحديث عن مشكلاتها المزمنة، حيث دُعينا من قِبل برنامج الدراسات الإفريقية للإجابة عن تساؤلات عديدة منها هل نوع الأدب الذى تقدمه يخدم سياسة ما أو يشكّل نوعا من مقاومة القمع السياسى أم أنك تفضل الكتابة من محض خيالك دون الاقتراب من المناطق الشائكة؟
وأخيرا، أحاول أن أنهى تحت هذه الظروف روايتى الرابعة (كوتسيكا)، فلربما لن توفَّر لكاتبة مصرية مقيمة بالقاهرة فرصة أجمل لكى تكتب فى أحضان الطبيعة الخلابة وعلى حافة نهر قريب وصغير وهادئ، على مقربة من السناجب والأرانب والطيور، والغزلان المتجولة فى الصباح الباكر، لكنها فى الوقت نفسه تشتاق بشدة إلى طبق (مِش) بالفلفل الأحمر الحامى، وفحل بصل، وفطير مشلتت وطبق (تلتين عسل أسود والتلت طحينة).