أكذوبة كردستان والقوميات الإيرانية
الأحد، 17 سبتمبر 2017 06:11 م
من ضمن الابتلاء الذي أصاب البحث العملي عموماً والبحث التاريخي خصوصاً، هو ظن البعض أن العمل الأكاديمي هو التلخيص والنقل من الأعمال السابقة، دون إخضاعها للبحث والدراسة من الجديد، وهكذا تم تحويل النصوص القديمة الى نصوص مقدسة لا يمكن لمسها أو إخضاعها للعقل أو البحث العلمي، ويا لسخرية الأقدار فإن بعض العلماء الذين يطالبون رجالات الدين بتجديد الخطاب الديني ومراجعة بعض النصوص فإنهم يرفضون بل وعاجزون عن فعل الأمر ذاته في مجالاتهم العلمية والأكاديمية.
والحاصل، إن المؤرخين يرددون دائماً نظرية «الشعوب الهندو– أوروبية» أو «الهندو – إيرانية»، وتنص النظرية أنها شعوب/قبائل آرية نزحت من السهوب الأوراسية Eurasian Steppe وهي المنطقة ما بين سلسلة جبال تيان شان شرقاً وتمتد عبر الصين، كازاخستان، قيرقيزستان، أوزبكستان، ويحدها من الغرب نهر الأورال في روسيا، وأن هذه القبائل الآرية لها اتصال عرقي بالآريين شمال أوروبا.
تلك القبائل الآرية تنسب اليها شعوب الهضبة الإيرانية بالإضافة إلى شبه الجزيرة الهندية وبعض شعوب آسيا الوسطى، ولكن حينما ندقق في المراجع التاريخية نكتشف أن هذه الرؤية ما هي إلا إحدى الفرضيات النظرية فحسب، ولكن ما ساهم في ترجيحها عوامل سياسية رأت في هذه الفرضية عراقة وعرق وقومية.
بينما الثابت عبر الاكتشافات الأثرية أن مصطلح آرى لم يستخدم لوصف هذه القبائل سواء في الهند أو فارس، بل استخدمه هذه الشعوب لوصف النبلاء والنخب منهم فحسب، أى أنه مصطلح اجتماعي وليس عرقى أو قومي أو قبائلى، بل وأن القبائل الجرمانية شمال أوروبا أيضاً لم تستخدم مصطلح آري إلا لوصف النبلاء في هذه القبائل التي أسست غالبية الدول الأوروبية اليوم وعلى رأسها ألمانيا.
أي أن ما يسمى القبائل الهندية والإيرانية التي لاحقاً أصبح لكل منها قومية ودولة وشعب في بعض الحالات ليس لها علاقة بالقبائل الجرمانية، وحتى الروابط الجينية ضعيفة للغاية، وإن هذه القبائل الإيرانية والهندية والجرمانية لم تطلق على أصولها أو ذاتها مصطلح آري، بل على بعض النخب والنبلاء منهم فحسب، يكاد اللقب يتساوى مع لقب النبيل، أو الدوق في بعض الأنظمة الملكية.
وحتى روابط اللغة أيضاً مجرد افتراضات علمية، فلا وجود لما يسمى لغة «هندو – أوروبية بدائية» تفرعت منها بعضاً من لغات الفرس والهنود والأوروبين، حيث دأب العلماء في العصور الماضية على وضع فرضيات تسد الفجوات العلمية حتى يجد العلم ما يسد تلك الفجوات، وبمرور الزمن أصبحت تلك الفرضيات حقائق تاريخية لا تقبل الشك لدى بعض أشباه العلماء والمؤرخين.
وبالتالي فإن الأكثر واقعية أن هذه القبائل التي استوطنت لاحقاً الهند وآسيا الوسطي وإيران وبعضاً من اليونان والأناضول (قبل غزو السلاجقة ثم التتريك في زمن مصطفى كمال أتاتورك) لا يمكن أن يطلق عليها قوميات أو شعوب إيرانية، فالمسمى مبتور، فلا هو عبر عن كامل الدول التي انتشر فيها هذه القبائل، كما لم يعبر عن الأصل إلا وهو الأنهار الروسية التي ظهرت عندها تلك الشعوب للمرة الأولى بشكل علمي وأثري في التاريخ مثل نهرى الفولجا والأورال بالقرب من بحر قزوين في السهوب الأوراسية.
ونظراً لأن روسيا بدورها لم تكن موجودة وقت نزوحهم فإنه من الصعب أن تنسب هذه الشعوب لروسيا، كما أن الاختلاف الجيني مع الشعوب السلافية التي استوطنت روسيا وقتذاك تجعلنا ندرك أن هذه الشعوب مختلفة عن الشعوب السلافية.
وهذا يعني بالتبعية، أن نظرية الشعوب أو القوميات الإيرانية المتعددة مصطلح تم صناعته سياسياً دون سند علمي، ففي واقع الأمر، إن هذه الشعوب ليست إيرانية، فلا الآباء المؤسسين لهذه الشعوب اعتبروا أنفسهم آريين أو إيرانيين، ولا الشعوب التي عاصرت هجرتهم إلى تلك المناطق نظرت إليهم كذلك، كما أنهم ليسوا من العرق الآري فلا عرق في الأساس يحمل هذا الاسم بل هو مسمى خاطئ للعرق الجرماني، وأخيراً فإنه المنطقة التي أتوا منها لا تحمل هذا الاسم ولا ذات المعنى، ولا علمياً يطلق على هذه الشعوب هذا الاسم، هم شعوب السهوب الأوراسية فحسب ولا يمكن أن يتم تسميتهم علمياً إلا بهذا الاسم.
وبالتالي فإن المسمى العلمي المجرد من الأهداف السياسية أو الفرضيات النظرية دون سند أثري على أرض الواقع، إننا أمام شعوب السهوب الأوراوسية، وقد لقبت تارة بالآرية وتارة بالهندو– أوروبية وتارة بالهندو– إيرانية لأسباب سياسية، تارة كان علماء ذو هوي جرماني يريدون مد النفوذ الثقافي الألماني لهذه المناطق استمراراً لأسطورة الجنس الأرى الذي أسس البشرية، وتارة علماء ذو هوي بريطاني يريدون إثبات أن الاستعمار البريطاني في الهند أو إيران ليس بعيداً عن وقائع التاريخ، وتارة رأى مؤرخين فرس أن فكرة القوميات والشعوب الإيرانية المتعددة تخدم فكرة الامتداد الطبيعي للامبراطورية الفارسية – الإيرانية وأن لإيران أو فارس حق تاريخي وعرقي في هذه المناطق.
وبالتالي فلا رابطة «إيرانية» تجمع الفرس والكرد والبلوش والبشتون وغيرها ما يسمى الشعوب الايرانية، وهذه القبائل نزحت الى المناطق المذكورة سلفاً ما بين عامي 2000 ق.م و1500 ق.م، وكانت القبائل الفارسية التي صنعت مجد الامبراطوريات الفارسية من ضمن هذه الموجة، قبل هذا التاريخ لم يكن كافة تلك الشعوب التي تتسمي اليوم بمسمي الشعوب الإيرانية موجود في آسيا الوسطي وايران وبعض الجاليات في دول الشرق الأوسط.
ولم تعرف فارس حكومة مركزية قبل قيام كورش الكبير بتأسيس الإمبراطورية الأخمينية ثم أسقطها اليونانيين بقيادة الأسكندر الأكبر، وفى القرن الثاني قبل الميلاد ظهرت الامبراطورية البارثية ثم تأسست الامبراطورية الساسانية عام 224 ميلادياً.
وفى القرن السابع أسقط المسلمون الإمبراطورية الفارسية، قبل أن تظفر فارس بحكومة مركزية على يد إسماعيل الصفوي الذي أسس الدولة الصفوية عام 1501، ولكن خلال تلك السنوات فإن رجالات السياسة والدين والعلم والجيش والثقافة الفارسية لعبت دوراً هائلاً في الحضارة الإسلامية العباسية ثم المغولية سواء في دولة الإيلخانة (امبراطورية مغول إيران) وامبراطورية مغول الهند.
وهذه الشعوب لم يكن لها حس قومي او رغبة في الاستقلال او صناعة دولة قومية قط، وقبلت مراراً الانضواء تحت الحكم الأجنبي سواء العرب او المغول وغيرهم، وكما رأينا في كتابي التتار المسلمون (يناير 2017) فأن الفرس تعاونوا مع المغول في العراق وإيران وغيرها واندمجوا بينهم دون ان تحدث مقاومة تذكر.
وهكذا نرى ان القبائل الفارسية ذات ثقل سياسي كبير، ولكن في القرن العشرين رأى ساسة فارس ان أطلق اسم إيران على فارس افضل حتى يتم إعلان ان هذه الدولة موطن كافة الشعوب والقبائل الايرانية وبالتالي لا يحق للولايات غير الفارسية في الإمبراطورية الفارسية بطلب الانفصال وهكذا ظن ساسة فارس وقتذاك انهم عالجوا ازمة سياسية امتدت اربع قرون و لا تزال تطل برأسها في الواقع الإيراني.
يقول المؤرخ الإنجليزي ديفيد ماكدويل صاحب موسوعة تاريخ الاكراد الحديث التي تعد أهم موسوعة عن تاريخ الكرد ان مصطلح الأكراد الذي أطلقه العرب لم يكن مصطلح عرقي أو قومي أو قبائلي، بل أطلق على بدو الحافة الغربية للهضبة الفارسية، وكان كل من ينزح من العرب أو غيرهم إلى مناطق أطلق على سكانها الأكراد يتم تكردته ثقافياً، مثل قبيلة الروادية العربية التي انتقلت إلى مناطق البدو الكرد في بدية العصر العباسي وخلال 200 عام أصبحت كردية الثقافة واللسان رغم عدم اختلاط الإنساب بالكرد.
ما يعني أن الكثير من المسميات ليست لشعوب أو قومية أو قبائل، بل سكان منطقة بذاتها، كونك من أهل دمياط لا يعني أنك حال انتقالك إلى القاهرة أنك تنتمي إلى عرقية أو قبائل وقومية دمياط، فلا أصل لهذا الكلام في التاريخ، وكذلك الأمر بالنسبة للأكراد وغيرهم من شعب السهوب الأوراسية.
بحسب التطورات السياسية تنقل هؤلاء البدو الأكراد إلى مناطق أكثر اتساعاً، وسيطروا على بعضاً من المناطق قبل أن يخسروها ثم يكسبوها غيرها وهكذا، ولم يكن لهم الغلبة في مناطقهم الجغرافية اليوم إلا في القرن العاشر بالتزامن مع ضعف الدولة العباسية، حيث ظهر اسم كردستان للمرة الأولى، ومع ذلك كان الأكراد مثل باقى شعوب السهوب الأوراسية، ليس لديه حس قومي أو ميول قومية، بل وكانت دويلات الكرد دائماً محافظة أو ولاية في امبراطورية ما، و لم ينشأ الفكر القومي لدى الأكراد إلا نهاية القرن التاسع عشر على يد عملاء الاحتلال البريطاني كما الحال مع القومية العربية، حيث سعت بريطانيا إلى زرع فيروس الحس القومي من أجل تفتيت الامبراطورية العثمانية.
ويلاحظ أن بريطانيا اعتمدت القومية العربية ولم تفكر في إيقاظ القومية المصرية، نظراً لأن الحس القومي لدى المصريين كان حاضرا، فهي أيدولوجيا لم ولن تخدم الاستعمار الغربي، وبالتالي تم لفظها من لعبة صناعة القوميات داخل الاستخباراتية الغربية.
هكذا في القرن التاسع عشر تم صناعة القومية الكردية، حيث تم لملمة الأسر الكردية التي كانت تدار بالشكل العشائري، وأصبحنا أمام قبائل وشعوب كردية متناثرة، علماُ بأن الأكراد اندمجوا وسط شعوب المنطقة مثل سوريا التي يعتبر أكراد الداخل أنفسهم وحتى اليوم عرباً، وكان يفترض عقب الحرب العالمية الأولى أن يتم تقسيم الجمهورية التركية الحالية لإعطاء الأكراد دولة كبيرة ليتحقق الحلم الغربي في تقسيم الأناضول وعدم حكم أنقرة للأناضول كاملاً، ولكن مصطفى كمال أتاتورك استطاع أن يسقط مشروع قيام دولة كردستان وأرمينيا الكبرى شرق الأناضول ويظفر بجمهورية تركية بحدودها الحالية.
وقد أدرك الساسة الكرد في العصر الحديث، أن فكرة إقامة دولة كردستان بيد الغرب فحسب، وأنها فكرة مربحة اقتصادياً وسياسياً للأكراد، حيث يصبح لهم دولتهم الخاصة في مناطق غنية بالغاز والمياه – وبالتالي الكهرباء – والنفط، وسارعوا لقبول يد الحركة الصهيونية الممدودة لهم، كما ارتبطوا بعلاقات تاريخية مع روسيا رغم اختلاف أنظمة الحكم، وكان مغزي موسكو عبر العصور أن علاقات روسيا القومية مع الأرمن والآشوريين والأكراد هي طعنة في شرق الامبراطورية العثمانية ثم الجمهورية التركية اليوم.
أما الغرب وإسرائيل، فإن جمهورية كردستان مهمة للغاية في نشر فيروس الانفصال والتقسيم داخل تركيا وإيران وسوريا والعراق، بل ويمكن للأقليات الكردية في لبنان والقوقاز الروسي وأذربيجان أن يلعبوا دورا مماثلاً في مرحلة لاحقة.
هكذا فإن الكرد لا هم قومية ولا عرقية، وأسطورة القوميات الآرية الإيرانية والقوميات أو الشعوب الإيرانية بأسرها مجرد شعب نزح من سهوب أوراسية، وحقائق التاريخ واهنة في مطالبهم بالاستقلال، أما في أجندة الاستعمار الغربي والمخططات الصهيونية فإن كردستان ركن هام، وحال إعلانها فإن للأمازيغ تحرك مماثل في شمال إفريقيا، سيبدأ في غرب شمال إفريقيا أولا ً وحال قيام دولتهم هنالك سوف يمد الأمازيغ أبصارهم إلى الصحراء الغربية المصرية حيث ينظرون إليها باعتبارها امتدادا تاريخيا لهم وبكل أسف لدينا في مصر أشباه ساسة ومثقفين ومؤرخين يروجون لهذه الحقائق التاريخية المغلوطة، مثلما يدعم الاستعمار والصهاينة تحرك نوبة السودان للانفصال على أن تطالب بنوبة مصر لاحقاً.
واليوم إقليم كردستان شمال العراق معقل حقيقي للمخابرات الإسرائيلية، كما أن الأكراد ليسوا مسلمين سنة فحسب كما يتصور البعض، إذ يوجد أكراد شيعة ومسيحين ويهود، والأكراد اليهود لهم الغلبة في اقتصاد كردستان العراق ولديهم علاقات اقتصادية قوية مع رأسمالية اليهودية السياسية سواء في إسرائيل أو أوروبا، كما ان الأكراد اليهود لعبوا ادواراً مهمة في تاريخ إسرائيل مثل العراقي الكردي بنيامين بن اليعازر (1936 – 2016) رئيس حزب العمل (2001 – 2002)، وكان نائباً للرئيس الوزراء (1999 – 2001) ووزيرا للدفاع (2001 – 2002) في زمن الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
تلك كانت الحقائق التاريخية لكل من يعتبرون كردستان حق تاريخي وقومي وثقافي، بينما كردستان وهم تاريخي مثل إيران برمتها.