إسماعيل..المصرى الذبيح صادق الوعد
الثلاثاء، 05 سبتمبر 2017 09:00 م السيد عبدالفتاح
هو جد رسول الله محمد، خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو المصرى نسبة لأمه «هاجر» الأميرة المصرية التى تزوجها نبى الله وخليله سيدنا إبراهيم.
قال الله تبارك وتعالى عنه فى سورة مريم واصفًا إياه: «واذكُر فى الكتابِ إسماعيلَ إنَّهُ كانَ صادقَ الوعدِ وكانَ رسولًا نبيًا».
وقال كذلك: «وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا».
فأكثر ما تميز به نبى الله إسماعيل، هو صدق الوعد، وأيضًا هو صاحب المثل الأعلى فى «الطاعة» وخاصة ما يمكن أن نسميه «الطاعة العمياء» لكنها عنده ليست طاعة الخائف الخانع الضعيف، لكنها طاعة المؤمن شديد الإيمان، طاعة القوى عميق الثقة فى نفسه وأبيه وقبلهما فى ربه، وأن كل ما يكتبه الله عزوجل هو خير فى خير. ومن هذا الإيمان واليقين جاءت جملته الخالدة «يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين».
كتب الدكتور مهران ماهر عثمان، عن هذه القصة :
يقول الله عن إبراهيم عليه : «وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ* رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينَ* فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ* فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ* فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الْآَخِرِينَ* سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ* كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِين» الصافات[99-110].
لقد اشتملت هذه القصة وآياتها على عبر يجدر بكل مسلم أن يقف عندها..
قال ابن كثير رحمه الله: «ذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه، سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا، فبشره الله تعالى بغلام حليم،هو إسماعيل، لأنه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل، وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل، أنه أول ولد وبكره.
وقوله:»فلما بلغ معه السعى»: أى شب وصار يسعى فى مصالحه، رأى إبراهيم عليه السلام فى المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا، وفى الحديث عن ابن عباس مرفوعا: «رؤيا الأنبياء وحى»، قاله عبيد بن عمير أيضًا، وهذا اختبار من الله لخليله فى أن يذبح هذا الولد العزيز الذى جاءه على كبر، وقد طعن فى السن، بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه فى بلاد قفر، وواد ليس به حسيس ولا أنيس، ولا زرع ولا ضرع.
فامتثل أمر الله فى ذلك، وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلا عليه، فجعل الله لهما فرجا ومخرجا ورزقهما من حيث لا يحتسبان.
ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا وهو بكره ووحيده الذى ليس له غيره أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته.
ثم عرض ذلك على ولده؛ ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسرًا ويذبحه قهرًا: «قال يا بنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى»؟
فبادر الغلام فقال: «يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين»، قال الله تعالى: «فلما أسلما وتله للجبين»، قيل: أسلما، أى استسلما لأمر الله وعزما على ذلك، و«تله للجبين»، أى: ألقاه على وجهه. قيل: أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهده فى حال ذبحه.
قال السدى وغيره: أمر السكين على حلقه فلم تقطع شيئًا، ويقال: جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس، والله أعلم.
فعند ذلك نودى من الله: «أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا»، أى: قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك، ومبادرتك إلى أمر ربك، وبذلت ولدك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفين، ولهذا قال تعالى: «إن هذا لهو البلاء المبين»، أى الاختبار الظاهر البين.
وقوله: «وفديناه بذبح عظيم»، أى: وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله له من العوض عنه، والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن رآه مربوطا بسمرة فى ثبير، وقيل: رعى فى الجنة أربعين خريفًا. وفى القرآن كفاية عما جرى من الأمر العظيم والاختبار الباهر، وأنه فدى بذبح عظيم.
ويضيف الدكتور مهران: قوله تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ».
أى أدرك أن يسعى معه وبلغ سناً يكون فى الغالب أحب إلى والديه قد ذهبت مشقته وأقبلت منفعته.
وقوله تعالى: «قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ» عبّر بالمضارع، والرؤيا قد انتهت، فلم لم يقل: إنى رأيت؟ قال بعض أهل العلم: كأنّ إبراهيم عليه السلام يشاهد الرؤيا وقت كلامه مع ابنه، فهو يستحضر ذلك وهو يخاطبه، وهذا أهون فى التزام الأمر.
وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وحتى يكون التسليم لأمر الله منهما، والأجر لهما، ولم يستشر ليرد بكلامه كلام ربه! ولذا قال تعالى:»فلما أسلم» فكان التسليم والانقياد منهما.
وفيها أنّ الاستشارة من دأب المرسلين، قال الله تعالى لنبيه محمد: «وشاورهم فى الأمر»، فـ»ماذا ترى» منهج إبراهيمى محمدى نبوى، و«ما أريكم إلا ما أرى» منهج استبدادى فرعونى.
وفيها الرحمة بالأبناء «يا بنى»، والإحسان إلى الآباء «يا أبت».
وفيها أنّ رؤيا الأنبياء حق ووحى من الله، ولهذا قال إسماعيل لأبيه عليهما السلام: «افعل ما تؤمر». قال ابن العربى رحمه الله فى أحكام القرآن:»ورؤيا الأنبياء وحى حسبما بيناه فى كتب الأصول وشرح الحديث؛ لأن الأنبياء ليس للشيطان عليهم فى التخييل سبيل، ولا للاختلاط عليهم دليل، وإنما قلوبهم صافية، وأفكارهم صقيلة، فما ألقى إليهم ونفث به الملك فى رُوعهم، وضرب المثل له عليهم فهو حق، ولذلك قالت عائشة رضى الله عنها: وما كنت أظن أنه ينزل فى قرآن يتلى، ولكن رجوت أن يرى رسول الله رؤيا يبرئنى الله بها».
وقوله:»سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ»
فيه أمران :
الأول: أن كل شيء بمشيئة الله، ولا يقع إلا ما أراد الله، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن .
الثاني: أنّ هذه الكلمة سبب للتوفيق، فبها يتبرأ الإنسان من حوله وقوته، ويجعل الأمر لله وحده، ومن هنا كانت بركتها، ولذلك قال تعالى: «وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا* إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ».
وقوله الذبيح:»افعل ما تؤمر» وإنما أُمر أبوه بأمر واحد، وهو الذبح، وهذا يدل على كما انقياده لأمر الله، فالمعنى: افعل كل ما أمرت به، ولو أمرت بشىء غير الذبح فافعل، لو أُمرتَ بذبحى، وكسر عظامى، وتعليقي، وسلخى.. فافعل ! فما أعظم استسلامه لأمر الله !!
قوله تعالى: «فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ».
وفى الآيات :أنّ إسماعيل عليه السلام فعل ما وعد به من الصبر، ولذا قال تعالى عنه:»وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نبيا».
وأنّ الحكمة من التكاليف هى الابتلاء والامتثال، قال الشنقيطى»: اعلم أن قصة الذبيح هذه تؤيد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول فى حكمه التكليف، هل هى للامتثال فقط أو هى مترددة بين الامتثال والابتلاء؟ لأنه بين فى هذه الآية الكريمة أن حكمه تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هى امتثاله ذلك بالفعل؛ لأنه لم يرد ذبحه كونًا وقدرًا، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرد الابتلاء والاختبار، هل يصمم على امتثال ذلك أو لا، كما صرح بذلك فى قوله تعالى:»إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ»، فتبين بهذا أنَّ التحقيق أن حكمه التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء».
وفيها التخلص من الصوارف عن طاعة الله، فمعنى»وتله للجبين» أكبه على قفاه؛ لئلا يراه، فيرق قلبه ويُصرف عن طاعة مولاه، وهجرته من قبل من الأدلة على ذلك .
وفيها جواز نسخ الحكم قبل التمكن من الفعل.
وفيها أن الأنبياء أشد الناس بلاء، قال عليه الصلاة والسلام:»أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل».
وفيها الفرج بعد الشدة،»فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»، «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْارَجً»، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا». وفيها أنّ فى التزام الطاعة أثرًا كبيرًا فى النجاة من المهالك.
وكان سيدنا إسماعيل بحق هو نبى الاختبارات، اختبارات نجح فيها جميعها باقتدار منبعه إيمانه العميق بالله عز وجل.
الاختبار الأول:
ذكر الله فى كتابه الكريم، ثلاثة مشاهد من حياة إسماعيل عليه السلام. كل مشهد عبارة عن محنة واختبار لكل من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. أول هذه المشاهد هو أمر الله لإبراهيم بترك إسماعيل وأمه فى واد مقفر، لا ماء فيه ولا طعام. فما كان من إبراهيم إلا الاستجابة لهذا الأمر الرباني. وهذا بخلاف ما ورد فى الإسرائيليات من أن إبراهيم حمل ابنه وزوجته لوادى مكة لأن سارة - زوجة إبراهيم الأولى- اضطرته لذلك من شدة غيرتها من هاجر. فالمتأمل لسيرة إبراهيم عليه السلام، سيجد أنه لم يكن ليتلقّى أوامره من أحد غير الله.
أنزل زوجته وابنه وتركهما هناك، ترك معهما جرابًا فيه بعض الطعام، وقليلً من الماء. ثم استدار وتركهما وسار.
أسرعت خلفه زوجته وهى تقول له: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادى الذى ليس فيه شيء؟
لم يرد عليها سيدنا إبراهيم وظل يسير.. عادت تقول له ما قالته وهو صامت.. أخيرًا فهمت أنه لا يتصرف هكذا من نفسه.. أدركت أن الله أمره بذلك فسألته: هل الله أمرك بهذا؟
فقال إبراهيم عليه السلام: نعم.
قالت زوجته المؤمنة العظيمة: لن نضيع ما دام الله معنا وهو الذى أمرك بهذا.
وسار إبراهيم حتى إذا أخفاه جبل عنهما وقف ورفع يديه الكريمتين إلى السماء وراح يدعو الله: «رَّبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ».
لم يكن بيت الله قد أعيد بناؤه بعد، لم تكن الكعبة قد بنيت، وكانت هناك حكمة عليا فى أمر الله لإبراهيم، فقد كان إسماعيل - الطفل الذى تُرِكَ مع أمه فى هذا المكان- ووالده من سيكونان المسئولان عن بناء الكعبة فيما بعد.. وكانت حكمة الله تقضى أن يسكن أحد فى هذا الوادي، ليمتد إليه العمران.
بعد أن ترك إبراهيم زوجته وابنه الرضيع فى الصحراء بأيام نفد الماء وانتهى الطعام، وجف لبن الأم.. وأحست هاجر وإسماعيل بالعطش.
بدأ إسماعيل يبكى من العطش.. فتركته أمه وانطلقت تبحث عن ماء.. راحت تمشى مسرعة حتى وصلت إلى جبل اسمه «الصفا».. فصعدت إليه وراحت تبحث به عن بئر أو إنسان أو قافلة.. لم يكن هناك شيء. ونزلت مسرعة من الصفا حتى إذا وصلت إلى الوادى راحت تسعى سعى الإنسان المجهد حتى جاوزت الوادى ووصلت إلى جبل «المروة»، فصعدت إليه ونظرت لترى أحدًا لكنها لم تر أحدًا. وعادت الأم إلى طفلها فوجدته يبكى وقد اشتد عطشه.. وأسرعت إلى الصفا فوقفت عليه، وهرولت إلى المروة فنظرت من فوقه.. وراحت تذهب وتجيء سبع مرات بين الجبلين الصغيرين.. سبع مرات وهى تذهب وتعود - ولهذا يذهب الحجاج سبع مرات ويعودون بين الصفا والمروة إحياء لذكريات أمهم الأولى ونبيهم العظيم إسماعيل. عادت هاجر بعد المرة السابعة وهى مجهدة متعبة تلهث.. وجلست بجوار ابنها الذى كان صوته قد بح من البكاء والعطش.
وفى هذه اللحظة اليائسة أدركتها رحمة الله، وضرب إسماعيل بقدمه الأرض وهو يبكى فانفجرت تحت قدمه بئر زمزم.. وفار الماء من البئر.. أنقذت حياتا الطفل والأم.. راحت الأم تغرف بيدها وهى تشكر الله.. وشربت وسقت طفلها وبدأت الحياة تدب فى المنطقة.. صدق ظنها حين قالت: لن نضيع ما دام الله معنا.
وبدأت بعض القوافل تستقر فى المنطقة.. وجذب الماء الذى انفجر من بئر زمزم عديدًا من الناس.. وبدأ العمران يبسط أجنحته على المكان.
أما الاختبار الثانى فعندما كبر إسماعيل.. وتعلق به قلب إبراهيم.. جاءه العقب على كبر فأحبه.. وابتلى الله إبراهيم بلاء عظيما بسبب هذا الحب. فقد رأى فى المنام أنه يذبح ابنه الوحيد إسماعيل. وإبراهيم يعلم أن رؤيا الأنبياء وحي.
انظر كيف يختبر الله عباده. تأمل أى نوع من أنواع الاختبار. نحن أمام نبى قلبه أرحم قلب فى الأرض. اتسع قلبه لحب الله وحب من خلق. جاءه ابن على كبر.. وقد طعن هو فى السن ولا أمل هناك فى أن ينجب. ثم ها هو ذا يستسلم للنوم فيرى فى المنام أنه يذبح ابنه وبكره ووحيده.
أى نوع من الصراع نشب فى نفسه؟ يخطئ من يظن أن صراعًا لم ينشأ قط. لا يكون بلاء مبينًا هذا الموقف الذى يخلو من الصراع. نشب الصراع فى نفس إبراهيم.. صراع أثارته عاطفة الأبوة الحانية. لكن إبراهيم لم يسأل عن السبب وراء ذبح ابنه. فليس إبراهيم من يسأل ربه عن أوامره.
فكر إبراهيم فى ولده.. ماذا يقول عنه إذا أرقده على الأرض ليذبحه.. الأفضل أن يقول لولده ليكون ذلك أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قهرا ويذبحه قهرا. هذا أفضل.. انتهى الأمر وذهب إلى ولده (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى). انظر إلى تلطفه فى إبلاغ ولده، وترك الأمر لينظر فيه الابن بالطاعة.. إن الأمر مقضى فى نظر إبراهيم لأنه وحى من ربه.. فماذا يرى الابن الكريم فى ذلك؟ أجاب إسماعيل: هذا أمر يا أبى فبادر بتنفيذه (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). تأمل رد الابن.. إنسان يعرف أنه سيذبح فيمتثل للأمر الإلهى ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده (إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ). هو الصبر على أى حال وعلى كل حال.. وربما استعذب الابن أن يموت ذبحًا بأمر من الله.. ها هو ذا إبراهيم يكتشف أن ابنه ينافسه فى حب الله. لا نعرف أى مشاعر جاشت فى نفس إبراهيم بعد استسلام ابنه الصابر.
ينقلنا الحق نقلة خاطفة فإذا إسماعيل راقد على الأرض، وجهه فى الأرض رحمة به كى لا يرى نفسه وهو يذبح. وإذا إبراهيم يرفع يده بالسكين.. وإذا أمر الله مطاع. (فَلَمَّا أَسْلَمَا) استخدم القرآن هذا التعبير.. (فَلَمَّا أَسْلَمَا) هذا هو الإسلام الحقيقي.. تعطى كل شيء، فلا يتبقى منك شيء.
عندئذ فقط.. وفى اللحظة التى كان السكين فيها يتهيأ لإمضاء أمره.. نادى الله إبراهيم.. انتهى اختباره، وفدى الله إسماعيل بذبح عظيم - وصار اليوم عيدا لقوم لم يولدوا بعد، هم المسلمون. صارت هذه اللحظات عيدا للمسلمين. عيدا يذكرهم بمعنى الإسلام الحقيقى الذى كان عليه إبراهيم وإسماعيل.
عاش إسماعيل فى شبه الجزيرة العربية ما شاء الله له أن يعيش.. روض الخيل واستأنسها واستخدمها، وساعدت مياه زمزم على سكنى المنطقة وتعميرها. استقرت بها بعض القوافل.. وسكنتها القبائل.. وكبر إسماعيل وتزوج، وزاره إبراهيم فلم يجده فى بيته ووجد امرأته.. سألها عن عيشهم وحالهم، فشكت إليه من الضيق والشدة.
قال لها إبراهيم: إذا جاء زوجك مريه أن يغير عتبة بابه.. فلما جاء إسماعيل، ووصفت له زوجته الرجل.. قال: هذا أبى وهو يأمرنى بفراقك.. الحقى بأهلك. وتزوج إسماعيل امرأة ثانية.. زارها إبراهيم، يسألها عن حالها، فحدثته أنهم فى نعمة وخير.. وطاب صدر إبراهيم بهذه الزوجة لابنه.
أما الاختبار الثالث فلا يمس إبراهيم وإسماعيل فقط. بل يمس ملايين البشر من بعدهما إلى يوم القيامة.. إنها مهمة أوكلها الله لهذين النبيين الكريمين.. مهمة بناء بيت الله تعالى فى الأرض.
كبر إسماعيل.. وبلغ أشده.. وجاءه إبراهيم وقال له: يا إسماعيل.. إن الله أمرنى بأمر. قال إسماعيل: فاصنع ما أمرك به ربك.. قال إبراهيم: وتعينني؟ قال: وأعينك. فقال إبراهيم: فإن الله أمرنى أن ابنى هنا بيتا. أشار بيده لصحن منخفض هناك.فاستجاب إسماعيل لأمر أبيه فساعده فى رفع قواعد البيت الذى نطوف حوله من يومها وسنظل نطوف إلى يوم القيامة.