داود..الملك المحبوب يريح القلوب ويذيب الحديد
الثلاثاء، 05 سبتمبر 2017 09:00 ممحمد عبدالحليم
بعد انتقال نبى الله موسى عليه السلام، جمع الله الملك والنبوة ليوشع بن نون عليه السلام بعد دخول بنى إسرائيل بيت المقدس فكان قائدهم الدينى والسياسى، ثم بعد وفاته انفصلت النبوة عن الملك فى بنى إسرائيل.
وتوالت الملوك على بنى إسرائيل، وكذلك الأنبياء، لكن بنى إسرائيل كانوا يقتلون الأنبياء، فسلط الله عليهم الملوك الجبارين فنكلوا بهم تنكيلا عظيما.
ونتيجة طغيان بنى إسرائيل أضاعوا التابوت الذى كان يحوى متعلقات موسى وهارون عليهم السلام، مما جعل الهزائم تتوالى عليهم، وفى أحد الأيام ذهب رهط منهم إلى نبى لهم يقال له شمويل عليه السلام- كما ذكر ابن كثير فى البداية والنهاية-، ودار بينهم هذا الحوار:
سألوه: ألسنا مظلومين؟
قال: بلى..
قالوا: ألسنا مشردين؟
قال: بلى..
قالوا: ابعث لنا ملكا يجمعنا تحت رايته كى نقاتل فى سبيل الله ونستعيد أرضنا ومجدنا.
قال نبيهم وكان أعلم بهم: هل أنتم واثقون من القتال لو كتب عليكم القتال؟
قالوا: ولماذا لا نقاتل فى سبيل الله، وقد طردنا من ديارنا، وتشرد أبناؤنا، وساء حالنا؟
قال نبيهم: إن الله اختار لكم طالوت ملكا عليكم.
قالوا: كيف يكون ملكا علينا وهو ليس من أبناء الأسرة التى يخرج منها الملوك -أبناء يهوذا- كما أنه ليس غنيا وفينا من هو أغنى منه؟
قال نبيهم: إن الله اختاره، وفضله عليكم بعلمه وقوة جسمه.
قالوا: ما هى آية ملكه؟
قال لهم نبيهم: يسترجع لكم التابوت تحمله الملائكة
فظهر طالوت وهو أول ملك لمملكة بنى إسرائيل الموحدة، وظهر التابوت وعادت إليهم التوراة، وكون جيشه وذهب لقتال جالوت وجنوه.
لكن فى الطريق ألهم الله طالوت بامتحان لجنوده، فلما مروا على نهر فى الطريق، قال: فمن شرب منه فليخرج من الجيش، ومن لم يذقه وبل ريقه فقط فليبق معى فى الجيش، وكان الغرض أن يعرف من يطيعه من الجنود ومن يعصاه، وليعرف أيهم قوى الإرادة ويتحمل العطش، وأيهم ضعيف الإرادة ويستسلم بسرعة.
فسقط أغلب الجيش فى الامتحان ولم يبق إلا قليلا، ويقال إنه بقى 313 رجلا فقط- وهو عدة أهل بدر الذين ثبتوا مع النبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فى آخر الزمان-، ودارت المعركة بين بنى إسرائيل والقوم الجبارين، وقف جالوت ملك الجبارين شامخا فى وسط المعركة لا يهمه أحدا، مستعدا لأن يهزم بنى إسرائيل الذين طالما هزمهم قومه، وكان مقاتلاً شرسًا يخشى بنو إسرائيل مقاتلته.
فى المقابل كان بنو إسرائيل واقفين خلف ملكهم طالوت يسمعون طلب جالوت للمبارزة فيرتجفون ولم يخرج منهم أحد.
حاول طالوت تحميسهم فقال: من يقتل جالوت يصير قائدا على الجيش. فلم يخرج أحد. فزاد: سأزوجه ابنتى. فلم يخرج أحد أيضًا.
لكن لم تمر سوى لحظات حتى خرج راعى غنم صغير قصير، أزرق العينين، قليل الشعر، من وسط الجيش، لم يحمل سوى عصى و5 أحجار ونبلة، فما أن رآه جالوت الذى كان مدججًا بالسلاح والدروع، حتى سخر منه وسخر جنوده، لكن راعى الغنم الصغير أمسك نبلته ووضع حجرًا وأطلقه فأصاب جالوت فقتله.
كان هذا المشهد الذى لم يستمر إلا لحظات قصيرة، أيقونه النصر، فتقدم جيش طالوت على جيش جالوت الذى أصابه الارتباك بعد مقتل قائده، فانتصر بنو إسرائيل.
وبعد المعركة هرع بنو إسرائيل إلى الراعى الصغير، وسألوه من أنت؟. قال: داود بن إيشا- حفيد يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام-، فخلعوا طالوت ونصبوا داود ملكًا.
تولى داود ملك بنى إسرائيل بجانب النبوة، وأنزل الله عليه كتابه المقدس «الزبور»، فكان ملكًا نبيًا مثل يوشع بن نون، وهو ثانى ملوك المملكة الموحدة بعد طالوت، ومعنى اسم داود أو داؤود فى العبرية «المحبوب».
وذلك اتساقا مع الخط الإلهى فى تسمية الأنبياء، فلكل نبى نصيب من اسمه، فكما كان معنى اسم إبراهيم «الأب الحكيم»، فكان أبو الأنبياء، وكما كان معنى إسماعيل «سمع الله»، فكان تلبية لدعوة أبيه، وكذلك كان معنى إسرائيل (إسحق) جند الله، فكان جندا من جنود، وقد فطن السيد عبد المطلب جد النبى محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، فقال وقت ولادته: «سميته محمدًا ليكون محمودًا فى الأرض وفى السماء».
أخذ داود نصيبه من اسمه، فكان محبوبًا بين قومه، ولم يكون الأمر متعلقًا بالبشر فقط، فقد منحه الله صوتًا جميلاً، جعل من حلاوته الطير والجبال تردد خلفه، فكان صوته من أحب الأصوات إليها.
يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ).
نقل ابن كثير فى البداية والنهاية قول عبد الله بن عباس رضى الله عنه: وهب الله داود من الصوت العظيم ما لم يعطه أحدا، بحيث إنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه، يقف الطير فى الهواء، يرجع بترجيعه ويسبح بتسبيحه، وكذلك الجبال تجيبه، وتسبح معه، كلما سبح بكرة وعشيا، صلوات الله وسلامه عليه.
وقال الأوزاعى أعطى داود من حسن الصوت ما لم يعط أحد قط، حتى إن كان الطير والوحش ليعكف حوله حتى يموت عطشا وجوعا، وحتى إن الأنهار لتقف.
وقال وهب بن منبه كان لا يسمعه أحد إلا حجل كهيئة الرقص، وكان يقرأ الزبور بصوت لم تسمع الآذان بمثله، فيعكف الجن والإنس والطير والدواب على صوته حتى يهلك بعضها جوعا
والآن الله فى يديه الحديد، حتى قيل إنه كان يتعامل مع الحديد كما كان الناس يتعاملون مع الطين والشمع.
قبل داود كانت الدروع الحديدية التى يصنعها صناع الدروع ثقيلة ولا تجعل المحارب حرا يستطيع أن يتحرك كما يشاء أو يقاتل كما يريد، فقام داود بصناعة نوعية جديدة من الدروع، درع يتكون من حلقات حديدية تسمح للمحارب بحرية الحركة، وتحمى جسده من السيوف والفئوس والخناجر.
وكان قاضيا عظيما يفصل فى القضايا بأحكام فاصلة لم يسمع الناس عنها من قبل، ودعا الله فوهبه ابنه سليمان ليكون عونًا فى الملك والنبوة، وروى القرآن قصتهما مع الراعى والمزارع الذين اختلفا فأواى إليهما، ففصل داود فى حكمهما وأضاف سليمان حكما جديدا.
فكان داود نبيا ملكا قاضيا صانعا، وهبه الله ما يؤهله لخير الدين والدنيا.
وكان داود لا يأكل إلا من عمل يديه ويصوم يوما ويفطر يوما، قال رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: «أفضل الصيام صيام داود. كان يصوم يوما ويفطر يوما. وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتا، وكانت له ركعة من الليل يبكى فيها نفسه ويبكى ببكائه كل شىء ويشفى بصوته المهموم والمحموم».
عرض الإمام أحمد بن حنبل قصته موته فى مسنده عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كان داود النبى فيه غيرة شديدة، وكان إذا خرج أُغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحد، حتى يرجع، قال: فخرج ذات يوم وغلّقت الدار، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن فى البيت: من أين دخل هذا الرجل الدارَ والدارُ مغلقة؟! والله لتفتضحن بداود، فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود: من أنت؟ قال: أنا الذى لا أهاب الملوك، ولا يمتنع منى شيء، فقال داود: أنت والله ملك الموت، فمرحبًا بأمر الله فقبضت روحه فى مكانه».
روى ابن كثير فى البداية والنهاية عن ابن عساكر: أن ملك الموت جاءه وهو نازل من محرابه، فقال له: دعنى أنزل أو أصعد . فقال: يا نبى الله قد نفذت السنون والشهور والآثار والأرزاق، قال : فخر ساجدا على مرقاة من تلك المراقى، فقبضه وهو ساجد.
وقال وهب بن منبه: إن الناس حضروا جنازة داود عليه السلام ، فجلسوا فى الشمس فى يوم صائف، وشيع جنازته يومئذ أربعون ألف راهب، عليهم البرانس، سوى غيرهم من الناس ، ولم يمت فى بنى إسرائيل - بعد موسى وهارون - أحد كانت بنو إسرائيل أشد جزعا عليه منهم على داود، فتعبوا من الحر، فنادوا سليمان عليه السلام ، أن يعجل عليهم لما أصابهم من الحر ، فخرج سليمان فأمر الطير فأظلت الناس.. فكان ذلك أول ما رأوه من ملك سليمان عليه السلام. وبذلك غادر داود المحبوب من البشر والجن والحيوانات والجبال أرض الدنيا ليلتحق بإخوانه الأنبياء فى عالم البرزخ انتظارا للقاء ربهم، واطمئن على بنى إسرائيل بأن خلف عليهم ابنه سليمان عليهما وعلى رسل الله أجمعين الصلاة والسلام.