سكان «عين الصيرة» في مصر القديمة.. حكايات من بين الشقوق: تحت الأرض ولسه بنحلم (فيديو وصور)
السبت، 26 أغسطس 2017 01:30 م
بعيدا عن كل الأعين تحتفظ الجدران المتلاصقة فى الحوارى والأزقة فى مصر القديمة بأسرار ساكنيها وآهاتهم، لكن بين الجدران والجدران تتسع «تشققات»، لبنى آدمين من لحم ودم، بشر لا يملكون من قوت يومهم سوى القليل وكثير من قلة الحيلة، بنايات يطلقون عليها اسم بيوت لكنها أبعد ما تكون عن أى مسمى سوى «تشققات» يعيشون فيها، تقودك إليها ممرات لا يعرف مداخلها ومخارجها وإلى أين تؤدى سوى من يسكنها، لا تتجاوز مساحاتها عن نصف متر بالكاد تسع لشخص واحد للمرور بينها، أو طفلان يلعبان بكومة قمامة أو بعض الحجارة.
كاميرا «صوت الأمة»، تجولت بالمنطقة، فكانت حكايات سكان الشقوق، على بعد مسافة لا تتجاوز نصف ساعة سيرا على الأقدام من حى مصر القديمة، وبالتحديد بعد محطة أتوبيس عين الصيرة، يمكنك أن تترجل حتى مقهى عمر عبد العال، أو مدبغة محمد صابر، هناك لا بد أن يرافقك أحد سكان المنطقة لمقصدك لأنه لا يمكنك المرور أو الدخول دون معرفة سبب تواجدك بالمنطقة ومن تقصد للزيارة، وإن كنت جئت لتلبى دعوة سيدة مسنة تحتاج سريرا لتنام عليه، وقتها فقط يمكنك الدخول، أو إن كنت تسأل عن أسرة تعيش داخل منزل مهدد بالانهيار بين لحظة وأخرى، أيضا يمكنك أن تقابل وتسمع الكثيرين.. ينتظرون بين لحظة وضحاها وقوع كارثة بانهيار أحد المنازل على أصحابها ولا أحد يبالى.
أول مشهد سيقابلك لن تنساه ما حييت حجارة متناثرة وبيوت مهدمة وطرقات وأزقة ضيقة وبنايات يطلقون عليها اسم بيوت في طريقها إلى السقوط وقمامة منتشرة وكلاب وقطط وأطفال ونساء تجلسن خارج بيوتهن مع بعضهن البعض هربا من الغرف التي تضم أكواما من اللحم ورجال وشباب يعملون فى كل المهن «صنايعية ودباغين وملاحين»، كلها صناعات مرتبطة بصناعة دباغة الجلود، المنازل لا ترتفع لأعلى وإنما تحت الأرض عليك أن تنزل 5 أو 6 أمتار تحت الأرض لتدخل أى منزل.
الطريق من الشارع الرئيسى، وكلما تعمقت داخل المنطقة لن ترى سوى وجوه مرتابة منك، وأعين تطاردك، قد يفاجئك أحد شباب المنطقة بصوت متجهم وخشن يسألك «أنت مين وجاى هنا ليه؟»، تستمع دون قصد لشاب يراود فتاة عن نفسها وتنهره بأبشع الألفاظ الخارجة، وتجد فجأة باب أغلق فى وجهك بقصد.
كانت إحدى النساء، وهى «محروسة إ»، أو «أم أحمد»، كما يناديها نساء المنطقة هى مدخلنا للمنطقة لمعاينة المنزل الذى تعيش فيه وآيل للسقوط لم نكن نعلم أنه ليس منزل وإنما شق بارتفاع ثلاثة أدوار يضم بينه 4 أسر يصل عددهم لـ 23 شخصا ما بين طفل وسيدة ومسن.
وبمجرد وصولنا لشارع جبرا ظريفة، وهو اسم صاحب أقدم مدبغة فى منطقة المدابغ، وقفت النساء بالمنطقة كل واحدة منهن تخبرنا أن البيت الذى تسكنه هو أيضا آيل للسقوط، وإن كل بيوت المنطقة تسند بعضها وكلها «شروخ».
وهنا خرجت سيدة عجوز تدعى «سعدية»، ووقفت قليلا صامتة، وفجأة تلعثمت بالكلام، وقالت: «عايشة لوحدى فى البيت اللى مبسكنوش إلا الأشباح بالليل والنهار والحيطان كلها متشققة زي الأرض العشطانة»
ثم بصوت منخفض ووجه متذمر قالت: «مش قادرة أعيش فى البيت ومش عندى قدرة أعيش فى مكان بعيد عشان صحتى متستحملش.. أنا بموت من الرعب خايفة البيت يقع وأموت تحت الأنقاض مش عايزة إلا سرير أنام عليه».
بعدها وقف الجميع يترقب ماذا سنقدم لهم، ثم اصطحبنا أكبرهم سنا وهو «جابر س»، 65 عاما، وهو يروى بدموعه كيف يقتطع من قوت يومه ويرمم الشرخ الذى يزداد يوما بعد الآخر، ويحلفنا بأن نتوسط له فى حى مصر القديمة الذى يسميه حى «السعودى»، كى يرمم له المنزل الذى يحميه هو وبناته وأولاد العشرة من العراء.
يفاجئك الظلام الدامس بمجرد دخولك للمنزل، رغم أننا فى وضح النهار وتقودك درجات متهالكة لأعلى فلا تفزع إن رأيت سيدة تضع قدمها على السلم والأخرى داخل دورة المياه وهى تغسل بعض ملابس ابنها أو زوجها فى طبق بلاستيك تضعه فوق فتحة الحمام الذى لا يتجاوز طوله وعرضه نصف متر يربط بين الثلاثة أدوار الذى يسكن فيه 23 شخصا، رائحة العطب داخل البيت، تؤكد لك أن آخر شىء ممكن أن يصل إليه هو الشمس».
من الطايق الثالث، كشف لنا «عم جابر»، عن بداية «الشرخ» الذى توسع حتى وصل عرضه أكثر من 15 سم بارتفاع 3 أمتار للسقف، وامتد لأسفل، ليشق البيت بالطول حتى وصل للدور الأول ولم يكتفِ الشق فى أن ينهش المنزل بالطول، ولكنه أيضا امتد بطول سقف وأرضية الغرفة والجانب الآخر من الغرفة ليصبح المنزل معلق على العروق الخشبية.
من غرفة داخل غرفة، «لملمت أم أحمد»، أثاث شقتها فى أحد الأركان واستخدمت الملابس البالية لسد الشرخ الذى يزيد يوما بعد الآخر حتى أصبح بمثابة شق كبير ترى منه المدبغة المجاورة لها وتسمع عماله كأنهم معها فى نفس المنزل.
سكان «عين الصيرة» في مصر القديمة.... by sout-alomma1
وقف «عم جابر»، يحكى حكايته مع حى مصر القديمة، منذ عامين وقت ظهور «الشرخ» فى البيت، وهو يخرج بيده المشمع والقماش الذى يسد به الفجوة التى أحدثها الشق فى الحائط ولم يفلح معها الأسمنت فى الثبات عليها، فكلما زاد الشق نفر الأسمنت ووقع، قائلا وهو منهار في البكاء: «بقالى سنتين رايح جاى عليهم وعملت محضر، ومحدش سأل فيا، نشف ريقى معهم عشان يعاينوا المنزل أو يرمموه، لكن ودن من طين وودن من عجين ومش قادر أسيب البيت أروح فين أنا وكوم اللحم اللى فى رقبتى.. ربنا هو صاحب التصريف هو يسترها طالما الضعيف منداس».
الوضع لا يختلف من الطابق الثالث للثانى، وإنما لجأت «هانم إ»، زوجة شقيق «عم جابر»، فى تعليق ستاره بطول وعرض الحيطة لتدارى بها «الشرخ» الذى بدأ يتشعب فى الحيطة الأخرى تروى قصتها هى و8 أفراد زوجها وبناتها وابنها، وأنهم لا يملكون من حطام الدنيا سوى هذه الجدران، وحال سقوطها سيكون الشارع مأوى لهم، مكتفية بكلمة «حرام اللى إحنا فيه دا مايرضيش ربنا».
وفى الدور الأول، جلست زوجة «عم جابر» وبناتها وزوجات أبنائها العشرة ترتب الحجرة قائلة: «والله احنا كويسين بس هنعمل إيه قلة الحيلة الراجل كان شغال فى المدابغ والبيت دا اللى طلعنا بيه من الدنيا ولو جالنا قرش من باب الله بنحطه فى البيت والعيال بتقوم مرعوبة بليل من الخوف لو سمعوا صوت خايفين إن البيت يكون بيقع».