القطاع العام والامن القومي المصري

الأربعاء، 02 أغسطس 2017 02:01 م
القطاع العام والامن القومي المصري
إيهاب عمر يكتب:

يعرف كل خبير اقتصادي (حقيقي) انه في عالم الاقتصاد لا يوجد الصحيح المطلق والخطأ المطلق، وانه كل دولة في العالم لا تأخذ أي نظام او فكرة سياسية بحذافيرها وتطبقها، بل تقوم كل دولة بل وكل شركة عابرة للقارات ومتعددة الجنسيات بدمج بعضا من الأفكار والنظم والمناهج الاقتصادية لتحقق عبر هذا الدمج الحفاظ على امنها القومي او الصناعي او الاقتصادي.
 
ويمكن القول انه ألف باء امن قومي في أي بلد حقيقي في العالم، أنك تنتج كل ما تحتاجه حتى لو كان متوفراً في دول او أسواق اخري، ويرجع ذلك الى انه حال اعتمادك على الاخرين في تلبية احتياجاتك، فأن الاخرون يمكن ان يصبحوا جزءاً من المؤامرة الدولية في أي وقت، فلا يعقل ان تمتلك معلومات مؤكدة حول تآمر دولة ما حيالك من اجل تكرار سيناريوهات العراق 2003 او سوريا وليبيا 2011 ثم تعتمد عليها في استيراد أي شيء.
 
والحاصل انه حينما تطورت النظم الاقتصادية واصبح للدول الكبرى فائض في الإنتاج يجب ان تقوم ببيعه في أسواق اخري، لجأت الدول الكبرى الى استعمار الدول الصغرى وتحويلها الى أسواق لهذه البضاعة، او تحويلها الى دول فاشلة حتى تتوقف عن انتاج احتياجاتها وبالتالي تصبح دول مفتوحة امام فائض انتاج الدول الكبرى، ومن اجل تعزيز هذه الرؤية الاستعمارية تم ابتكار نظم اقتصادية سميت الليبرالية الاقتصادية ثم النيوليبرالية، تلك التي تنص على فتح الدول لكل من هب ودب من استثمار اجنبي على حساب الصناعة الوطنية، بل و تربية أجيال من المتأمركين الذين ينظرون الى مصطلح الصناعة الوطنية بحساسية كأنه فكر بغيض لا يليق بالوجاهة الاجتماعية التي يحاول المتآمرين ان يتسولوا إياها من اصدقائهم الأجانب.
 
وكانت رؤية الرئيس الراحل أنور السادات عشية النسخة الاولي من برنامج الإصلاح الاقتصادي عام 1977، انه يجب تحصين القطاع العام والقوات المسلحة، لاستمرار وجود صناعة محلية بيد الدولة قادرة على الحفاظ على الامن القومي الصناعي والاقتصادي، وانه مهما اغرقت العولمة الامريكية الأسواق المصرية بمنتجاتها، فأن عصا المايسترو لهذا السوق المفتوح سوف تكون بيد الدولة وجيشها.
 
ولكن احداث يناير 1977 افقدت الدولة عصا المايسترو، ثم أتت سياسات شلة التوريث ما بين عامي 1999 و2011 لتفتح الباب امام هيستريا استيراد لكل شيء، وانه الشعب المصري غير مؤهل لإنتاج أي شيء، وتم بيع شركات القطاع العام ببخس الثمن استغلالاً لديونها التي لم تحدث الا لنتيجة فشل الحكومة في ادارتها، أي ان الدولة وقتذاك كانت تعاير الشعب بفشل الدولة في إدارة شركاتها وكان المفروض هنا ان يتحمل الشعب فاتورة هذا الفشل وان يلوم نفسه على فشله في إدارة القطاع العام!
 
وتم الغاء وزارة قطاع الاعمال العام، وهي الوزارة المسؤولة عن إدارة القطاع العام، وتم نقل شركات القطاع العام الى وزارة تنمية الاستثمار.
ولا يخفى على أحد ان كافة تلك التفاصيل مخلة بالأمن القومي المصري تحديداً، فمصر منذ فجر تاريخها دولة مركزية لا يمكن ان تعتمد على القطاع الخاص او الاستيراد فحسب في تلبية احتياجاتها، بل يجب ان يكون هنالك شركات مملوكة للدولة المصرية هي من تقوم بهذا الدور، وحتى القطاع العام او الرأسمالية الوطنية يجب ان تكون تحت رعاية الدولة بشكل او باخر.
 
ولعل أكبر دليل على اتساق هذه الرؤية بتاريخ مصر هو ما جرى عقب يناير 2011، حيث صمد الاقتصاد المصري والسوق المصري ليس بسبب القطاع الخاص الفاشل او هوس استيراد كل شيء، ولكن بسبب وجود مؤسسات اقتصادية قوية تابعة للقوات المسلحة، نذكر منها: الهيئة الهندسية، هيئة الإمداد والتموين، جهاز الخدمات العامة، جهاز الصناعات والخدمات البحرية، جهاز النقل العام، جهاز مراقبة وضمان الجودة، جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، جهاز مشروعات الأراضي، بالإضافة الى كافة أجهزة وزارة الإنتاج الحربي والهيئة العربية للتصنيع.
 
كان يفترض ان يكون درع الامة المصرية في هذه الظروف هو القطاع العام وليس القطاع الاقتصادي للجيش، الذي يعد خط الدفاع الأخير عن مصر وليس الأول في المجال الصناعي والاقتصادي، ولكن لان السياسات النيوليبرالية في سنوات التوريث نفذت اجندة أمريكية في تكبيل ايدي الدولة المصرية وتجريدها من جناحها الصناعي والخدمي، تقدمت القوات المسلحة الصفوف وقدمت كنزاً صناعياً واقتصادياً حمى الدولة المصرية من سيناريوهات ليبيا وسوريا والعراق واليمن وحتى تونس.
 
ومع تعافى الدولة المصرية على وقع ثورة 30 يونيو 2013، ثم تولى الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم في يونيو 2014، كان لازماً ان يتم توصيف القطاع العام بما يليق، وبالفعل عادت وزارة قطاع الاعمال العام في التعديل الوزاري خلال مارس 2016، ولكن الغريب ان هذا التعديل شهد تصعيد لانصار سياسات اليمين النيوليبرالي على حساب اليمين القومي الذى صنع وقاد ثورة يونيو 2013، ما جعل المراقبين عاجزين عن فهم الإشارات المتناقضة، فهل القطاع العام نجا من تسونامي الخصخصة سواء بالبيع المباشر عن المزادات والصفقات او البيع عبر البورصة وذلك بطرح 49 % و ربما 100 % من أسهمه للبيع في البورصة.
 
وخلال المؤتمر الوطني الدوري الرابع للشباب بالإسكندرية، صعد للمنصة للمرة الاولي وزير قطاع الاعمال العام الدكتور أشرف الشرقاوي، وقدم محاضرة راقية عن أحوال القطاع العام عقب عودة الوزارة.
 
في بادئ حديثه أشار الشرقاوي الى الفارق ما بين القطاع العام والجهاز الإداري للدولة، وذلك لان البعض يتصور ان بعض المصالح الحكومية التابعة للدولة مثل السجل المدني والتجاري والجوازات هي قطاعات يمكن مستقبلاً ان يتم خصخصتها يوماً ما من اجل التخلص من مشاكلها الإدارية، علماً – وعن تجربة شخصية – ان هذه القطاعات بدورها قد تحسنت وتخلصت من مشاكل بيروقراطية جمة وذلك في السنوات الأخيرة رغم الاحداث المؤسفة التي مرت بها البلاد.
وأشار الشرقاوي الى ان القطاع العام ما هو الا شركات خاصة مملوكة للدولة وليس مصلحة حكومية، ثم وصل الى بيت القصيد، الا و هو انه منذ عودة الوزارة في مارس 2016، و تحديداً خلال العام المالي 2016/2017 حقق القطاع العام للمرة الاولي منذ عشر سنوات على الأقل فائض من الأرباح، كفل للقطاع العام تحقيق الاكتفاء الذاتي من المرتبات دون تحميل ميزانية القطاعات الأخرى من الدولة هم مرتبات موظفي القطاع العام بالإضافة الى توفير فائض الأرباح لخزينة الدولة او تحت تصرف الموازنة العامة، وكافة ما سبق لم يحدث في مصر منذ عشر سنوات على الأقل، ولكنه حدث في اقل من عام ونصف من عودة الوزارة المعنية بإدارة القطاع العام.
 
والقطاع العام في بلادنا يتألف من 8 شركات قابضة تضم بدورها 121 شركة، تضم ما لا يقل عن 45 شركة لا تحقق أرباح ولكن في طريقها للتعافي، ما يعني انه في المستقبل فان القطاع العام سوف يصبح من رؤوس الحربة التي تقدم إيرادات يعتمد عليها في الموازنة المصرية.
 
وكنت جالساً في الصفوف الخلفية مع عدداً من شباب المؤتمر، وتلفت حولي لأرى الدهشة على وجوههم، وقد تسال البعض بصوت مسموع في حدود مجلسه عن السبب في عدم الكشف عن هذه المعلومات منذ نهاية العام المالي، او عدم صعود الوزير الشرقاوي لمنصات الصحافة والاعلام بالشكل اللائق كما ينبغي طالما الوزير مسلحاً بهذه الأرقام المبشرة، ورغم نفحة الأمل التي تلقيتها سواء من كلام الوزير او تجاوب الشباب، ولكني توقعت ان الاعلام لن يعطي هذه الكلمة القدر الكافي من الاهتمام.
 
وبالفعل حينما راجعت النشرات الإخبارية ليلتها او الصحف اليومية في اليوم التالي، وجدت عبوراً عابراً لكلمة الوزير الشرقاوي وعرضه الموثق بأرقام ومؤشرات عرضت في فيلم بث عبر شاشة ضخمة خلف الوزير وهو يتحدث من المنصة في وجود الرئيس عبد الفتاح السيسي.
 
والقطاع العام Public sector ليس طقساً اشتراكياً او شيوعياً او يسارياً كما يعوي المهرطقين، بل هو جزء من كل دولة في العالم، في فرنسا هنالك وكالة المشاركة الفرنسية Agence des participations de l'État تدير القطاع العام الفرنسي، اما في الدول الرأسمالية الأخرى فأن كل وزارة تمتلك عدداً من الشركات، ففي بريطانيا تمتلك الدولة شركة ناتس القابضة NATS Holdings Limited التي تسيطر على النقل الجوي في عموم بريطانيا سواء المطارات او بعض الشركات والشحن والمراقبة بالإضافة الى وجود افرع اخري للشركة خارج الأراضي البريطانية ابرزها فرع دبي.
 
كما تملك الحكومة البريطانية عدداً من البنوك التي رفضت خصخصتها مثل البنك الملكي للمجموعة الأسكتلندية Royal Bank of Scotland Group، اما أكبر شركة للمنتجات الغذائية في ايرلندا التابعة لبريطانيا هي مجموعة جرين كور Greencore Group plc المملوكة للحكومة الأيرلندية.
 
وفى النمسا هنالك جهاز حكومي لإدارة الشركات المملوكة للدولة او القطاع العام النمساوي هو جهاز الدولة النمساوية للصناعات القابضة Österreichische Industrieholding تابع مباشرة للمستشار النمساوي.
 
اما الولايات المتحدة الامريكية معقل الرأسمالية، فتضم الوكالة الفيدرالية الامريكية للخدمة المدنية United States federal civil service وهي الوكالة المسؤولة عن شئون القطاع العام والجهاز الإداري للدولة معاً بحسب نص مرسوم تأسيسها الذي صدق عليه الكونجرس الأمريكي في القرن التاسع عشر.
 
وبمناسبة ذكر أمريكا، فأن الحكومة الامريكية تتضمن وكالة المساعدات الفيدرالية Administration of federal assistance in the United States وهي وكالة حكومية مسؤولة عن تقديم الدعم للشعب، عبر تقسيمه الى فئات بحسب الدخل، وتقدم الحكومة الامريكية – معقل الرأسمالية دعماً مالياً مثل اعانة بطالة او تسهيلات في السداد العقاري وصولاً الى تمويل بعض المشاريع الفنية والثقافية.
 
وبالتالي فأن المحدثين او انصاف المتعلمين الذين يرددون ان القطاع العام او الدعم هي طقوس اشتراكية يسارية هم جوقة من الجهلة، فهذا فكر اقتصادي عام، ولكن له طرق اشتراكية او رأسمالية لتنفيذه مثل كافة أفكار النظم الاقتصادية.
 
والطريف ان المناديين بتصفية القطاع العام المصري هم المرحبين باقتصاد الجيش، رغم انه اقتصادياً كلا النمطين هم فكر اقتصادي واحد، الا وهو اقتصاد مملوك للدولة، ولكن هكذا المصريون بكل اسف، نأخذ أسوأ نسخ الديموقراطية والثورة والليبرالية والعلمانية والاشتراكية والرأسمالية ثم نظن أنفسنا قد وصلنا الى العالمية، لذا لا عجب ان نرى تأوهات رأسمالية في مصر من انصاف متعلمين لا نراها في اعتي الأنظمة الاقتصادية.. قالها الشهيد فرج فودة عام 1983:"أكثر الدول رأسمالية لا تفعل ما نفعله في مصر".
 
ختاماً ان الدولة المركزية المصرية أقدم دولة عبر التاريخ ليست محل اختبار رأسمالي او اشتراكي فجميع دول العالم تختار ما يناسبها من كافة المدارس الاقتصادية ولا تلتزم بفكر اقتصادي واحد، وان وجود قطاع صناعي قوي للدولة المصرية تحت مسمي القطاع العام يوفر لها احتياجاتها ويحمي "الاستقلال الاقتصادي" هو خط الدفاع الأول لتثبيت اركان الدولة المصرية بعد ان نجحنا في تجنب مؤامرات الوقوع في سيناريو الدولة الفاشلة على وقع الربيع العربي، وان هذا المطلب شديد الاتساق بالأمن القومي لا يعد باي حال من الأحوال كلاماً يسارياً او اشتراكياً بل هو في صلب اليمين القومي والقومية المصرية الداعية للتخلص من الوصاية الأجنبية بكافة اشكالها عن الشعب المصري.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة